الجزء الخامس
شهر مايو.. سنة 1953
كان جمال يشعر بألم فى بطنه لم أعلم به إلا بعد مدة لعدم وجوده فى البيت أغلب الوقت. فى يوم قبل خروجه فى الصباح قال لى: سأحضر على الغداء وأريد أكلا خفيفا من الخضار المسلوق لأننى أشعر بألم بسيط فى بطنى. جهزت الأكل كطلبه وحان وقت الغداء ولم يحضر. وبعد أن انتظرته تناولت الغداء وقلت إنه مشغول ولم يجد وقتا للحضور. حضر عبدالحكيم عامر وطلب مقابلتى. وقال لى: جمال الحمد لله بخير وفاق من البنج بعد إجراء عملية المصران الأعور له، ويسأل عنك ويريدك أن تذهبى له فى المستشفى الآن. فاندهشت وقلت: كيف أجريت له عملية ولم يقل لى وطلب منى إعداد غداء خفيف؟! قال عبدالحكيم: لقد كنت معه أثناء إجراء العملية والحمد لله. ذهبت له فى مستشفـــــى الدكتور مظهر عاشور الضابط بالجيش. قلت: كيف تجرى عملية ولم أعرف؟! قال: لم أرد إزعاجك. وقال: بعد أن خرجت من البيت فى الصباح حضرت للمستشفى ومعى عبدالحكيم، وكنت مرتبا من أمس الحضور للمستشفى وإجراء العملية، وحتى لا تعلمى بشىء قلت لك جهزى الغداء.. وابتسم وقال: الحمد لله يا تحية. كنت أذهب كل يوم لزيارته ومعى الأولاد، إذ كان يطلبهم، ولا أمكث إلا وقتا قصيرا لكثرة الزوار. قابلت عبداللطيف بغدادى وزوجته فـــــــــى المســــتشفى يزورانه، وكنت أول مرة أراه وأتعرف بزوجته.. وقالت إنها ستزورنى فى البيت. مضى أسبوع ورجع جمال إلى البيت.. وبعد أيام قليلة ذهب إلى مرسى مطروح وذهبت معه والأولاد ورافقنا الدكتور مظهر عاشور، ليكون بجواره وقت النقاهة، ودعا جمال زوجة الدكتور وابنته لتكونا معنا.
مكثنا فى مرسى مطروح فى استراحة قديمة البناء وفى غاية التواضع، ليس بها مفروشات إلا الضرورية وقديمة.. حتى لم يكن بها حجرة سفرة، وتوجد ترابيزة فقط وعدد من الكراسى فى الصالة، وحضر جمال سالم وبقى مدة إقامتنا.. مكثنا أسبوعا ورجعنا القاهرة.
الشكاوى والطلبات تصلنا بكثرة بالبريد أو يحضر أصحابها ويسلمونها لعسكرى الأمن لتوصيلها لى وأعطيها لجمال عند حضوره. قال لى: لا تقابلى أحدا من السيدات إلا بعد سؤالى.. اللاتى لا أعرفهن طبعا. وقعت على رجلى ووضعت ساقى فى الجبس أسبوعين، وبعد فك الجبس كنت أذهب إلى مستشفى الدكتور مظهر عاشور وكان هناك دكتور عظام لعمل علاج بالكهرباء على ساقى. وفى أثناء ذهابى للمستشفى وجدت حرم أنور السادات هناك وأخبرونى بوجودها، وكانت قد أجريت لها جراحة فى أصبع يدها وتمكث فى المستشفى.. زرتها فى الحجرة وكانت أول مرة أراها وأتعرف بها.
كنت نائمة واستيقظت على صوت دخول عربات جمال وأعضاء مجلس الثورة كلهم.. قمت ونظرت من الشباك فى الظلام وجدتهم يدخلون البيت ومعهم اللواء محمد نجيب وعرفت بإعلان الجمهورية.. قلت فى نفسى: كنت نائمة وصحوت على رئيس جمهورية فى نصف الليل فى بيتنا! مكث اللواء محمد نجيب وأعضاء مجلس الثورة وقتا قصيرا وانصرفوا، ودخل جمال الحجرة ورآنى واقفة. حكى لى عن إصرار محمد نجيب على الحضور لزيارته فى بيتنا بعد إعلان الجمهورية مباشرة وتنصيبه رئيسا لها.
