السلبية كجزء من ثقافة الفقر
هناك منظومتان لأثرِ الفقرِ على الشعوبِ ، منظومة توّلد التذمر والرفض والتعبير عن ذلك بشكلٍ ظاهرٍ ، ومنظومة توّلد "الرضا بما قسم القضا" – وهناك أسباب عديدة تؤدي إما للمنظومة الأولى وإما للمنظومة الثانية . والشعوب التي طال عهُدها بالإستبدادِ والقمع وتقديس الحكام والإمتنان الشديد لهم هي الشعوب التي تعيش في ظلِ المنظومةِ الثانيةِ مكتفيةً بسخريتها من الأمور العامة واللاعبين على مسرح الحياة العامة في الأحاديثِ الخاصةِ. وفي بعض الشعوبِ تأخذ هذه الآلية شكل إفرازِ النكاتِ على السياسيين ، وغالباً ما تكون هذه النكات مرآةً لما كانت الشعوبُ تودُ أن تعبر عنه جهاراً ولكنها لفقدانها (لأسبابٍ عديدةٍ) سبل وإمكانية ذلك فإنها تترجم حقائق رأيها في شكل سخريةٍ ونكاتٍ تبلغ أحياناً حدَ العبقريةِ في قدرتها على تكثيف الآراء والانطباعات في عباراتٍ ومشاهدٍ صغيرةٍِ .ومما لاشك فيه أن الحكامَ الطغاة يدركون بوضوح أن استقلال شعوبهم الاقتصادي عنهم ووجود طبقة وسطى ذات استقلالية اقتصادية هما بوابة الجحيم بالنسبة لهؤلاء الحكام الطغاة ، والتي من خلالها ستمر الشعوبُ من "أرضِ السلبيةِ" إلى "أرضِ المشاركةِ والمسائلةِ" وهو آخر ما يرغب فيه الحكامُ الطغاةُ ، فكيف لهم بأن يسمحوا بأسئلةٍ علنيةٍ عن مصادرِ شرعيتهم وشرعيةِ مزاياهم ومزايا مساعديهم (خدمهم في الحقيقة) .
السلبية والتعليم والعمل الجماعي
تقوم النظمُ التعليمية الحديثة في المجتمعات المتقدمة على أساليبٍ تربويةٍ لا يكون المدرسُ فيها بمثابة جهازِ إرسالٍ (مُحاضر) ولا يكون التلميذُ أو الطالبُ فيها بمثابةِ جهازِ إستقبالٍ (مُستمع) . وإنما تقوم على المُشاركةِ والحوارِ وتبادلِ وجهاتِ النظرِ وتقسيم التلاميذ إلى مجموعاتٍ تقوم بنفسها بالبحث عن الأجوبة والحقائق كما تقوم بتقديم خُلاصات بحثها بنفسها بعد جلساتِ تشاورٍ بين أعضاءها وبعد أوقات تٌقضى في المكتبات . ويؤدي ذلك لتأصيلِ " روحِ الفريقِِ " وتعويدِ الأفرادِ على المُشاركة الإيجابية والإيمان بأن لكل إنسان الحقَ في البحث عنَ الحقيقة بنفسه والتعبير عما يُحصّله من معارف( أيضاً بنفسه) ويتم كلُ ذلك في جو تشيع فيه روحُ السماحة واحترام حق كل إنسان في الاختلاف دون أن يكون معنى الاختلاف تقسيم الناس إلى فريق أعلى وفريق أدنى . كذلك يتم ذلك دون إضفاء قدسية على المدرسين أو المؤلفين أو حتى القادة . وبسبب ذلك تتأصل قيمةُ روحِ العملِ الجماعي (الفريق) والتي هي المصدر الأول لوجود مواطن إيجابي – والعكس صحيح ، ففي ظل نظم التعليم القائمة على التلقين وكون العلاقة بين المدرس والتلميذ هي علاقة بين (مُرسل) و(مُستقبِل) فإن روحَ العملِ الجماعي تذبل ولا يُتاح لها النمو المنشود ويكون من الطبيعي أن تنمو في ظل ذلك(السلبيةُ)وما تعنيه من تقاعس عن المشاركةِ في الأمورِ العامةِ بعد أن تَرسَخَ في العقولِ والنفوسِ أن واجبَ كل منا أن " يستقبل " المادة التي يرسلها المدرسُ ويحفظها عن ظهرِ قلبٍ ويقوم (بمفرده) بتفريغها على ورقةِ الإجابةِ .
كذلك فإنه عندما يكون النظامُ التعليمي قائماً على "كم المادة محل الدراسة" وليس "نوع القيم المراد زرعها في العقول" ، وعندما يكّرس النظامُ التعليمي (تقديس الحكّام) و(الإمتنان لهم) ، وعندما تسود الثقافة والبيئة التعليمية روحُ البعدِ الواحد ، فالصوابُ هو أمرُُ محددُُ بالذات ، وليس روح التعددية وهي جوهر التمدن والتحضر والتقدم ، وعندما تخلو برامجُ التعليم من تأصيل قيمة قبول النقد وتعلم النقد الذاتي ، عندما تتوافر كل هذه الأبعاد في البرامج التعليمية والبيئة الدراسية فمن الطبيعي أن تكون مؤسسةُ التعليمِ قد شاركت بدورٍ رئيسي في تدعيمِ السلبية عند من سيكونون في الغدِ القريبِ المواطنين اللذين يتسمون بأكبرِ قدرٍ من السلبيةِ في مواجهةِ الحياةِ والشئون العامة والقضايا السياسية والمجتمعية بما في ذلك تقاعسهم المفهوم عن المشاركةِ في الحياةِ السياسيةِ وكفرهم بجدوى ذلك ناهيك عن إفتقادهِم في المقام الأول لعنصر الاختيار والذي هو جوهر عملية المشاركة في الحياة السياسية .
