المصدر موقع الأيك للكاتب عزت القمحاوي
في الليل تحول شرجه إلى حلقة نار، لكنه ظل قابضًا على الألم بتكتم، لا يظهر إلا عندما تخونه تقلصات وجهه. رفض استدعاء طبيب:
ـ شيء بسيط لا يستحق.
وضعت يدها على جبهته تجس حرارته، وسألته:
ـ متأكد؟
واضطجعت إلى جواره.
ـ ضعي سدادتي الأذنين.
ـ لن أضعهما، قد تحتاج شيئًا.
مد ذراعه تحت رأسها، واحتواها بالأخرى، التصقت به، فأخذت أصابعه تتلمس ظهرها. أحس بتبرعم نهديها تحت قميصها الرقيق، بينما كانت كل قدراته العصبية تتركز في الألم الذي انتشر في كل جسمه، حتى صار انقباض صدره مؤلمًا أكثر من أسفل ظهره؛ فتوقفت يده عن مداعبة ظهرها. تسرب هموده إلى جسدها، وبعد لحظات بدأت أنفاسها تتردد منتظمة. تزحزح مبتعدًا بخفة، وانقلب مستقبلاً السقف، مقرفصًا ساقيه لكي يتهوى أسفل ظهره.
كز على أسنانه «لا أتذكر ألمًا كهذا». بلغ هذه السن دون جراحات أو أمراض، باستثناء نزلات البرد، التي تضعه في بؤرة اهتمام إخوته، ويستعذبها باعتبارها عطلة إجبارية محدودة. حتى دغدغات الحرارة ورعشة البرد، التي تعتريه أثناء تلك النزلات، لها نشوة المخدر المريح للأعصاب.
عندما بدأت أنوار النهار تعلن عن نفسها خلف الستائر الداكنة، أخذته غفوة حلم خلالها بالتصاقه بجسد فتاة شابة، قطع الألم حلمه، واستيقظت خديجة على تقلبه. نظرت إلى وجهه، فأدركت من إنهاكه واحمرار عينيه، أنه لم ينم. قالت:
ـ يبدو أنك تألمت كثيرًا في الليل، لماذا لم توقظني؟
لم يرد. وأحست بأنها أمام شخص لا تعرفه. إنسان ضعيف وحساس يستحق المساعدة.
ـ قم، ارتد ملابسك، سنذهب إلى طبيب.
في دقائق صارا جاهزين، وضع جوازه مع وثيقة تأمين السفر الصحية. نظرت في ساعتها:
ـ لم يزل الوقت مبكرًا، نمر بالمطعم نأكل شيئًا؟
أومأ موافقًا. تخيرت الطاولة الخالية في الصف الأول الذي يحبه بالشرفة، أجلسته، وطلبت له الاسبرسو المزدوج، ولنفسها شاي «إنجليش بريكفاست» ومضت تجلب إفطارًا. تلفت حوله؛ فأحس أنه غريب دخل حفلاً بطريق الخطأ، يتأمل ما يراه بفضول؛ إيماءات التحية الباسمة ذاتها بين الجميع، الطيور التي تحلق في دوائر وتحط على قمم الأشجار، ألوان الورود المبتهجة في أحواضها، والنصاعة التي تشمل كل شيء، كلها تبدو عديمة الانسجام مع موجات الألم التي تهجم كالمغص، ثم تنشب أظافرها في عضلة قلبه، ولا تسكن إلا لتبدأ من جديد.
وضعت النادلة الشاي والقهوة أمامه، أغرق كيس الشاي في الإبريق، وشرع في ارتشاف قهوته. عادت خديجة بطبقين، وجلست بجواره. أخذت تُطعمه في فمه، فلم يرد يدها، رغم أنه لا يجد طعمًا لأي شيء. رجاها أن تأكل هي، وأخذ يكمل القهوة، مشاغلاً ألمه بتأمل الوجوه؛ من خلال درجات الاسترخاء البادية على الوجوه يحاول أن يكتشف من قضى ليلة حب طيبة، ومن نبر الحديث بين المثاني يحاول اكتشاف الطرف الأقوى في العلاقة، أو الأكثر حبًا. بعد طول تحديق فكر «ميزان الحب يشبه ميزان العدالة، من النادر أن يستقيم».
