كثيرة هي المعارك التي خاضها الدكتور طه حسين (1889-1973)، فمن يقرأ تاريخ المعارك الثقافية والفكرية في النصف الأول من القرن العشرين، لن يجد معركة، إلا وطه حسين طرفا فيها، سواء كان بادئا بها، عبر إثارته إحدى القضايا، أو بطرحه عدة أسئلة في مقال يستثير فيه الرأي العام، فيتبارى القوم ما بين مؤيد ومعارض؛ أو بتأليف كتاب، يقلب القناعات، ويسائل المسلمات، ويتحدى الأفكار.
وهناك معارك دخل طه حسين سجالَها بعد اشتعالها، مدليا بدلوه فيها، مثل معركة الأسلوب والمضمون، والتي اشتبك فيها مع مصطفى صادق الرافعي، وسلامة موسى. وهناك معارك وجبَ عليه الدخول فيها، مثل معاركه مع الجامعة، وصراعاته مع رجال السياسة في عصره. فلا يمكن قراءة حياة طه حسين، ومسيرته الفكرية، بدون التطرق إلى المعارك التي اشتبك فيها، بل يمكن الجزم، أنه نال الشهرة المبكرة في مصر ثم العالم العربي، من خلال كتابه "في الشعر الجاهلي"، والذي أوجد حالة هائلة من النقاش، والجدال، وصولا إلى القضاء، ناهيك عن عشرات الكتب والبحوث، ومئات المقالات التي تصدت لمناقشة الكتاب، وما أشعله من قضايا.
والمتأمل لهذه المعارك؛ يجد أنها دالة على سمة في شخصيته، بأنه لا ينأى عن المشكلات المثارة على الساحة، بل كان يتعمد أن يفجّر قضية، أو يطرح إشكالية، تكون قد شغلت تفكيره زمنا، وتتبعها بحثا وقراءة، ومن ثم رأى أن تكون مجالا للنقاش العام.
إن غالب القضايا التي فجّرها طه حسين، كانت ذات صلة مباشرة بالصراعات الفكرية التي سادت في مصر، والأمة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وهي في لبها تتصل بإشكالات الهوية والتراث والمعاصرة، وطرحَ سؤالا: كيف يمكن أن نلحق بركب الحضارة الحديثة؟ مستحضرا النموذج الأوروبي دائما في طروحاته، بل كان ينادي بأهمية الأخذ بجذور الثقافة الأوروبية ممثلة في التراث اليوناني والروماني، ثم العلوم الغربية الحديثة، مثل علوم الاجتماع والأدب والفنون ومناهج البحث.
ولعل الملمح الأبرز الذي يمكن استنباطه من المعارك التي خاضها طه حسين، منذ شبابه المبكر، وإلى شيخوخته، أنه امتلك ذاتا متمردة، لا تألف السكون، وترنو دائما إلى الجديد، حريصة على التطور الفكري، والاستزادة المعرفية. وهذا ما نقرأه في سيرته الذاتية "الأيام"، فحينما ذهب للدراسة في الجامع الأزهر؛ وجد خطاب المشايخ نسخة مكررة من كلام شيوخ قريته، وعندما عرف مجالس الشيخ محمد عبده(1849-1905)، سمع خطابا جديدا، وشروحا مختلفة لعلوم الشريعة، حتى إذا عاد في عطلة الصيف إلى قريته، وجد نفسه أعلم من القاضي في الشرع، وأفقه منه في الدين، غير أنه لم يظفر بشهادة العالمية. وعندما واجه طه شيخه في الكتّاب، تحدث معه ثائرا على ما علّمه من قبل، فقد أنبأه طه أنه تعلم في الأزهر أن التوسل بالقبور حرام، وإن كان ساكنوها من الأنبياء والأولياء، عكس ما قاله الشيخ من قبل.
