بقلم الدكتور : حسن فتح الباب
من قصائد النثر المستوفية لشروط الإبداع تلك التي تضمنها ديوان ( قطاع طولي في الذاكرة ) للشاعرة فاطمة ناعوت ، فهي بلّورات صافية متعددة الشعاعات والانعطافات إذ تصدر عن إحساس مرهف وتجربة وجدانية وذهنية وخبرة لغوية تقدمها كاتبة تنضح صدقا نفسيا وفنيا ، وتجدد في صياغاتها ومضامينها خارجة في سردها وتصويرها عن التعابير المألوفة المكرّرة والمعاني المستهلكة من كثرة ترديدها. ومثل الموسيقيّ البارع تنوع لحنَها الأساسيّ وتدهشُ المتلقي بمخيلتِها الخصبة التي تولّد رؤىً وتأملاتٍ يمتزجُ فيها المشهدُ الواقعيّ المشهود بالحُلمِ السابحِ في ملكوت الإلهام .
والعالم الذي تحلِّقُ في فلكِه فاطمة ناعوت بأجنحتِها الرفافة يدور حول أشواق الشباب ومكابداته في العشق والإخاء الإنسانيّ وتوقِه إلى واقعٍ أجمل وغدٍ أفضل ، فتبدو نصوصُها كأنها ابتساماتٌ قمرية وارتعاشات نجومٍ تغالبُ الظلمةَ أو زهراتٍ صبّار مونقة رغم العطش المرّ ، ومن ثم لا تتّسم بالسوداوية التي نراها لدى كثير من الشعراء الشباب انعكاسا للواقع الجهم الذي يئِدُ الأملَ والبهجة ، فهي متفتحة على الحياة تؤمن بمقولة ناظم حكمت : ( إن أجمل الأيام ما لم يأت بعد ، وأجمل الأطفال من لم يولد بعد ) .
لذلك لا نسمع قصيدتها التي تذكر فيها الأديبة الشابة المنتحرة أروى صالح ندبًا وعويـلا وإنما غلالة شفيفة من الأسى رغم عمق الجرح ، ومسحة نورانية مثل صلاة على الغائب الحبيب وترنيمة في معبد الغروب ، وكأن الراحلة عروس تزفها الملائكة إلى فردوس الخلود . وكذلك حديثها عن الروائي سيد عبد الخالق في قصيدتها ( يوم عرس بنات الرب ) بعد سماعها نبأ إصابته بالمرض الخبيث .
كانسياب الينابيع
وتعزفُ فاطمة ناعوت على قيثارةِ الطفولة أرقَّ أنغامِها فيذيعُ عبيرُها في معظم القصائد ، بل أن الديوانَ كلَّه يحملُ روحًا طفوليةً تتجلى في ألوانه التي يغلب عليها اللون الأبيض وفي أشكاله الزخرفية ، فتكثر مفردات هذا العالم البهيج الذي لا يفارق الشاعرة ، ويضفي على نصوصها رقة وشفافيـة مصفىًّ من الأكدار . ففي قصيدة ( مؤامرات صغيرة ) تستدعي ذاكرتها من خلال تيار الوعي نزهتها مع أخوتها بالدراجـات : ( كان على الرصيف مساندتي لاعتلاء دراجتي وخلال جولتنا عرف شقيقي الأكبر أن الإرادة لا تقف علـى قدمين ) .
وتنتهي القصيدة بالمقطع الآتي عود على بدء بعد أن تحكي لنا معابثاتها مع أبناء الجالية الآسيوية المقيمة في حيّها والآتين من الدول المسماة بالنمور الصغيرة وإنذار مربيّتها بأوخم العواقب :
( وفيما نستعد للعقاب اليوميّ المحتمل جدًّا بعد أن لفّقنا كذبةً محكمة نتهامسُ سريعًا حول مؤامرةِ الغد ثم " نُجرِّجُ " الدراجتين عند البواب ) .
وتستوحي قصيدة ( فروض فوضوية ) الدراسة بالمرحلة الثانوية ثم الجامعية مسترجعة أحلام الصبا الباكر وأقاصيه وذكرياته التي لا ينضبُ معينُها ولا تخمد أنفاسُها الحِرار ، بل تظلُّ ترطِّب الشفاه الظامئة وتستخرجُ أجمل الكنوز التي تختزنها الروح . ففي نبرة هادئة كانسياب الينابيع في المروج الخضراء تستهلُّ الشاعرةُ هذه القصيدة بالمطلع الآتي :
( ماذا لو تجاورنا فوق مقعد الدراسة أو تقاطعت حدودي مع شباك الفصل في صورة بلا ألوان نتغاضب من سيجاور النافذة ؟ في الباص الأزرق ثم تُخطئنـا الحقائب فأفتِّش في دفاترِك عن شخبطاتٍ تحمل ملامحي ) .