السلبية وسيادة القانون
تتشدق معظمُ النظمِ السياسيةِ في العالم الثالث بأنها " دول سيادة القانون " – وهو أمر يحلق في " سماءِ الكلامِ والتمني " ولكنه غالباً ما لا يوجد في سماءِ الواقعِ . فمعظمُ هذه الدول تسود فيها القراراتُ الكبرى الصادرة عن " سيادة القوى العظمى للحكام " وهي قرارات تنبع من زوايا غير ديمقراطيةٍ وكثيراً ما تكون إما غير علمية وإما مساندة للفساد والانحراف والمصالح الشخصية مع غيبةٍ شبه كاملةٍ لسيادة القانون المتشدق بها بالحناجر لا بالمواقف – بالأقوال لا بالأفعال . وفي ظل مُناخٍ عامٍ كهذا ، لا يكون من المُستغرب أن تتفشى السلبيةُ ، فالناسُ يشعرون بجدوى المشاركة في الأمور العامة عندما تكون محكومةً بحقٍِ بسيادةِ القانون وعلى العكس فإنهم ينكمشون داخل ذواتهم ويتقاعسون عن المشاركةِ عندما تسود تصرفاتُ الأقوياءُ النابعة من الهوى أو المصلحةِ وغالباً ما تكون غير ذات جدوى بالنسبة للمجتمع . وهكذا ، فإن هناك علاقة طردية بين (عدم سيادة القانون) و(سلبية المواطنين) .
سلبية المواطنين ونظم الحكم الأوتوقراطية
تتحدث معظمُ نظمِ الحكمِ غير الديموقراطية عن الشعبِ بصيغِ تمجيدٍ مُبالغ فيها ، وقد كان لنظامى هتلر و موسوليني السبق الأكبر في هذا المجال. وفي ظل هذه النظم يكون هناك (شعب) دون أن يعني ذلك أن ألفاظ التمجيد و التفخيم و التعظيم التي تطلق عليه ( أي على الشعب ) تنطبق بنفسِ القدرِ على مفرداتِ كلمةِ الشعبِ أي (المواطن) . فنجد إلى جوار صيغ التمجيد و التفخيم للشعب العظيم و المعلم معاملات يومية للمواطنين من جهاتِ الإدارةِ الحكوميةِ تشبه معاملة الأسرى الذين توجد سياسةُُ واضحةُُ لكي يساموا سوءَ العذاب و الهوان في كل تعاملاتهم سواء فى الطريق العام أو مكاتب الإدارة أو مخافر الشرطة أو المستشفيات ففي كل هذه الجهات لا نجد أن تعبيرات تمجيد الشعب العظيم و المعلم تتحول لمعاملاتٍ إنسانيةٍ متحضرة لمفردات كلمة الشعب أي –المواطن- بل نجد معاملات تشبه السخرة . ومعنى ذلك ببساطةٍ أن نظمَ الحكمِ غير الديموقراطية تتشدق بمدح كائنٍ معنويِّ غير موجود تسمية (الشعب) . أما الشعبُ الحقيقي أي المواطنين فيلقون من نظم الحكم هذه و إداراتها من المعاملة ما يشبه معاملة المماليك للمصريين في زمنٍ من أكثر أزمنةِ تاريخنا ظلاماً حيث قمنا بأنفسنا ولأسبابٍ خفيةٍ بشراءِ عبيدٍ (المماليك) ثم وضعناهم على سدةِ الحكمِ لكي يمارسوا فينا أشكالاً و أنماطاً من الطغيان يصعب تصورها وأن كانت قد سادت و شاعت و ذاعت لقرونٍ من تاريخنا غير البعيد ولا تزال أثارُُ منها باقية في مناخنا الثقافي العام كما ذكر بإتقانٍ كاتبُُ مصري مجيدُُ في كتاب له بعنوان ( تراث العبيد ).
السلبية وثقافة القطيع
لا شك عندي ان النظمَ غير الديموقراطية قد أفرزت جواً ثقافياً عاماً يمكن (من زاويةٍ معينةٍ) أن نطلق عليه " ثقافة القطيع " . فالحكومةُ من جهةٍ تتعامل مع الشعب كقطعان .و الشعب من جهة يعتاد على ذلك فيسلك المواطنون أشكالاً عديدة من السلوك .تدخل كلها ضمن " سلوك القطعان " حيث تتواري الفردية التي هي (مع الديموقراطية ) أعظم انجازات الحضارات الانسانية وأساس كل ما يُقال عن حقوق الإنسان (بحق لا على سبيل تكدير البعض لنظم الحكم الطغيانية). ومن الواضح أن ثقافة القطيع لا يمكن ان تفرز الا السلبية، فالإيجابية موقف فردي للإنسان بوصفه فرداً لا عضواً من أعضاء القطيع .و ينسجم مفهوم القطيع ونظرة الحكومة للشعب كقطعانٍ مع فكرةِ الشعبِ المجردة و المطلقة والتي لا تعني دائماً أن الشعبَ هو مجردُ لفظٍ للتعبيرِ عن مفرداتٍ مفصلةٍ هي المواطنين .وهكذا تكتمل الصورة : فالطغيان يخلق كياناً وهمياً اسمه "الشعب" (ليس هو بالضرورة المواطنيين) ويخلق ثقافة القطعان وفي ظلها ينعم الطغاةُ بسلبية هائلة من المواطنين (أفراد القطيع) تبلغ قمتها عندما يكون السواد الأعظم من المتعلمين مخاصمين للمشاركة في أية انتحابات وهو عرضُُ طبيعي لثقافة القطيع .