فترة المباحثات مع الإنجليز
قبل جلاء الإنجليز عن مصر وقت المباحثات كان جمال يحضر العشاء مع بعض الأجانب وكنت أدعى معه ويعتذر عن عدم حضورى.. ويقول لى بعد رجوعه البيت: إنك كنت مدعوة معى واعتذرت. وسيدات أجانب من الضيوف وزوجات السفراء يطلبن مقابلتى، ويحدد لهن ميعادا لزيارتى وأتعرف عليهن. كنت أجد صعوبة فى التحدث باللغة الإنجليزية، ففكرت فى إتقانها وأحضرت كتبا وبدأت أقرأ كثيرا بمساعدة أستاذة فى اللغة الإنجليزية، كانت تعلمنى الطريقة التى أتقدم بها فى اللغة.. وكنت مهتمة وأظل أقرأ وأكتب وقت سهر جمال.
وكان أحيانا عند رجوعه فى ساعة متأخرة يجدنى لم أزل لم أنم.. وطبعا كنا نضحك. أما اللغة الفرنسية فكنت قد قضيت بضع سنوات وقت الدراسة أتعلمها، ولم أجد صعوبة فى التحدث بها وتقدمت فيها بالقراءة أيضا. فى صيف سنة 1955 ذهبنا إلى الإسكندرية فى بيت على الكورنيش مبنى على صخور عالية مكون من دورين، استأجرناه ولم يشاركنا جيران فيه، وكنت أذهب للشاطئ مع الأولاد وأجلس فى كابينة بسيدى بشر وبجوارى عبدالحكيم. وكان الرئيس يحضر مرات قليلة للإسكندرية ولا يمكث أكثر من يومين أو يوم، ولم يكن حضوره ليستمتع بالبحر، ولم أره ذهب للشاطئ أبدا.. وكان يحضر ليمضى معنا وقتا. وبعد انتهاء الصيف أى فى شهر سبتمبر رجعنا للقاهرة. للآن لم أخرج مع جمال أبدا بعد قيام الثورة إذ لم يكن يوجد وقت أبدا لنخرج سويا.
وكان خروجى قليلا، وكنت أذهب إلى السينما والمسرح الذى أحبه، والأوبرا عند حضور فرق أجنبية، وأحضر حفل أم كلثوم.. وكنت أدعى للذهاب وترافقنى إحدى السيدات من أقاربى أو زوجات الضباط.. وكان يقول لى: فلتخرجى وتتسلى، ويظهر عليه الارتياح والسرور عندما يعرف أننى خرجت أو سأخرج ويقول: المهم أن تكونى مسرورة وتقضى وقتا مسليا.
مؤامرة سلاح الفرسان.. أول الصيف (مايو 1954)
حضر جمال للبيت وكان الوقت المغرب.. قال لى: جهزى نفسك والأولاد واذهبى لشقيقتك فى الجيزة وخذى معك ملابس للنوم وامضى الليلة عندها، ويجب أن تغادرى البيت قبل الثامنة مساء، لأن البيت ربما يهاجم ويحتمل دخول بعض الضباط بالدبابات لنسفه، ولا ترجعى إلا بعد أن أكلمك بنفسى بالتليفون. جهزت شنطة وضعت فيها الملابس وطلبت العربة وهى الأوستن السوداء وكنت أخرج بها، وأدخلت فى الحديقة، وكان جمال فى الصالون ومعه ضباط ولم يغادر البيت. جلست فى حجرة المكتب أنتظر خروجه، وفى الساعة الثامنة مساء دخل جمال الحجرة ورآنى والأولاد لم نزل فى البيت.. قال: كيف لم تغادرى البيت للآن؟ قلت كنت أنتظر خروجك وأخرج. فقال وهو منفعل: يجب أن أذهب إلى القيادة الآن، وكيف أخرج وأنتم ما زلتم فى البيت؟! وكان الذى فكرت فيه كيف أخرج وهو لا يزال فى البيت؟! فقلت: العربة فى الحديقة وسأغادر البيت حالا، وكانت عربته قد دخلت الحديقة أيضا وركبنا.. هو عربته وأنا والأولاد العربة الأوستن وخرجنا سويّا فى وقت واحد. ذهبت لشقيقتى فى الجيزة وكانت الساعة التاسعة فقابلتنى وقالت: الوقت متأخر والأولاد معك.. أين كنتم؟! فأخبرتها عن سبب مجيئنا فى هذا الوقت فسكتت وبان على وجهها هى وزوجها الوجوم.