فتلك تذكاراتٌ من فيض التيار الشعوري مضفورةٌ في نسيجٍ مخمليّ قشيب تعتمد الشاعرة في تصويرها على ذاكرة بصرية تستدعي المرئياتِ المكنونةَ خلف الضلوع وتجلو عنها غبار السنين .
وبضربة فرشاة سريعة تصور لحظة يانعة كالنبت الأخضر المنبثق فجأة من التراب ، لحظة فاصلة بين ماض وآت في يوم تاريخيّ موقعٍ بلون الورد : ( ماذا لو تلاقت عيوننا في محاضرة لتاريخ العمارة ثم تقافزنا فوق الدرج يوم تخرِّجِنا ) .. هكذا يمضي النصُّ رقراقًا فلا صخبَ ولا جهارة ، ومن ثم يصدقُ عليه مصطلح الشعر المهموس الذي ابتدعه الناقد الكبير الدكتور محمد مندور وطبّقه على قصائدَ رفيقةِ حياته الشاعرة الراحلة ملك عبد العزيز وشعر المهجر عند نسيب عريضة وجبران وإلياس أبو شبكة وسائر رواد هذه المدرسة الذين استحدثوا تيارا جديدا في الشعر العربي .
على قيثارة الشعر وفن المعمار
أما العالم الثالث الذي تكتمل به دائرة الأقانيم في ديوان ( قطاع طولي في الذاكرة ) فهو الشعر والمعمار ، حيث نرى فاطمة ناعوت مسكونةً بفنِّ العربية الأول الذي جادت به موهبتها ، وفنِّ البناء الذي مارسته باعتبارها مهندسة معمارية . ومن ثم تتردد في قصائدها مفردات عالم الشعر والكتابة فتذكر الخليل بن أحمد الذي فنَّن الأوزان في تلك السطور من تلك القصيدة الآنفة الذكر : ( ماذا لو علمتني القصيدة قبل أن يغير الخليل من محبرتي ؟ ) .
وتتردد ألفاظ اللغة والنص والمفردة والحرف كما في قصيدة ( تشكيـلات مراوغة ) : ( اللغة القاصرة لم ترسم تنهيدات الذين أحبوا ولا التماع عيون المراهقين حين يمررون ذاكرتهم على الوجوه الحروف رتبتها فوق المكتب بعد أن ضبطت الإضاءةَ وأحكمتُ النافذة ظلت تتجمع على نحوٍ عبثي فأعيد تشكيلها لم تسجِّل جديدًا على أي حال ) ... ( أيُّ مفردةٍ تنبؤك بأني أودُّ الآن أن تضمَني ثم أضيعُ في أبعادٍ متوهَمة ؟ أيُّ مفردةٍ أخطُّها فتقرؤني تقرؤني أنا بعيدًا عن غواياتِ القصيدة ؟ )
وتستعمل أيضا لفظيّ البديع والمجازات وعبارة أبجديات عربية : ( ليست من البديع في شئ أو مسرحةً كما قال أحدُهم يومًا معتمرًا قناعَ الواقعية فقد رأيتُ المجازات تتحرك على قدمين ) .. ( الإفريقيةُ التي هندّست فوضانا بلسانٍ فرنسيّ سيدتي : الفوضى أبجدياتٌ عربية ) .
وتفاجئنا الشاعرة في قصيدة ( تشكيلات مراوغة ) بلهجةٍ خاضعة إلى المعركة الناشبة بين التراثيين والحداثيين تداعيا لغوايات القصيدة في هذا النص الذي يعبر بصورٍ وأحاسيسَ متفردةٍ عن تجربة في الحب : ( فريق الضاد يتغامزون لم يقدم الزائدان حلا لتعثري ! )
وتستطرد في إيحاءاتها فتعيدُ إلينا لُعبةَ العشاق الصِغار حين يحفرون على الأشجار والأسوار أسماءهم وسهمَ كيوبيد إله الحبِّ عند الإغريق مسددًا إلى القلبين دليلا على توحدهما في العشق : ( غير أني بحروف لاتينية أكثر خبثا وأقل نجحتُ أن أكتبَ : " أحبُّكَ " في نهاية رسائلي ) .
