من أجل رواية عاقلة ومؤدبة وشطورة
الكتاب: وليمة لأعشاب البحر
الكاتب: حيدر حيدر
عرض : كريم حسين
قيل أن الأثر الأدبي الناجح هو ذلك الذي تتذكره بعد مرور السنين. لقد قرأت رواية (وليمة لأعشاب البحر.. أو نشيد الموت) قبل عشر سنين، ولا زلت أستطيع التحدث عنها. قرأتها باستمتاع وانجذاب كبيرين.. لا أدري الآن على وجه الدقة، هل السبب كان موضوعها لأنه يهمني.. أو هو أسلوبها، الذي وجدته مفارقاً لأساليب الكتابة التي اعتدنا عليها في عالمنا العربي.. أو لجرأتها في البوح بأسرار النفس البشرية. لعلني أخيراً، أُعجبت بها لكل هذه الأسباب مجتمعة..
أما موضوعها فهو موضوعنا جميعاً في الماضي والحاضر وللأسف حتى المستقبل المنظور على الأقل.. موضوع الاستلاب والغبن التاريخيين اللذين لحقا بنا وصارا دمغة خاصة بنا.. تارة باسم الدين والأخلاق والعادات والتقاليد، وأخرى باسم القومية والعروبة، وثالثة وليست الأخيرة باسم الثورية والماركسية.. حتى صرنا لا نميز في الحقيقة مضامين كل هذه الأشياء.. وما مدى حاجتنا لها.. إذا كنت مغبوناً، مستلباً، جائعاً، ذليلاً، منكسراً.. في الأخير مغلوباً على أمري في بلدي وبين ظهراني شعبي وناسي، وتحت كل هذه اللافتات المرفوعة، ما حاجتي لكل هذه الأشياء، وكيف لا تتحول هذه المفاهيم في ذهني إلى مترادفات لغبني وجوعي وذلي وانكساري.. أرادت الرواية أن تعالج بعض هذه المفاهيم وتضعها تحت المجهر.. والمجهر في حالتنا هو خيال الروائي فقط.. وأقول فقط، لأن الكاتب تحدث عن ملابسات تجربة هو لم يعشها، تحدث عن تجربة عراقية بحتة وهو السوري.. تجرأ في الحديث عن أغوار ومستنقعات ومشاكل جنوب العراق كما لم يجرؤ كاتب عراقي على ذلك.. مثلما تحدث عن الجزائر وثورتها المغدورة كأنه جزائري.. وهنا يكمن الإبداع الانساني، هنا يكمن الأفق اللامحدود للإبداع.. أفق الرؤية، الاستقراء.. ليعرف الإنسان في النهاية موطئ قدمه الحالي.. لقد مازج الروائي بين تجربتين تبدوان متباعدتين، تجربة ثورة انتزعت البلد من استبداد الاستعمار الفرنسي وأخرى تحاول انتزاع البلد من فك المستبد الوطني، القومي، العروبي، المؤمن..الخ التجربتان فشلتا فشلا ذريعاً:
الأولى في تحويلها الاستبداد الاستعماري إلى استبداد وطني.. والثانية فشلت في المهد لتسرعهاوانبهارها بتجارب ثورية عالمية أرادت استنساخها على عجل.. والنتيجة؟ ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة هي الهزيمة، وهنا تدخل جرأة الكاتب في حديثه عن بواطن وكوامن الإنسان المهزوم.. ماذا يفعل مثل هذا الإنسان وهو تحت وطأة فقدان أكبر أمل في حياته.. كان (مهيار الباهلي) الشخصية العراقية الشيوعية في الرواية، و(فلة العنابية) الشخصية الوطنية الجزائرية، داخلين في نسيج تجربتيهما لحد التماهي.. ماذا ستكون ردود أفعالهما وهما يراقبان انهيار وتكركب التجربة على رأسيهما. ماذا ستكون ردود فعل المهزوم؟ ونحن يا سادتي الصارخين كلنا مهزومون، مهزومون أمام أعدائنا الخارجيين (الاسرائيليين وكل حلفائهم)، ومهزومون أمام حكوماتنا وأنظمتنا الاستبدادية المتجبرة على حياتنا ومنافذنا المنظورة وغير المنظورة.. ومهزومون أخيراً وهي الطامة الكبرى أمام أنفسنا.. هكذا بدل المقاومة للدفاع عن النفس وهو أضعف الإيمان، لجأنا إلى الانكفاء، تارة غوصاً في ماض نعتقد أنه كان باهراً لاستعادته من رفوف التاريخ.. وأخرى غوصاً في ذواتنا باحثين في مجاهلها عن تعويض ما.. ماذا سنجد في هذه الذوات غير تلك الانعكاسات الشرطية لمشاعر الكبت والحرمان التي تحاول التعبير عن نفسها بأي طريقة وبأسرع وسيلة.. ها هي ( فلة العنابية) في الرواية تلجأ إلى العهر وسيلة للنسيان، و(الباهلي) الشيوعي المهزوم يغرق في تجاربه الجنسية (عهر أيضاً) والالتذاذ عبر استعادتها كل مرة بشكل آخر لذات السبب.. النسيان. حتى يتحول النسيان الى إكسير نحاول به تضميد جراحنا وتعويض ما فاتنا.. هذا هو موضوع الرواية يا سادتي الافاضل (وأقول أفاضل لأني أفترض فيكم حقاً الدفاع عن قيم واخلاق فاضلة).