قضيت الليلة وكنت أنام وأصحو.. كان نوما متقطعا، وكلما صحوت أفكر: ماذا جرى؟ يا ترى هل نسف البيت؟ وفى الصباح كنت أتناول الإفطار مع الأولاد وشقيقتى، وسمعت جرس التليفون وكان المتحدث جمال عبدالناصر.. قال لى: الآن يمكنك الحضور.. أكلمك من البيت وقد حضرت الآن وسأنام. وقد أرسلت لك العربة وهى فى الطريق.. فقلت: الحمد لله. وتركت شقيقتى بسرعة وكانت تصر على أن أبقى معها أتناول الغداء. رجعت البيت.. وجدت جمال لم ينم وقال: إنها كانت مؤامرة فى سلاح الفرسان والحمد لله قبضنا على الضباط المتآمرين. وقال: كنا جاهزين وعارفين الوقت الذى سيتحركون فيه، لكن قلت: ربما تخرج دبابة وتصل للبيت وتضربه، والأحسن أن يكون خاليا حتى أطمئن عليكم.. فقلت: الحمد لله.
العدد الأول لجريدة الجمهورية
بعد قيام الثورة بشهور قليلة بدأ جمال يحضِّر لإصدار جريدة يومية، واشتغل وبذل جهدا كبيرا قبل إصدارها. وكنت أسمعه وهو يتحدث بجانبى بعد رجوعه إلى البيت فى الليل ويوجه تعليمات وترتيبات ومشاورات وكانت تكتب نسخ وأراها فى البيت كنموذج، ويغير ويبدل فى ترتيبها وشكلها عدة مرات وذلك قبل إصدارها.. وأخيرا صدرت جريدة الجمهورية.. وكانت الفرحة على وجهه وهو يسلمنى العدد الأول، وكنت أعتز بجريدة الجمهورية لما شاهدته من اهتمام جمال عبدالناصر بها. كانت مقالات مهمة تصدر فى جريدة الجمهورية باسم أنور السادات والذى كان يكتبها هو جمال عبدالناصر. وفى مرة قلت له: إن هذه المقالة من كلامك وقد عرفته وفهمت أنك كاتبها.. فرد وقال: نعم.
«مصحفا» جمال .. ومحاولة اغتياله بالمنشية
ذهبنا إلى الإسكندرية واستأجرنا دورا فى فيللا على الكورنيش.. سكنا فى الدور الأول، والثانى كانت تسكنه عائلة.. أى كنا نشترك مع جيران. كان جمال يحضر كل أسبوع أو أسبوعين ويمضى معنا يوما واحدا ويرجع إلى القاهرة فى منشية البكرى. وكان وقت الحج.. وسافر جمال عبدالناصر لأداء فريضة الحج فى صيف سنة 1954 شهر أغسطس. رجعت من إسكندرية لأكون فى استقباله فى القاهرة ومكثت بضعة أيام ثم عدت للإسكندرية، وبقينا حتى شهر سبتمبر. فى شهر أكتوبر.. فى آخره كان جمال عبدالناصر سيلقى خطابا فى الإسكندرية فى ميدان المنشية. غادر البيت وقت الغروب. وقبل خروجه كان يضع دائما فى جيبه مصحفا صغيرا فى غلاف من المعدن الأبيض. لم يجده وقت خروجه وكان مستعجلا إذ سيسافر بالقطار.. فأخذت أبحث عن المصحف وأنا مسرعة ولم أجده.. فأحضرت مصحفا آخر بغلاف من الكرتون فأخذه جمال ووضعه فى جيبه. وعند خروجه وجدت المصحف ذا الغلاف المعدن الذى اعتاد أن يخرج به فجريت مسرعة وأعطيته له، وكان بالقرب من الباب فأخذه ووضعه فى جيبه وخرج بالمصحفين.. وكان حادث ميدان المنشية بالإسكندرية أثناء إلقائه الخطاب وإطلاق الرصاصات الثمانى عليه ونجاته.. فظل جمال عبدالناصر يخرج بهذين المصحفين حتى يوم 28 سبتمبر سنة 1970. وكان عند رجوعه إلى البيت يضعهما بنفسه فى مكان لا يتغير فى الحجرة.. وقد فعل نفس الشىء يوم 28 سبتمبر سنة 1970.. والآن أنا محتفظة بهما وأعتز بهما. حدثنى