في البهو توقفت، وسألت الكونسيرج عن مستشفى. أجاب:
ـ يوجد مركز صحي، لكنني لا أنصح بالذهاب إليه، يدخل الإنسان عندهم بصداع فيخرج بذراع مبتورة.
ووصف لهما المكان، لكنه نصح بطبيب في الجوار. سألته خديجة:
ـ هل يكون في عيادته الآن؟
أجابها:
ـ عيادته هي بيته، اطرقا الباب جيدًا.
سار جمال متساندًا عليها. شقة الطبيب طابق ثان فوق محال صغيرة، مدخله عبر سلم ممتد في الحارة. طلبت خديجة من جمال الانتظار وهرولت صاعدة، أخذت ترن الجرس وتطرق الباب، حتى خرج بائع من محله وتطلع إليها ليخبرها بأن الطبيب خرج منذ نصف ساعة. لم يجدا بُدًا من التوجه إلى المركز الصحي، الذي يقع على بعد دقائق مشيًا بعد ساحة أومبرتو الأول.
في الاستقبال لم يطلبوا شيئًا، منحوه رقمًا، وأشاروا لهما إلى غرفة الفحص المختصة. استقبلهما الطبيب ببشاشة، وأجلسهما. استمع إلى شكوى جمال، وأمره بالتوجه إلى خلف الحاجز والكشف عن الموضع، ثم ارتدى قفازيه ومضى وراءه. أمره:
ـ انحن.
وأخذ يتحسس الشرج، ثم قال:
ـ بسيطة، التهاب من المشي، لكنك تركته حتى تفاقم.
عاد ليجلس خلف مكتبه، بينما أعاد جمال تسوية ملابسه وتبعه. جلس أمامه في مواجهة خديجة. وصف الطبيب مضادًا حيويًا موضعيًا وخافضًا للحرارة، ثم سألهما:
ـ من أين أنتما؟
أجابته خديجة:
ـ من مصر.
صاح الطبيب:
ـ Egitto !
وأخذ يسأل عن الوقت الأفضل لزيارة الأقصر، لأنه يريد ترتيب رحلة لأسرته من أجل ابنته ابنة الثانية عشرة الممسوسة بالفراعنة. أجابه جمال:
ـ من بداية نوفمبر حتى آخر أبريل، يكون الجو ممتازًا.
تدافعت الأسئلة من الطبيب؛ فترك جمال لألمه العنان، كأنما ليُطلع الطبيب على أبعاد حالته التي يتكتمها بقدر استطاعته إشفاقًا على خديجة. وعندما لم يتمكن من جذب اهتمامه، سأله:
ـ هل يوجد موت في كابري؟
جلجلت ضحكة الطبيب وأجابه:
ـ لا تخف، هل رأيت أحدًا يموت من مؤخرته؟
اختلطت تقلصات الألم مع الابتسامة، وعاد يسأله ضاحكًا:
ـ لست خائفًا، مجرد سؤال لأني درت حتى التهبت مؤخرتي، دون أن أرى مقابر.
تدخلت خديجة موضحة:
ـ حبيبي، المقابر مررنا بها في الطريق إلى فيلا ليسيس.
عقّب الطبيب جادًا:
ـ الموت موجود، لكن السُيَّاح لا يتوقعونه في كابري.
أجاب جمال مُصرًّا:
ـ لم أر موكب دفن، منذ وصلنا إلى هنا.
ـ لأنك لا تريد أن ترى. أنا شخصيًا، حضرت أمس في كنيسة سانتو ستيفانو قداسًا على ميت صباحًا، وحفل زواج بعد الظهر.
قالت خديجة:
ـ رأينا الزفاف، أمس.
قال الطبيب:
ـ ولو أجريت استقصاءًا بين السُيّاح الآخرين ستجدينهم كلهم مثلكما؛ رأوا العُرس فقط، وهذا ليس سيئًا أبدًا.
شد على يديهما مودعًا، ناصحًا جمال بالراحة التامة.
