رغم مرور 56 عاماً على حرب 5 يونيو، مازال بعض العرب يُرجِع سلبيات أوضاعهم الراهنة إلى الهزيمة العسكرية التي حدثت في العام 1967، بينما الأمر الصحيح هو أنّ الواقع العربي الراهن هو نتاج تدهورٍ متسلسل تعيشه المنطقة العربية منذ العام 1978، عندما اختار الرئيس المصري الراحل أنور السادات السير في المشروع الأميركي/الإسرائيلي الذي وضعه هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
إنّ مشروع كيسنجر مع مصر/السادات كان حلقةً في سلسلة مترابطة أوّلها إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، وآخرها تعطيل كلّ نتائج حرب عام 1973 الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وذلك من خلال إشعال الحروب العربية/العربية وتوريط أكثر من طرف عربي لسنواتٍ عديدة فيها.
إنّ الحقبة السياسية بعد حرب 73 (وليست النتائج السياسية لحرب العام 1967) كانت بالنسبة للعرب هي الأخطر، لأنّها زرعت بذوراً لكلّ ما يتمّ حصده الآن من ضعفٍ عربي وصراعاتٍ أهلية.
لقد كانت حرب 1973 درساً لأميركا وإسرائيل في أنّ الهزيمة العسكرية الكبرى لمصر عبد الناصر عام 67، والقوّة الإسرائيلية الهائلة والمتفوقة في المجالات كلّها، والصداقة الخاصة مع بض حكومات المنطقة.. هي عناصر لم تكن كافية لضمان المصالح الأميركية في المنطقة، ممّا دفع بأميركا إلى إعادة حساباتها في ظلّ إدارة هنري كسينجر للسياسة الأميركية الخارجية.
فإذا بالمنطقة العربية تنتقل من حال النتائج الإيجابية لحرب 1973؛ بما فيها القيمة العسكرية لعبور قناة السويس، وتوحد الجبهتين المصرية والسورية في تفاصيل الحرب، وقرار حظر النفط من دول حليفة لواشنطن، وظهور القوّة المالية والاقتصادية والسياسية للعرب آنذاك، ثمّ القرار الذي أعلنته الأمم المتحدة بمساواة الصهيونية بالعنصرية.. إذا بها تنتقل من هذه الإيجابيات الدولية، ومن حال التضامن العربي الفعّال.. إلى إشعال الحروب العربية/العربية، والحرب العراقية/الإيرانية، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة، وتعرّض بيروت عام 1982 - كأوّل عاصمة عربية- للاحتلال الإسرائيلي، وإخراج قيادة وقوّات منظّمة التحرير منها.
فكانت آثار تلك المرحلة ليست في تعطيل دور مصر العربي فقط، بل بفتح الأبواب العربية كلّها لحروب داخلية وحدودية واختلال الجسم العربي بأسره، إضافة لفتح أبواب المنطقة للتدخّل والوجود العسكري الأجنبي، خاصّةً بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية.. ممّا أدّى لاحقاً إلى تراجعات على مستوى القضية الفلسطينية ظهرت جليّاً في "اتفاق أوسلو"، الذي نقل القضية الفلسطينية من قضية عربية إلى شأنٍ خاص بقيادة منظّمة التحرير - وليس حتّى بالشعب الفلسطيني كلّه - فانعزلت القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، وضعف وضع المقاومة المسلّحة المشروعة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت "منظّمة التحرير" مسؤولة عن تأمين أمن إسرائيل! .. إضافةً طبعاً إلى تبرير أنواع العلاقات كلّها والتطبيع بين إسرائيل ودول عربية ومجموعة الدول الأفريقية والآسيوية.
وقد رافق هذه المسيرة الرسمية العربية الانحدارية قمع العديد من الأنظمة العربية لحركات المعارضة السياسية بشكلٍ عام، وانعدام البناء الدستوري السليم الذي يكفل التحوّل السياسي والاجتماعي السلمي في كلّ بلد، في ظلِّ فشل قوى المعارضة العربية في بناء نموذج سياسي صالح ليكون بديلاً أفضل من الواقع الرسمي. كذلك اتّسمت تلك المرحلة بتصاعد التيّار الإسلامي السياسي، دون وضوحٍ في رؤيته وفكره وبرنامج عمله السياسي البديل، وفي مناخات تشجّع على العنف المسلّح للتغيير الداخلي وعلى فرزٍ وانقسامات داخل المجتمع الواحد، كما ظهر في تفاعلات الحروب الأهلية العربية طيلة السنوات الماضية.