هذا هو موضوع الرواية.. لم كل هذا الصراخ؟، ألا يعد هذا مظهر آخر صارخ لحجم الخسارة التي ألمت بنا جميعاً، حين فقدنا كل وسائل المقاومة والدفاع عن النفس، ولم يتبقى في أيدينا غير اللجوء الى الصراخ والعويل والتهديد الاجوف بالويل والثبور. في حين أن أغلب أولئك الصارخين إن لم أقل جميعاً لم يقرؤوا الرواية، بل حتى لو تجرأ أحدهم وبحث عنها وقرأها تيقنوا أنه سيقرأها بذهنية المتربص الباحث عن الانتقام.. والرواية، أي رواية هي عالم مليء بالرموز والايحاءات والتشابيه والاحاجي، واخيراً التنوع وهذا هو المهم في الرواية لأنها تحاول أن تعكس الحياة، وهذه من التنوع والغنى ما يصعب على الانسان الاحاطة بكل مفرداتها، باستثناء بعض المبدعين من الفنانين والروائيين والشعراء، الذين يمتلكون حقاً ناصية الابداع، والأهم الموهبة.. سيخرج علينا المتربص بقائمة تطول من تعابير وتشابيه وألفاظ تخدش الحياء، او لا تتماشى مع الدين الحنيف، وهنا لا يسعني إلا أن احيل المتربص والقارئ إلى اقرب سوق يصادفه في بلد عربي أو إسلامي، ليستمع ويخبرني بماذا وكيف كان يتحدث الناس في السوق..
أعتقد أنه سيسمع العجائب والغرائب، ولكل طريقته في التعبير عن نفسه وعن ما يريد قوله. وهذه العجائب والغرائب في النهاية هي مادة الروائي في حواراته، إذا أراد ان يكون صادقاً مع نفسه ومع موضوعه.
مازال عندنا للمفردة المنطوقة او المكتوبة إمتداد شخصي لا يفارقها، إلا في حالات قليلة يقف على رأسها الانتحال والنفاق والكذب.. حين يقدم لي كاتب ما عشرة شخصيات، مختلفة في الانتماءات الطبقية والفكرية والأصول البيئية، ويجعلهم جميعاً يتحدثون بلغة أهل الفقه.. هذا هو النفاق والكذب، وهو الفشل بعينه لهذا كاتب. كيف يستطيع الكاتب ان يقفز على كل فخاخ اللغات واللهجات المستخدمة في حواراته، حديث الرجل المدني لا يشبه حديث الفلاح، والرجل الأمي لا يستخدم مفردات الطالب، وغير المتدين لا يتحدث كما يتحدث الفقيه. ماذا نتوقع ان تكون لغة (فلة العنابية) الوطنية سابقاً والعاهرة حالياً، بالتأكيد سنجد لديها طريقة تعبير خاصة، ومفردات خاصة لا نجدها عند إمرأة اخرى..
كذلك هي مفردات الرجل غير المتدين لنقل هنا الشيوعي، له طريقة ومفردات خاصة به لا تشبه بالقطع مفردات وطريقة تعبير رجل الدين الورع.. وهنا باعتقادي تكمن مهمة الكاتب المبدع .. كيف يكون صادقاً في موضوعه ومع شخصياته.. لهذا أقول في الاخير أما ان نستوعب الرواية كما هي كفن إنساني، له فضاؤه الخاص ووسائله الخاصة في التعبير، وبالتالي له حريته اللامحدودة في تناول الموضوع، وفي الطريقة التي يختارها الكاتب.. أو ان نقترح إلغاء الرواية من قاموسنا الأدبي والسلام، لأن ما يسعى إليه الأوصياء حراس الآداب والأخلاق والدين (من أجل رواية عاقلة ومؤدبة وشطورة)، هو نسف للرواية كفن إنساني يحاول عكس واقع صراع الإنسان ضد كل ما يقيد حريته .