هذا الموقف دال على أن طه حسين تعلّم في الأزهر عقيدة صحيحة، تنبذ خرافات الريف وبدع التدين الشعبي، وقد تلقّى من محمد عبده فكرا مختلفا، قوامه الانفتاح على كل طرح، وقبول كل رأي، ويُعدّ هذا في زمنه أمرا مغايرا، خاصة في مجتمع الأزهر، ولكن نؤكد هنا، على أن محمد عبده كان ينطلق من المرجعية الشرعية أولا، وما تلقاه من علوم في فرنسا ثانيا، عندما عاش فيها مع جمال الدين الأفغاني. هنا نؤكد على أن طه حسين تمرد على شيوخ الأزهر، لأنه تلقى رؤى جديدة من محمد عبده، وهو مفكر إسلامي، ولم يكن تغريبيا، فالشيخ عبده تلمس روح الإسلام وهو يشاهد حضارة الغرب في فرنسا.
إن روح التطلع والرغبة في التغيير، هي الوجه الآخر للتمرد، أو بالأدق هي الدافع لطه حسين، كي يخرج من تقليدية المجتمع الأزهري، وعندما حضر أول درس في الجامعة، وسمع أحمد زكي باشا (1867-1934)، يستهل كلامه بإلقاء تحية الإسلام، ثم الحديث عن الحضارة الإسلامية، دون أن يقول قال المؤلف فلان رحمه الله-كما يفعل الشيوخ في الأزهر-؛ انبهر بكلامه، وعرف أن الجامعة تقدّم مادة علمية حيّة، ولا تجترّ كتب الأقدمين، ولذا، سعى بكل قوة، إلى الالتحاق ببعثة الجامعة إلى فرنسا، لدراسة التاريخ القديم، وقد شجعه على السفر الشيخ عبد العزيز جاويش(1876-1929)، وهو مفكر إسلامي أزهري، تخرج في مدرسة دار العلوم، وهو من مناصري الدولة العثمانية فيه أبرزها: غنية المؤدبين، ومرشد المترجم.
سنلاحظ أن كلا محمد عبده وعبد العزيز جاويش كانا المؤثريَنِ في هذه الفترة في شخصية طه حسين، وهما أزهريان، تعلما في الغرب، فاتخذهما طه قدوة له، كما كانا معارضينِ للتوجهات الفكرية السائدة في الأزهر أو في التعليم، ولكن بنهج إصلاحي متدرج غير صدامي، ولا ثوري، مع مجتمع محافظ تقليدي.
لقد ظلت روح التمرد بوجهها الإيجابي كامنة في طه حسين طيلة حياته، وعندما سافر إلى فرنسا وعاد منها، كانت هذه الروح قد تشبعت بالفكر الغربي، مع الصدمة الحضارية. فقد حضرت المقارنة في ذاته، بين حال الوطن مصر، وبين الغرب المتحضر، ولم يكن أمامه إلا أن يحوّل شعوره بالصدمة الحضارية إلى المجتمع المصري آنذاك، ساعيا إلى توظيف منهجيات الغرب البحثية والعلمية في تقديم قراءات للتاريخ والفكر والقضايا الإسلامية، وكان أولها كتاب في الشعر الجاهلي، وقد ارتكز فيه على منهجية الشك عند ديكارت متشبثا بالعلمية والموضوعية، مع العودة إلى مقال مرجليوث عن نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي، وكلا المرجعينِ غربيان، وكان التطبيق على القرآن الكريم ثم الشعر الجاهلي، بخطابٍ أقرب إلى التعميم في نتائجه، وهو ما أثار عليه الدنيا، واضطر إلى إعادة إصدار الكتاب مع تخفيف بعض عباراته. الشاهد هنا، أن طه حسين لم يعد الشاب حديث السن المتمرد، وإنما هو أستاذ أكاديمي، يطبق منهجيات بحثية استشراقية، ويرى نتائجها حقائق، وقد تصدى له أكاديميون ومفكرون، وأعملوا عقولهم، وبحوثهم، وأكدوا أن العلماء المسلمين القدامى كانوا من النزاهة العلمية والتجرد بما يفوق فلسفة ديكارت، ويدحض مقولات مرجليوث. ولكن نؤكد أن نتيجة هذه المعركة كانت تحريك البحيرة الراكدة؛ المتصلة بالبحث في تاريخ الأدب العربي، حيث اشتد ماؤها وموجُها، فأثمرت نقاشا علميا ثريا، قرأ تراثنا بعيون مختلفة، وسعى إلى طرح قضايا أخرى.