وعلى هذا النسَق تنسج الشاعرة نصوصًا من خيوطٍ متشابكة متعددة الألوان معبّرة عن رؤاها ومواجدها ، وكأنها عصفورةٌ تتنقل من غصنٍ إلى غصن وتلتقط حبَّةَ قمحٍ وبعدها حبَّةَ نباتٍ آخر طائرةً من أفق إلى قاعٍ ومن قاعٍ إلى أفق وكأنها تضمُّ العالمَ كلَّه بين جناحيها الرقيقين الموشحين بالندى تحت سماء مكلّلة بالغمام . فالحب هو التيار الدافق الذي يغمر القصائد جميعا ، حب كل ما هو جميل وبرئ في النفس والكون والحياة .
وقد كان من الطبيعي أن يضم العالم الشاعري الفن المعماري والفنون التشكيلية ، فجاء الديوان مُهَندَّساً – إذا صحّت هذه الكلمة – ومتوازنا مشكلا خطوطا مستقيمة تارةً متعرّجة أو دائرية تارةً أخرى . ومن ثَّم تكرار مفردات الطول والمخروط والقطاع والأبعاد والجدار والرطوبة والحرارة والهبوط والتمدد والعوازل وطبقات الأرض والأسمنت والرسومات التنفيذية .
كما تقتبس النصوص من الفنون التشكيلية والتصوير الفوتوغرافي كلمات مثل المرسم : ( فوق الأريكة في المرسم الكبير وخلال خمس رشفات لقهوة باردة تواجهنا ) .. سأعود إلى البيت الآن أهبطُ الحائطَ المرتفع ) .. ( أقبض على خطوطٍ رأسية متوازية وأنتظر ) .. وتقترن الموسيقى بالشعر والمعمار والتشكيل كما يبدو في عناوين بعض القصائد مثل : ( قطاع طولي في الذاكرة ) وهو عنوان الديوان والقصيدة الافتتاحية ، و ( الحركة الأولى .. السيمفونية العاشرة ) و ( 47º طول 25º عرض ) ، ( ربما ... حيث البعد الرابع ) ، ( تشكيلات مراوغة ) .
عبير الحضارات
وإلى جانب أسلوب تيّار الوعي أو التداعي الحر تستعملُ الشاعرةُ أسلوبَ التضمين أو التناص خلال توظيفها لمفردات الحضارات الإنسانية من شخوص وأجواء تاريخية أو أسطورية . فهي تستعير منظر تماثيل رمسيس الثاني في معبد أبو سنبل جنوبي أسوان حيث تسقط عليه الشمس في يومي عيد ميلاده وعيد جلوسه على العرش ، وذلك في مطلع قصيدتها الأولى : ( يسقط الضوء على وجهي مرتين في العام ) ولما كانت هذه القصيدة دائرية فقد كان ختامها هو مطلعها : ( الضوء لا يسقط على وجهي مرتين في العام الضوء سقط مرتين في عام ) .
وتستلهم الشاعرة أيضا نماذج بشرية من التاريخ العربي لتدفئ بها وجدانها ، مثل ليلى العامرية التي جُنَّت بقيس كما جُنَّ بها ، وقد جعلت من ذاتها استنساخا لليلى في قصيدة " وخامس لا يتكلم " : ( ربما في تناسخٍ آخر في بُعد رابع التقينا وجعلت من جنون العامرية مهدا لقصائدك ) .
كما تستلهم أيضا من الحضارة الإغريقية سقراط : ( سنكمن لهم يوما خلف الأبواب نجعلهم يعترفون أنك " المعلم الأول " وأني أحفـظ دفاع سقـراط ) ... ( لا شك أن شجاراتِنا هي من علمتهم أسس الفلسفة الإغريقية ! ) ويرد ذكر زوجة سقراط في قصيدة أخرى ، وكذلك الشاعر اليوناني السكندري كفافيس .
ومن وحي ملحمتي الإلياذة والأوديسا لهوميروس تضمنّ فاطمة ناعوت إحدى قصائدها قصة بنيلوب التي كانت تغزل ثم تنقض خيوط غزلها ريثما يعود حبيبها أُديسيوس من الحرب ، حتى تصرف عنها من جاءوا لخطبتها بعد أن طال غيابه . واستعملت أسطورة بروميثيوس سارق النار ومن معين القرآن الكريم اقتبست فاطمة ناعوت الآية : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) ، وذلك في المقطع الآتي من قصيدة " البعيد " :
كنبيلٍ قديم يكسو النُّحاسُ ملامحَه جئتَ من أقصى البلدةِ تسعى مسارُك خط ثابت لا تلتفتْ للخلف) . واستعملتْ شطرَ بيت أبي الطيب المتنبي المشهور ( الخيل والليل والبيداء تعرفني ) فجعلته بعد تحويره عنوانا لإحدى قصائدها : ( الخيل والليل والبيداء ... لا تعرفني ) . وتمتاز النصوص بشحناتها الشعرية حتى جاءت بعض السطور من شعر التفعيلة : ( لا تلتفتْ للخلف فالأساطير حقيقة والتماثيل دليل ) ، ( على حواف الأمكنة ) .