وبعد أن يستتب الأمر لحراس الأخلاق من خلو الساحة من الروايات المشاغبة. اقترح عليهم المناداة علنا وجهراً من أجل لجم الفن التشكيلي، لأن هذا الفن مبتلي من بين ما مبتلي به بالتعامل مع الجسد الإنساني، والذي لحظه العاثر لا يقدمه في الغالب إلا بدون حجاب وحتى عارياً، والشعار سهل وجاهز (من أجل فن تشكيلي عاقل ومؤدب ويسمع الكلمة)، في الأصل وحسب كثير من مدارس الفقه الإسلامي يعتبر الرسم من المحرمات، لأنه يحاول التشبه بالخالق، حين يتلاعب الرسام والنحات بمخلوقاته، يعجنها ويشكلها على هواه ليجعلها تنطق في النهاية بما يريد هو. لنقترح بعدها إلغاء الشعر الحديث، الذي لم يكتف بتجاوز العروض والقوافي، بل أخذ يتمادى كثيراً في تشبيهاته واستعاراته التي لم يسلم منها حتى المقدس. هكذا نكون قد مهدنا الساحة للعودة الى العهد الذي عاش فيه النبي محمد ونشر دعوته.. والذي كان عهداً خالياً من الرواية والفن التشكيلي، ومقتصراً على الشعر الذي نسميه الان (القديم)، وحتى هذا قد هجاه النبي.
أنا شخصياً أبصم بالعشرة مع هذا الرأي الأخير الذي يريد العودة بنا الى ذلك العهد.. على الاقل كنا فيه أسياد الكون (الكون المعروف آنذاك)، لكن السؤال هو: هل هذا ممكن.. هل نحن قادرون حقاً على الهرولة مسافة 1400 سنة الى الوراء، لا لشيء إلا لأننا لا نستطيع العيش في عصرنا الراهن مع حفاظنا على ديننا وإيماننا.. وأي دين هذا الذي يدفعنا إلى كل هذا الولوج في الماضي فقط لنعبر عن التزامنا به؟؟ أليس بإمكان الإنسان المسلم، أن يعيش عصره بكل ملابساته التقنية وغير التقنية ويظل مسلماً، لان الاسلام بالاضافة الى كونه بعد روحي مطلوب للأنسان، هو أيضاً موقف، فلسفي وفكري من الحياة بكل تنوعاتها، والموقف أي موقف يفترض مسبقاً انه سيواجه مواقف اخرى، مضادة، معادية، مؤيدة، واستمراره من خلالها او رغماً عنها يتأتي من قوته ومدى انسجامه مع الواقع وحاجات الناس اليه، وأنا ما زلت هنا اتحدث عن مجرد التعايش ولا أقول المساهمة في الثورة العلمية والتقنية الحاصلة امام أنظارنا.. وهذا هو المطلوب بالتأكيد. من المخجل ان نواصل نفاقنا الى ما لا نهاية.. نظل مستهلكين تابعين لكل حسنات التكنولوجيا والعلم، وفي نفس الوقت نلعن العلم والتكنولوجيا والغرب الذي جلبها لنا كل ساعة.. متى نحاول الرجوع للعقل والحكمة في معالجة مشاكلنا، بدل الحنين إلى ماضي لا يمكن إستعادته، لأنه ماضي مضى وانقضى.. متى يتحرر نقدنا للآخر من مثلبة الإلغاء، بدل النيل من الأفكار التي يراد نقدها، الفكر بالفكر، الكتاب بالكتاب، القصيدة بالقصيدة، الرواية بالرواية، إلى متى نستسهل الحلول ونختصر المسافات للوصول إلى أهدافنا، في وقت نشاهد ونلمس ونتأكد يوماً بعد آخر إننا بهذه الوسائل نعقد مشاكلنا ولا نختصر المسافات.
كريم حسين
كاتب عراقي مقيم حاليا بهولندا. يمارس الكتابة منذ زمن طويل في مجال الرواية والقصة القصيرة ، إضافة إلى ممارسة النقد الأدبي كهواية. نشرت له قصص ومقالات نقدية في الصحف العراقية الصادرة خارج العراق على فترات متباعدة. له كتابين في مجال الرواية ومجموعة قصصية واحدة