مما لا شك فيه أن مشهد الواجهة المحترقة لمقر الحزب الوطني الرئيسي على كورنيش النيل يولد في نفوسنا مشاعر متباينة ويدفع في أذهاننا أفكارا وأسئلة متعددة … ماذا حدث؟ لماذا حدث؟ ما هي الدروس المستفادة وكيف نتلافي الأخطاء ونعمل على ألا تتكرر أبدا؟
ويدفعني للكتابة اليوم الحوار الدائر حول أفضل السبل للتعامل مع المقر الرئيسي لأمانة الحزب الوطني ، فطرحت أفكار بتحويله إلى فندق سياحي أو حديقة عامة أو حتى بأن يضم إلى المتحف المصري القديم ، ورغم وجاهة تلك التصورات فالحقيقة أنها تغفل القيمة الرمزية والمعنوية الكبيرة التى بات مشهد هذا المقر المحترق يحتلها فى نفوس كل مصرى .
ففى خضم هذا الحوار الدائر علينا ألا نغفل البعد المعنوى والرمزى فى بناء الأمم ، ففي جنوب إفريقيا على سبيل المثال حرصت الدولة الديمقراطية الناشئة على أنقاض نظام التمييز العنصرى – الأبارتهايد – على إقامة متحف ضمير اسمه المقاطعة السادسة ، والذي يخلد ذكرى حي تم تجريفه بالكامل لصالح إقامة مساكن للبيض ، مما ساهم في خلق حوار حول حقوق الأرض وكيفية إصلاح القوانين للمحافظة عليها في المستقبل ، ولا يخفى على أحد من جهة أخرى كم النصب التذكارية والمتاحف بأنواعها التي أقيمت فى أنحاء العالم لتؤرخ للمحرقة النازية – الهولوكوست – لابقاء ذكراها حية فى الذاكرة الجمعية لضمان عدم تكرارها فى المستقبل .
ويقوم النصب التذكاري أو متحف الضمير بدور حيوي في المكان الذي تطرأ فيه تحولات سياسية تلي فترات من الظلم والاستبداد ، لأنه يصبح شاهدا على العصر يروي حكايته للأجيال المتعاقبة ، فيرتفع بمستوى الوعي المجتمعي ، ويؤثر في الحركة الثقافية والتاريخية للشعوب ، كما أنه يفتح لنا مجال المواجهة مع ماضينا مما يؤهلنا لتحقيق الديمقراطية فى الحاضر والمستقبل ، فهو الأداة التي نفتش فيها عن الحقيقة ونستنبط منها الدروس ونحقق الحوار والنقاش وزيادة الوعي المجتمعي لضمان عدم تكرار الأخطاء.
أليس من الأوقع أن نتيح للأجيال القادمة معايشة التاريخ وملامسته والتفاعل معه بدلا من أن تتحول الملاحم والمعاني الجميلة إلى سطور جافة في مناهج التعليم ؟
ومن هذا المنطلق أتمنى أن نحافظ على هذه البانوراما الرائعة على كورنيش النيل وليبدع فنانينا ومعمارينا تصورا لمتحف ضمير وذاكرة للتاريخ المصري الحديث يجمع بين العناصر السياسية والتاريخية والجمالية بحيث تتم عملية الترميم بشكل يحافظ على هذا المشهد المؤثر للمكان وما آل إليه في بداية ثورة 25 يناير، وليعكف المتخصصون في المجالات المختلفة بدراسة وإعداد مشروعا متكاملا يقوم على أحدث الأساليب التكنولوجية للعرض المتحفي والثقافي يؤرخ لثورات الشعب المصري ضد الاستبداد ، ويضم المعارض والأنصبة التذكارية و المكتبات السمعية والبصرية المدعمة بالوثائق وشهادات العيان المسجلة والأفلام ،إلى جانب الأعمال الفنية والأدبية بخلاف أنواعها ، وعلى أن يتضمن أيضا مراكز دراسة تفاعلية وورش عمل تؤسس لمبادئ حقوق الإنسان والحرية والعدالة والتعريف بها وبممارسة الديمقراطية وحقوق وواجبات المواطن.
وأتصور أن تكون هناك أقسام متوازية تخاطب الطفل والنشء بأعمارهم المختلفة مع استخدام أحدث التقنيات والوسائط المتعددة والميديا التفاعلية.
وقد يذهب البعض إلى أنه من الممكن إنشاء مثل هذا المتحف في أي مكان آخر ، ولكن إذا تأملنا قليلا فيما كان يرمز إليه هذا المبنى من استبداد سياسى وتزوير إرادة الأمة ونهب منظم لثروات البلاد تحت شعار “من أجلك أنت” المسخف بعقل المواطن والمستفز لمشاعره ، والأحداث المتلاحقة التي وصلت بالمواطن ليمثل بالمقر بهذه الطريقة الانتقامية ، وجب علينا استغلال هذا المكان بالذات والحفاظ على صورته الخارجية الحالية ، ليكون عبرة حية لكل من يحكم مصر فى المستقبل ، فكل حائط لطخه السواد وكل سيخ حديد ملتوي ينبض بقصة ويسرد درسا في التاريخ لنا ولأحفادنا .
أتطلع إلى اشراقة يوم تشد انتباه حفيدي … واجهة محترقة تثير التساؤل تطل على النيل على بعد مئات الأمتار من الكوبري الذي تمر عليه سيارتنا ، فيشير بإصبعه الصغير بحماس صارخا : ” إيه ده يا ستو ؟” فأعده بزيارة في الصباح الباكر إلى عوالم تفوق أحدث ألعابه المفضلة سوف تسرد لنا حكاوي وحكاوي ونتعلم منها الكثير .
من أجلنا حقا … وحتى لا ننسى.