جمال عبدالناصر بالتليفون بعد الحادث مباشرة وقال لى: ستسمعين الإذاعة.. أنا بخير لم يصبنى شىء ولا تنزعجى. بعد يومين من الحادث مرض خالد ابنى بالزائدة الدودية وكان عمره 4 سنوات وثمانية أشهر. حضر الدكتور مظهر عاشور وفحصه وقال: يجب إجراء جراحة له فورا. وكان جمال عبدالناصر عنده اجتماع والدكتور ظل مع خالد يلاحظه. وقبل خروجه للاجتماع قال للدكتور: تصرف كما تستدعى الحالة. رجع الدكتور لمستشفاه ليجهز لإجراء العملية، ثم حضر بنفسه وأخذ خالد فى عربة وذهبت معه وكانت الساعة العاشرة مساء. وفى الساعة الواحدة صباحا حضر جمال للمستشفى قبل ذهابه للبيت، ومعه بعض أعضاء مجلس الثورة ليطمئن على خالد بعد إجراء العملية. مكثت فى المستشفى مع خالد ثمانية أيام كان جمال يزوره كل يوم لدقائق. زار محمد نجيب خالد فى المستشفى وأحضر علبة شوكولاتة.
تهنئة برئاسة الوزارة من هيكل
كنت نائمة ومستغرقة فى النوم وسمعت جرس التليفون فأخذت السماعة، وكان المتحدث محمد حسنين هيكل.. قال: أهنئك جمال عبدالناصر رئيس مجلس الوزراء. فقلت: تانى.. فضحك هيكل وهأهأ وقال: أهنئك برئاسة جمال عبدالناصر الوزارة وتقولين تانى؟! وكان فى منصب رئيس الوزراء لفترة قصيرة، وبعد خلافات ومشاكل تركها لمحمد نجيب. وقال هيكل: لقد أردت أن أخبرك وأهنئك قبل وصوله للبيت.. إنه فى الطريق إليه.
مولد عبدالحكيم فى 7 يناير 1955..
قبل ذهابى للمستشفى طلبت جمال عبدالناصر، وكان عنده اجتماع فى البيت مع وفد سودانى والوقت مساء. أخبرته بأننى سأذهب للمستشفى فقال: يوجد عندى وفد سودانى ولكن ممكن أن ينصرفوا وأذهب معك.. فقلت: سأذهب بمفردى ولا داعى للقلق.. فى الساعة الحادية عشرة مساء ولد عبدالحكيم. تحدث الدكتور بالتليفون مع جمال وهنأه وأخبره بأننى والمولود بخير، فرد جمال وقال: سأحضر الآن، فقال الدكتور: لا تتعب ولتبق حتى الصباح. فقال له جمال عبدالناصر: لقد اعتدت أن أحضر معها للمستشفى وأهنئها بسلامتها مباشرة.. وفى الساعة الثانية عشرة مساء حضر جمال ورأى المولود وقال: عبدالحكيم.. وكان قد قال من قبل إن المولود إذا كان ولدا سأسميه عبدالحكيم.
اللقاء الأول مع يوانكا بروز تيتو
فى ديسمبر سنة 1955 حضر الرئيس اليوغوسلافى جوزيف بروز تيتو وزوجته السيدة يوانكا إلى مصر فى زيارة لأول مرة. وكانت السيدات بعد الثورة لا يزلن لا يشتركن فى المآدب التى تقام للضيوف.. فحضرت السيدة يوانكا بروز تيتو لزيارتى مع السيدات المرافقات لها فى منزلنا فى منشية البكرى، وأقمت مأدبة عشاء لهن حضرتها زوجات الوزراء. طلبت السيدة قرينة الرئيس تيتو رؤية أولادنا.. وهى طيبة جدّا ورقيقة تحب الأطفال، وطلبت رؤية عبدالحكيم وكان عمره أحد عشر شهرا، وحملته بين ذراعيها وقبلته.. وهى للآن لا تنسى عبدالحكيم ورؤيتها له أول مرة وتحبه، وكلما زارونا تصافحه بحرارة وتجلسه بجوارها وتدعونا لزيارتهم فى يوغوسلافيا. زرتها فى قصر القبة بمفردى، وكانت أول ضيفة أزورها فى قصر القبة. وأثناء الزيارة دخل الرئيس تيتو الصالون وصافحنى وجلس معنا لدقائق.