كذلك تراجع دور الجامعة العربية وأنواع العمل العربي المشترَك، كما وقعت "منظمة التحرير الفلسطينية" ومعها الحكومات العربية كلّها في مأزق "عملية السلام" مع إسرائيل: عجز عن الحرب معها.. وتعجيز إسرائيلي في شروط تحقيق السلام العادل، في ظلّ استمرار الاحتلال وتصاعد الإستيطان!.
فلم تكن هذه التداعيات السلبية في التاريخ العربي المعاصر منفصلةً عن مجرى الصراع العربي/الصهيوني الممتد لحوالي مائة عام، ولا هي أيضاً مجرّد تفاعلات داخلية عربية، "الخارج" منها براء.
***
أمّا عن هزيمة عام 1967، فقد أعلن جمال عبد الناصر تحمّله المسؤولية الكاملة عنها واستقال من كل مناصبه الرسمية، ولم يعد عن هذه الإستقالة إلاّ بعد يومين من المسيرات الشعبية العارمة التي شملت معظم البلاد العربية (في يومي 9 و10 يونيو). ثمّ كانت هذه الهزيمة سبباً مهمّاً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية حيث وضع جمال عبد الناصر، بعد الهزيمة، الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل أولوية المعركة مع العدوّ الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمّة الخرطوم عام 1967 وما تلاها من إستراتيجية عربية مشتركة لإزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة؛ بما فيها سحب القوات المصرية من اليمن، والتصالح مع الدول العربية كلّها، والسعي لتوظيف كلّ طاقات الأمّة من أجل إعادة تحرير الأراضي المحتلّة.
وكانت هذه السياسة هي سمة السنوات الثلاث التي تبعت حرب 1967 إلى حين وفاة عبد الناصر. فقد أدرك عبد الناصر ومعه كلُّ شعوب الأمّة العربية أنَّ التحرّر من الاحتلال يقتضي أقصى درجات الوحدة الوطنية في الداخل، وأعلى درجات التضامن والتنسيق بين الدول العربية.
هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973، فكانت ست سنوات (1967 إلى 1973) مليئة بعوامل البناء والمواقف الصلبة والتي أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وكرامتها، ولو إلى حين!.
قيل بعد حرب أكتوبر عام 1973، وعقب توقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية، أنّ "لا حربَ من دون مصر ولا سلامَ من دون سوريا". وقد ثبت بعد خمسة عقودٍ مرّت على هذا القول، صحّة خلاصته حيث لم تحدث منذ ذاك الوقت حربٌ نظامية عربية/إسرائيلية، بمعنى حرب جيوش تقليدية على الجبهات، رغم حدوث حروبٍ عديدة خلال هذه العقود، قامت بها إسرائيل ضدّ حركات المقاومة في لبنان وفلسطين. أيضاً، لم تحدث تسوية شاملة للصراع العربي/الإسرائيلي رغم المعاهدات التي حدثت بين إسرائيل ومصر والأردن ومنظّمة التحرير الفلسطينية.
إنّ الغضب الشديد يعتمر الآن في صدر كلِّ إنسانٍ عربيّ أينما وُجِد على ما هو عليه الحال العربي عموماً. وهذا أمرٌ جيّدٌ ومطلوب من اجل التغيير المنشود. غضبٌ عارم هو أيضاً على مهزلة مجلس الأمن والأمم المتحدة و"غابة المجتمع الدولي" حيث لم يتمّ إجبار إسرائيل على إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية ولهضبة الجولان السورية رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمن على ذلك.
وبمقدار ما يتألّم العرب اليوم من وجع سياسات حصلت منذ توقيع المعاهدة المصرية مع إسرائيل، ومن تهميشٍ حصل لدور مصر العربي، بقدر ما يشدّهم الحنين إلى حقبةٍ ما زالت تذكرها أجيال عربية كثيرة، وهي حقبة جمال عبد الناصر التي تميّزت بحالة معاكسة تماماً لحال المنطقة العربية الآن!.