في بحر سنوات محدودة نجحت منصات التواصل الاجتماعي أن تحتل موقعا مركزيا في حياتنا الاجتماعية بل والشخصية أيضا، ولا شك فيما توفره لنا من مزايا مثل التواصل المستمر مع دائرة واسعة من الأقارب والأصدقاء، وهو أمر لا يستهان به في ظل مشاغل الحياة الحديثة، ومع اغتراب ملايين المصريين داخليا وخارجيا. كما تسهل هذه المنصات تنظيم اللقاءات بأشكالها الاجتماعية والمهنية، وتتيح لكل منا فرصة للتعبير عن آرائه ومشاعره، والتفاعل مع آراء ورؤى مغايرة لم يكن مدركا لها، والحصول على المعلومات بطريقة سهلة، فضلا عن أنشطة الترويج بأشكالها التجارية والشخصية.
لكن كشأن الوسائل والأدوات بأنواعها يتطلب استخدامها حدا أدنى من الوعي، وإلا انقلبت مزاياها عيوبا، بل ومخاطر، ولذلك على من يستخدم هذه الوسائل أن يكون مدركا لعدة ملاحظات أساسية، وقادرا على التعامل الواعي مع تبعاتها.
الملاحظة الأولى التي على أي مستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي أن يدركها أن هذه المنصات لم توجد لغرض خيري أو كخدمة مجتمعية، وإنما هي مشروعات تجارية هادفة للربح. ونظرا إلى أنها لا تطلب اشتراكا ماليا من المستخدم، فكيف تحقق تلك الأرباح الطائلة التي وضعتها ضمن أهم الشركات العالمية من حيث القيمة السوقية؟ وما السلعة التي تبيعها؟ السلعة ببساطة هي المستخدم ذاته، أو للدقة، بياناته وآراؤه وميوله وتفضيلاته وذائقته الشخصية، وهي المعلومات التي تخزن وتفرز بواسطة برامج معلوماتية ذكية لرسم صورة بالغة الدقة عن شخصية المستخدم، بغرض زيادة فاعلية الإعلانات التي توجه إليه.
وعلى كل مشترك في الفيسبوك على سبيل المثال أن يوقع بالموافقة على شروط الموقع كافة قبل أن تخصص له صفحته، لذلك لا جدوى من ان ينشر فقرات منقولة تفيد بعدم قبوله لأن يجمع الفيسبوك بيانته أو أن يحدد كيفية التصرف فيها، كما لا يعقل أن ينشر معادلة خزعبلية على أمل أن تمنع ظهور الإعلانات على صفحته، والتي في الحقيقة ليست ملكا له بل للمنصة، وتستطيع إدارة فيسبوك أن تجمدها أو توقفها دون أن تستأذنه. وانتشار مثل هذه الفقرات والمعادلات على صفحات المستخدمين، وتناقلها من واحد للآخر، لأبلغ دليل على عدم إدراكهم لقواعد المنصة التي ينشرون عليها طواعية أدق تفاصيل حياتهم. فمن كان غيورا على بياناته الشخصية، أو متبرما من سيل الإعلانات التي تحاصره، فالأجدر به ألا يشترك في فيسبوك والمنصات الأخرى، وألا يستخدم خاصية البحث على النت أصلا.
والملاحظة الثانية إن المعلومات المتداولة في تلك المنصات ليست بالضرورة صحيحة أو دقيقة، بل قد يكون هدفها التضليل، إما لأغراض فردية أو تجارية ضيقة، أو في إطار حملات ممنهجة للتأثير على الرأي العام. وفي هذا الزمن الذي يتعرض كل منا فيه لسيل لا ينتهي من المعلومات، علينا الانتباه إلى المصدر قبل الاطلاع على أي معلومة، والاعتماد على المصادر ذات المصداقية دون غيرها.
الملاحظة الثالثة إننا جميعا نميل إلى انتقاء الأصدقاء الذين يتوافقون معنا في الأيديولوجية والرأي، وهو ما تسهله بل تشجع عليه الخوارزميات أو البرامج المشغلة لمنصات التواصل الاجتماعي، وهكذا توجد ظاهرة "غرف الأصداء"، وهي فقاعات افتراضية تؤكد لنا صحة ورصانة آرائنا مهما كانت خاطئة أو متطرفة، بل توهمنا بأن هذه الآراء تحظى بتوافق عام، وأنه من ثم لا يوجد مبرر عقلاني أو أخلاقي للاختلاف معها. وخطورة هذه الظاهرة إنها تشجع التطرف في الرأي والحدة في الحديث، وتحد من انتشار التسامح وقبول الآخر، وتتسبب على المستوى العام في استقطاب متصاعد قد يؤدي إلى شروخ اجتماعية خطيرة.
الملاحظة الرابعة تتعلق بتحرر مستخدمي التواصل الاجتماعي من كثير من المعايير المتفق عليها اجتماعيا. وفي الوقت الذي نحتاج فيه بالفعل إلى مزيد من الحرية في النطاق العام، فعلينا الحذر من سرعة انتشار السلوكيات السلبية، مثل الاستعداد للتضحية بعلاقات إنسانية بنيت على مدار سنوات لأتفه الأسباب، وعدم تقبل النقد أو حتى الاختلاف في الرأي وتحويل خاصية "بلوك" إلى مزاج عدواني يمتد تأثيره إلى حياة الواقع.
أما الملاحظة الخامسة والأخيرة، إن من يملك المنصة يتحكم في الموضوعات التي يتاح لها فرصة أكبر للتداول، وتلك الموضوعات – والكلمات المفتاح – التي لا تحبذ ادارة الموقع انتشارها. وقد لاحظنا، على سبيل المثال لا الحصر، محدودية تداول الفقرات التي تتناول الانتهاكات الإسرائيلية في حرب غزة. فالنطاق الافتراضي لا يتيح إذن للشعوب النامية مجالا للالتفاف حول السردية الغربية المهيمنة.
ويضاعف من أهمية التفاعل الواعي مع منصات التواصل الاجتماعي أن تأثيرها مرشح للزيادة، وتداخل الحياة الافتراضية مع الواقع قد يصل إلى مراحل يصعب فيها الفصل بينهما.