(مقلب سعيد سالم…أى ( مقلب ) بهذا (الجمـــــال
إذا كانت قيمة”النص” هى جوهر مايسعى النقد الأدبى للكشف عن معطياته،فإن هناك أبعادا واعتبارات مواكبة تفرض نفسها- بدرجة أو بأخرى- بحيث لاتتجلى القيمة الجمالية الكلية للعمل الأدبى إلا من خلال أخذها فى الاعتبار..
وبالنسبة لرواية(المقلب)- أحدث أعمال الروائى السكندرى المعروف سعيد سالم الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة- فإن أية محاولة لعزلها عن مكوناتها المكانية ، سيكون مقضيا عليها بالفشل. إنها رواية عن هذه الأيام الطاحنة المطحونة، التى يتصارع فيها البشر على كل شىء بما فى ذلك مقالب القمامة، إلى حد أن هذا المقلب سيصبح معادلا موضوعيا للمدينة كلها ، بل لما هو أكبر من المدينة.. حتى أنه يتحدث–وهو الجماد- قائلا:
” فى الليل أرى أشباحا آدمية تبحث عن بقايا طعام بين النفايات، فأتغافل عن رقابتهم تأسيا لحالهم. من هذه النفايات أستطيع أن أعرف عن الانسان أكثر مما يعرف عن نفسه . أنا بقيت جمادا فى طينتى أما هو فتجاوز الطين الى أطوار أخرى انتهت بكائن مغرور يتيه بذاتيته التى لم يملك من أمرها شيئا.لقد حرت كثيرا فى فهم مسألة اختلاف معادن الناس.لماذا يكون هذا طيبا والآخر شريرا.هل خلقهم الله كذلك فلا يلاموا على ماهم عليه، أم أنهم أصحاب الاختيار؟..”..
وإذا بنا أمام رؤية واقعية للمدينة والمهمشين فيها من جامعى القمامة أمثال ناموسه وأورمه وأم الكنى والجرنش الذين يجمعون الفراخ الميتة-التى يسمونها الكعم- من الزبالة ثم يغسلونها فى الترعة ويدعكونها بالسبرتو الأحمر، ثم توضع فى صينية بطاطس بالطماطم والبصل وكثير من البهارات والشطة السودانى ، وعند هذه المرحلة تسمى الوجبة”تماخين”.. ومن غير المهمشين أمثال الدكتور طارق الألفى أستاذ الجامعة الانتهازى الذى يتاجر بأبحاث تلاميذه مع الشركات، والسناوى بك رئيس الشركة الغارق فى شهوة المال الحرام ، وفردوس الوديعة التى هربت الى أمريكا..”الجرأة صارت مذهبى.الحياة ملكى.يومى هو جميع عمرى.العيب والحرام هو مافعلوه بى. من حقى الآن أن أشعر بالنشوة وأن أحلق فى آفاق الحرية وأتخذ قراراتى بنفسى لنفسى.فردوس شعبان الخاضعة طول عمرها لإفعلى ولاتفعلى أصبحت اليوم إنسانة أخرى. من سوء حظى أننى امرأة شرقية عربية مصرية كرمها القرآن وأهانها الرجال. لماذا لم أولد فى هذه البقعة الساحرة من الأرض التى يتنفس أهلها الحرية مثلما يتنفسون الهواء؟”.. ويتوازى مع هذه الرؤية الواقعية رؤية رمزية يصل من خلالها صراع الذئاب الجائعة الى ذروتها، ويتحول مقلب القمامة الى ساحة معركة لانظير لها فى شراستها وجوها القاتم الملبد بالغيوم..”أمسكت برقبة الخواجه بذراعى الأيسر وأنا ألوح بالسيف بيمناى.ساد الفزع والارتباك بينهم.تعالت أصواتهم يطلبون منى التعقل والحكمة.لماذا يتخلى الجميع عن الحكمة وأبقى أنا الحكيم الوحيد فى هذا البلد؟..كنت أتنفس بصعوبة وغلّ الدنيا كله يغلى فى صدرى المذبوح..أنا الملك العزيز خليل السرياقوسى بمقلبى ، والعبد الذليل بدونه.توالت ضربات قلبى الخائن بشدة وتساقط شلال عرق من جسمى.شعرت بصدرى ينضغط بعنف خانق. فى نفس اللحظة سقط السيف من يدى ولم أشعر بشىء”.
والحديث عن(المقلب) لايصلح معه مثل هذا التنويه الموجزعلى قدر المساحة المتاحة هنا، فالرواية بنت هذه الأيام من حيث الموضوع ومن حيث الشكل أيضا، ولذا فإن علينا أن نبحث عن تفسيرات لهذه التكوينات اللغوية المبتكرة فيها…”يسكننى جن طيب مسلم لايؤذى الإنس.يحب الزبالين ، ويحكى لى عما يفعلونه بعيدا عنى. كنا نتسامر ذات ليلة فحكى لى عن رحلة أورمه بحثا عن أبيه الذى لم يره منذ طفولته”.. كما أن علينا أن نتقبل طبيعة البنية الحوارية التى تأخذ هيكلية السيناريو السينيمائى أحيانا… إلى غير هذا من الوثبات الفكرية والفنية المثيرة..”آه يابلدى لماذا أحبك بهذا الجنون وكيف أستطيع التثبت والتشبث بأرضك حتى لاأموت بسيف أبى، ومن أين لى بطمأنينة راسخة وأنا أفرح بالموجود وأحزن على المفقود..ولم الطمأنينة يارجل وكأنما ليست لرحلتك نهاية؟!..”
كذلك فإن الحديث عن (المقلب) لابد وأن يتسع ولو لكلمة موجزة – من خارج النص- عن هذا الكاتب الرائع سعيد سالم الذى يقترب من السبعين الآن ، ومع ذلك فهو مازال يتوهج فى صدره ذلك الشغب الطازج الذى كتب به رواياته وقصصه اعتبارا من جلامبو-1976- ومرورا ببوابة مورو وآلهة من طين وعاليها واطيها والشرخ والأزمنة وكف مريم وحالة مستعصية والشىء الآخر وأقاصيص من السويد…الخ..أكثر من عشرين كتابا ما بين روايات ومجموعات قصصية ، والى جوارها العديد من الكتابات النقدية والدرامية للإذاعة والتلفزيون، وآخرها قيد الطبع الآن عمل عجيب التكوين عن ذكرياته مع نجيب محفوظ فى الاسكندرية ، بعنوان:”نجيب محفوظ الإنسان”.. يحتاج وحده الى حديث خاص.
ان الهدف من هذه الكلمة أن تقول للناس ان لدينا فى الاسكندرية روائيين من الطراز الأول، فضلا عن جيش من الشعراء والفنانين ، وما أكثر الجديرين بالاعتبار والتقدير أكثر كثيرا مما يلقون، فهل هذا قابل للتحقيق أم أنه أمنية مستحيلة؟..