إن المهمة الجوهرية لأي نظام اقتصادي هي القضاء على الفقر، وعندما يتخلى ذلك النظام عن هذه المهمة فسرعان ما يتداعى وينهار؛ لولا أن ما يحدث دائما من عمليات غسيل معرفي يجعل كل آليات تحقيق هذه الغاية تسير في إتجاه القضاء على الفقراء، لتتحقق بذلك تفاصيل المعرفة السوداء في هذا المضمار بحذافيرها!
لقد كانت مهمة القضاء على الفقر هي الغاية الرئيسية والهدف الأول من اهداف "اقتصاد المعرفة"، تماما مثلما كانت هذه المهمة هي الهاجس الذي يسكن الأنظمة الاشتراكية في انطلاقتها، ولم تختلف عن سياقها الأنظمة الرأسمالية كثيراً، لولا أن الممارسة الاقتصادية بالنسبة للأنظمة الاشتراكية والرأسمالية اتسمت بالكثير من التعثرات والأخطاء في سياق تحقيق هذه المهمة، تحديداً، وبدلاً من القضاء على الفقر اتضح بوضوح انها لم تسعى طيلة مسيرتها سوى من أجل القضاء على الفقراء. وكأن هذا الحل السحري نتاج حكم روبوت مجرد من الإنسانية وليس حكم إنسان له روح وعقل. ولعل هذا يتوافق مع طبيعة مظاهر الفساد التي تستبد بنوع الحكم السائد لدى الشعوب وخصوصا النامية منها.
ونظراً لهذا التشوه في الممارسة التي لم تتمكن من حل هذه المشكلة، وتحقيق هذه الغاية، كان من الطبيعي إيجاد حل مناسب يكون الإنسان شريكاً أساسياً فيه بإبداعه وابتكاراته ومن هنا كان منشأ "اقتصاد المعرفة".
ورغم أن هذا الهدف وهو القضاء على الفقر كان حاضراً وواضحاً إلا أن الحاضنات الابتكارية متمثلة في المراكز البحثية والشركات والمؤسسات المتخصصة، لم تشرك الطبقات الدنيا في قائمتها البحثية والابتكارية، ولم تكن في حسبانها، بمعنى انها استطاعت أن تجد حلا لجميع المشكلات الخاصة بالحقول التي يعمل فيها الإنسان، لكن النهاية كانت مفزعة، إذ أن كل تلك الجهود التي بذلت لم تفعل شيء غير إقصاء الإنسان واستبعاده تماماً من كافة مجالات الحياة وحقول العمل، والسبب أن حضوره كان غائباً تماماً عن سياقات المشاريع البحثية، وبدلا من الارتقاء به من مكانته السابقة التي كان يحتلها أي في الطبقات النامية، أصبح بفضلها في الطبقات الأقل نمواً، بل وإذا استمر الحال في التدهور والإنهيار على هذا النحو فسينتهي به إلى الطبقات التي لا تُرى ولا تُذكر.
لقد فرضت تجربة الأتمتة (Automation) التي يخوضها العالم اليوم العديد من التبعات التي لن يتمكن الإنسان من تحملها، وإن لم يكن لها وضوح الآن إلا أن كل ملامحها ستتضح مستقبلا وبشكل مرعب يدعو إلى الخوف والفزع.
من امثلة هذا ما نجده في القطاعات الزراعية، فالحاضنات الابتكارية والمراكز البحثية استطاعت ان تجد حلا لمعظم المشكلات التي عانى منها الإنسان في هذا المجال، فاكتشفت لقاحات وسموم تطهر الأرض من الأعشاب الضارة التي كانت تستهلك وقت الإنسان وتكلفه الكثير من الجهد والمال في سبيل التخلص منها، واخترعت أيضا آلات ومعدات حلت مشاكل التعب والجهود الكبيرة التي كانت تستهلك الإنسان في قوّته وماله، وغير هذا كثير من الاكتشافات والاختراعات في هذا القطاع، لكن من يتأمل، سيجد أنه ومع كل اختراع واكتشاف كانت مساحة وجود الإنسان وفاعليته تتضائل، حتى بدا وكأنه تلاشى تماماً، وربما قد تكون كل هذه الابتكارات حلولا سحرية لزيادة الدخل في هذا المجال، لكن كما يبدو فإن مشروع القضاء على الفقر غير موجود إطلاقا في حسابتها، ويتجسد هذا بوضوح في النتائج التي كانت مؤكدة على انه تم الاستغناء عن الفقراء تماماً، فأصبحت مهمة "اقتصاد المعرفة" بدلا من ذلك هي خدمة الطبقة البرجوازية والارستقرطية لتعود بنا من جديد، بمظهر جديد، إلى العصور الاقطاعية.
كما اننا نجد أمثلة اخرى في مجالات مثل التعليم بكل مراحله، فمن يلاحظ تقارير البنك الدولي سيجد على مدى سنوات متباعدة، فيما يخص هذا القطاع، سيكتشف تطوراً هائلاً في نسبة الملتحقين بسلك التعليم وخصوصا الأكاديمي، مقارنة بنسبتهم قبل عشر او خمسة عشر عاماً، كما سيلاحظ أكثر ان نسبة الإناث بالنسبة لعدد المنتسبات لهذه القطاعات الآن مقارنة بتلك النسب في تلك الفترة الزمنية، تبدو عظيمة وتؤكد على أن ثمة توازن مع عدد الذكور، أي ان المجتمعات بدأت تؤمن بحقوق المرأة في التعلم، وأيضا فإن قيم المساواة بدأت تتجسد بشكل يدعو للاطمئنان، عدا ذلك فإن مشروع القضاء على الفقر قد بدأ يتحقق من خلال هذه الملامح.
كل هذا ربما سيكون جميلا، لكن من يتفحص ويتأمل جيدا أن التضاعف في النسبة بين المخرجات والفروق بين تلك السنوات غير متناسب إطلاقاً، وغير صحيح، بل هو أقل كثيرا مما يفترض، وهذا نتيجة طبيعية لخروج المؤسسات التعليمية عن سياق المشروعات الإنسانية ودخولها، كنتيجة طبيعية للأفكار البحثية التي تسعى لتحقيق الربح بعيدا عن البعد الإنساني وهدف القضاء على التخلف والجهل والفقر في هذا المضمار، إلى سياق الاستثمار في التعليم، ففي حين كان يفترض السعي وراء دعم مشروع مجانية التعليم في ظل عصر المعرفة، سعت الانظمة الابتكارية إلى وضع برامج وسياسات غايتها الربح، والإنسان لم يكن إطلاقا موجود بكل حالاته في حساباتها، وبدلا من دعم الفقراء سعت هذه الأنظمة إلى دعم الطبقات العليا مع بعض التطويرات في مظاهر التعليم ليبدو وكأنه قد تطور كثيرا عن الماضي، وأنه يتسم بالجودة إلى أبعد حد.
إن من يريد أن يكتشف هذا فعليه ان يبحث في عدد السكان ونسبة الذكور والإناث من الشباب والاطفال، ثم يبحث في عدد الملتحقين بالمؤسسات التعليمية أساسية وأكاديمية من هذه الشرائح، مقارنة مع السنوات السابقة، ليكتشف بوضوح ان نسبة المتخلفين عن التعليم، نتيجة لدخول هذا القطاع في سياق التنافس والاستثمار والربح، بدعوى ضروريات اقتصاد المعرفة وما تفرضه، وهماً، قد أضر كثيرا بالطبقات النامية، وجعلها أقل نمواً بل إنه سيسعى، إذا استمر الحال بهذا الشكل، إلى اخفاءها تماماً.