لقد تمسك طه حسين كثيرا بمنهجيات المستشرقين-وإن كان أشار في مرات متعددة، إلى تحامل بعضهم ضد العرب والإسلام- قد دأب على ترجمة بعض مقالاتهم وبحوثهم، وطرحها للرأي العام، وهو ما جلب عليه معارك، كلما خبا سعيرها، عاد واشتد. وأبرز مثال على ذلك، ترجمته لمقال للمستشرق الفرنسي بول كازانوفا (1879-1926)، والذي كان يحاضر في الجامعة المصرية، وتوفي في مصر. وكان المقال حول مكتبة الإسكندرية وهل حرقها العرب بأمر من الخليفة عمر، عندما فتح عمرو بن العاص مصر. وهي أكذوبة شائعة في كتابات الاستشراق، والهدف منها إدانة الفتح العربي، وأنه كان همجيا، ضد الدولة الرومانية المتحضرة التي كانت تحتل مصر. وقد نشر المقال في جريدة السياسة الأسبوعية في العام 1923، وتصدى للرد أستاذ طه حسين السابق في الجامعة، وهو أحمد زكي باشا، والذي رفض هذه الفرية، فمن الثابت تاريخيا في تاريخ الدولة الرومانية، أنه في العام (48 ق.م)، قام يوليوس قيصر بحرق (101) سفينة كانت راسية على شاطئ البحر المتوسط، أمام مكتبة الإسكندرية، وامتدت نيران حرق السفن إلى المكتبة فأحرقتها. وهو ما أكده المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "تاريخ العرب"، وكذلك ول ديورانت في موسوعته "قصة الحضارة". ولكن طه حسين يرد، ويعرّض بأحمد زكي باشا، متهما إياه بالتعصب للعرب، دون النظر إلى حقائق التاريخ، ويقول: "ما الذي يمنع أن تكون هناك خزانة كتب تحرّقت أثناء فتح الإسكندرية دون أن يكون عمر قد أمر بتحريقها ودون أن يكون عمرو قد أحدث هذا التحريق. فإن أخذ المدن عنوة يستتبع أهوالا كثيرة من التحريق والتدمير, ذلك إلى أن هذا التأويل الذي أفترضُه (أنا) سهل معقول في نفسه لا يأباه المنطق ولا ينكره التاريخ".
سنلاحظ أن رد طه حسين ارتكز على افتراض عقلي، وغير نافٍ بفرضية كازانوفا وادعاءته، أما محاجاة أحمد زكي باشا فكانت بالأدلة الموثقة. وبغض النظر عن مجريات هذه المعركة، فإننا نؤكد أن طه حسين حرص على التعريف بآراء الاستشراق الغربي، وذلك في حقبة مبكرة في القرن العشرين، حيث كان علم الاستشراق مترسخا، وقدّم -في كثير من طروحاته- صورة مشوهة عن العرب والإسلام، وهي الصورة التي روّجت في الغرب الاستعماري، ولم تجد كتابات مضادة تردّ عليها. فكانت مثل هكذا ترجمات، سبيلا للقارئ العربي، ليطّلعَ على ما يقوله المستشرقون، ومن ثم ينبري الباحثون للرد عليه، وهو ما يؤكده أحد تلامذة طه حسين، وهو الدكتور محمد مندور (1907-1965)، في كتابه "معارك أدبية"، بأن "الدكتور طه حسين حرص على أن يغذي الروح الشرقية، والتفكير الشرقي، بمنتجات قرائح الغرب".