أنسنة الأشياء
ومن أهم الأساليب التعبيرية في الديوان " أنسنة " الأشياء وهذا الأسلوب تطوير للاستعارة مثل الجدران ( الجدارُ سميكٌ جدًّا ، ( حوائطُ يعوزها الذكاء )، ( لابد من فواصلِ هبوطٍ وتمدّد لجدارٍ بهذا الطـول والصمت ) ، والنوافـذ : (شباك طيب يباركُ هروبَنا إلى ملعب الكنيسة لنلملمَ أوراقَ التوتِ في نيسان ) ، والأراضي : ( التربة الطينية لا تطمئن للأبنية التاريخية أكثر من مرة شوهدت أراض تترك مواقعَها وتفرذُ تاركةً للفراغ بناياتٍ معلقةً في الهواء ) ، والنهر : ( سقطةٌ مباغتةٌ من الطابق العاشر فوق صفحة نهر فاترٍ بما يكفي للانخراط في الخدر ، والسرير : ( أصواتُنا الجديدة أيقظت السريرَ الصامت فانتبه إلى الخدعة ظلَّ يرمقُ الردهةَ البعيدة ثم انطوى مطرقا ، والمشابك : (ثم سحبنا الستارة حين رأينا المشابك تمدُّ أعناقَها فانطوتْ على ملابسها يائسة) ، ( القمر الذي يغادرنا غاضبا كل نهار يقضي قيلولته ناشرا فضائحناعلى المجرّاتِ الأُخر) . وقد توظّف الشاعرة تقنية الرمز ، فطبقاتُ الأرضِ عندها قد ترمزُ لمراحل العمر . كما تستخدم أسلوب الطباق أو التضاد والمفارقة : ( تلك طقوسي الصباحيّة التي تؤديها يقظتي التامة أثناء غفوتي ) . وتحت عنوان ( وخامسٌ لا يتكلم ...) كتبت الشاعرة قصائد برقية حيث أنها مركّزة مكثّفة تذكرنا بشعر الهايكو الياباني ، وقد بلغت بها ذروةً في الإبداع ، وهي تستحق تناولها في دراسةٍ خاصة لا يتيحُها الحيّز المتاحُ لنشرِ هذا المقال .
ولا يشوب الديوان إلا كثرة استعمال ألفاظ أجنبية ولا سيما تلك التي لها مقابل عربي فصيح مثل يوتوبيا وتعريبها المدينة الفاضلة . ومن الكلمات الأعجمية والمصطلحات المهنية الغامضة : ( العراميس ) و ( برابولا من الدرجة الثالثة ) و ( الميتامور فزيس ) .
وثمة بضعة أخطاء في التراكيب اللغوية مثل ( لابد رصدت عذابي ) وصحتّها ( لابد أنها .. ) ، ( سأعود البيت الآن ) وصحتها ( سأعود إلى ... ) ، ( أما نظارتي سوف ) وصحتها ( أما نظارتي فسوف ) ، ( أما كرمشة الجلد تحكي أن السيدة ) وصحتها ( أما كرمشة الجلد فتحكي ... ) ولعل بعض هذه الأخطاء مطبعية : ومن قبيل الأخطاء اللغوية استعمال كلمة وقت بدلا من كلمة حين في عبارة ( وقت يمررون ذاكرتهم على الوجوه ) وقد تكرر هذا الاستعمال في موضع آخر ، وكذلك عبارة (كانوا مسلمين بجد ) فاللفظة الأخيرة عامية لا تتفق مع السياق الفصيح ويمكن أن تستبدل بكلمة جدا أو حقيقة . .
وأخيرا فإن فاطمة ناعوت في ديوانها ( قطاع طولي في الذاكرة ) تقدم الدليل الساطع الدامغ على أن قصائد النثر ليست كلها " عصيدة " كما وصفها الناقد الدكتور أحمد درويش ، بل هنالك نماذج ترقى إلى ذروة الإبداع الشعري بمضامينه الإنسانية وتشكيلاته التعبيرية التي تأسر وتسحر دون تكلف أو افتعال إذا امتلك المبدع روحًا إنسانية ووعيا فنيا عميقا ولم يسقط في هوة التغريب والتعتيم .