أما كتاب "مستقبل الثقافة في مصر"، فقد أثار عاصفة كبرى، بسبب استهلال طه حسين له بأهمية اتخاذ درب العقل اليوناني ثم العقل الأوروبي بمكوناته: اليونانية والرومانية والمسيحية. فوضع النموذج الغربي مقياسا وسبيلا، وتجاهل بشكل كبير خصوصية الثقافة الإسلامية. وفيما عدا ذلك، فإن بقية مقالات الكتاب عبارة عن رؤى في قضايا التعليم الأوليّ (الابتدائي) والثانوي، والعام، وأيضا مشكلات تكدس التلاميذ في المدارس. وبعبارة أخرى: هذا الكتاب يأتي على محورين، الأول: ينظر إلى مرجعية التعليم التي يأملها طه حسين في مصر، وهي مرجعية أوروبية يونانية في الأساس، ويعززها بإشارات مختلفة عن تلاقي العقل المسلم بالثقافة اليونانية. وهذا ما يدور الخلاف عليه، لماذا؟ لأنه تجاهل أن الحضارة الإسلامية العظيمة وضعت أسس نهضتها ومناهجها العلمية من هويتها ومرجعيتها الثقافية الإسلامية، التي أوجبت التأمل والدراسة والبحث، وهو ما قام به العلماء المسلمون، بأن أبدعوا وابتكروا عشرات العلوم، ناهيك عن تميزهم في مجال الفلسفة الإسلامية بعدما اطلعوا على الفلسفة اليونانية، والتي كانت جزءا من نشاطهم، ولكنها لم تكن أبدا سببا في نهضتهم، فقد نهضوا بدافع ذاتي حضاري، وعندما اطلعوا على الثقافات الأخرى: اليونانية، الهندية، الفارسية.. إلخ، كان من باب الندية الحضارية، وليس الاستلاب الحضاري، الذي سقط فيه طه حسين.
والمحور الثاني: يشمل قضايا التعليم في مصر، وهي إشارات تعليمية وتربوية، حول معاهد العلم، وقضايا اللغة العربية، واللغات الأجنبية، وكلها رؤى اتسمت بالعمومية، وهي حصيلة اطلاع طه حسين كما ذكر في مقدمة الكتاب عن الاتجاهات التربوية الحديثة في أوروبا. ربما نتفق أو نختلف عليها، ولكنها تبقى رؤى عامة، تسعى جاهدة لتطوير التعليم في مصر، في زمانها، وهي رؤية لا أراها تخرج في كثير من جوانبها عن آراء خبراء التربية. والقضية ليست في التنظير فما أكثره، القضية في التطبيق، وقبل التنظير والتطبيق لابد من الاتفاق على المرجعية الثقافية، والتي أرى أن أي نظام تعليمي، لابد أن يستلهم أسس حضارتنا الإسلامية العريقة، مع الانفتاح على التعليم الغربي. ولكن الحاصل الآن، أن المرجعية الحضارية غائبة، والتركيز فقط على الأخذ بنظم التعليم الأجنبية، كما في مدارس اللغات، والجامعات الخاصة وغير ذلك.
وختاما، نطرح سؤالا مفاده: ماذا يبقى من طه حسين؟ والإجابة أننا-نحن الأجيال التالية له- عندما ندرس شخصيته، نتعجب من روح التمرد عنده، التي وظّفها ليطور فكره وذاته، ويخرج من أسوار الجامعة، وضيق الأكاديمية، إلى رحابة المجتمع والفكر والحياة، واضعا نصب عينيه سؤال النهضة للوطن والأمة، وهو سؤال لابد أن يكون بوصلة لنا.