تأميم الشركة العالمية لقناة السويس
فى صيف سنة 1956 ذهبنا للإسكندرية فى نفس البيت الذى كنا فيه فى الصيف السابق. وقت الاحتفال بأعياد الثورة وقبل 23 يوليو رجعت والأولاد للقاهرة كما هى عادتنا، وفى 25 يوليو ذهبت إلى الإسكندرية مرة أخرى. وفى يوم 26 يوليو فى المساء حضر الرئيس للإسكندرية لإلقاء الخطاب فى ميدان المنشية، وبعد أن صافحنى قال إن عنده اجتماعا مع الوزراء فى الصالون فى البيت، وسيحضرون بعد قليل. وكنت سأذهب لسماع الخطاب فى عمارة بجوار المبنى الذى سيكون فيه الرئيس فى ميدان المنشية.
خرجت.. وهو لا يزال مجتمعا مع الوزراء فى الدور الأول فى الصالون، وذهبت قبل وصوله وجلست فى شرفة لأراه وأسمعه وهو يلقى الخطاب. حضر جمال عبدالناصر وألقى خطابه التاريخى. بعد رجوعى للبيت حضر الرئيس وجاء كثير من الزوار، وامتلأ الدور الأول وظل معهم ثم صعد للدور الثانى.. ولم ينم وظل طول الليل يتحدث بالتليفون وقال لى: لم يكن أحد من الوزراء يعلم بتأميم القناة غير اثنين.. والباقى ذهل عند سماعه الخبر ونحن مجتمعون فى الصالون. وحدثنى عن كلمة السر دليسبس.. فقلت له: عندما كنت تذكر دليسبس ــ وقد قلتها عدة مرات ــ كنت أقول فى نفسى: لماذا يتحدث عن دليسبس؟ وكانت المفاجأة عند سماعى بتأميم قناة السويس.. وسمعته بصوته ونبراته الرنانة وهو يقول «قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس». أمضى الرئيس ليلتين فى الإسكندرية فى اتصالات وشغل متواصل ثم رجع للقاهرة.
تغييرات فى بيت منشية البكرى
البيت الذى نسكنه فى القاهرة فى منشية البكرى ظل كما هو لم يحصل فيه أى تغيير فى المبانى أو الفرش حتى سنة 1956. فى شهر أغسطس ابتدأ بناء دور ثان، ورتب على أن يكون الدور الأول للمكتب وعدد 2 صالون وحجرة للسفرة. والدور الثانى لحجرات النوم والمكتب للأولاد وصالة وحجرة للسفرة ملحقة بالمدخل.
وبقيت والأولاد فى الإسكندرية، والرئيس فى القاهرة فى مبنى مجلس الثورة بالجزيرة أو فى استراحة القناطر. وعند ابتداء الدراسة رجعت من الإسكندرية وكان البناء فى البيت لم ينته بعد، فذهبنا إلى استراحة القناطر.. وفى آخر سبتمبر رجعنا للقاهرة ليكون الأولاد قريبين من المدارس، ومكثنا فى قصر الطاهرة حتى ينتهى البناء فى منشية البكرى.
لم يكن الرئيس مرحبا بالبقاء فى قصر الطاهرة ويشعر بأنه غير مستريح، وكان يقول لى: لا أحب القصور ولا الحياة فى القصور، ويستعجل الانتهاء من البناء ويسأل السكرتير عن اليوم الذى نذهب فيه إلى منشية البكرى، فكان الشغل مستمرا فى بناء الدور الثانى فى البيت حتى ينتهى بأسرع وقت.
مكثنا فى قصر الطاهرة حتى يوم 27 أكتوبر، ورجعنا لبيتنا فى منشية البكرى. قال لى الرئيس: لقد تغيرت موبيليا حجرة السفرة.. إن لها ذكرى عزيزة عندى فقد أمضيت سنين أشتغل فيها، وقضيت ساعات أجلس على الترابيزة وأشتغل حتى يوم 23 يوليو وقال: أين ذهبوا بها؟.
الجزء السادس
عبد الناصر يخطب في دمشق
العدوان الثلاثى
فى يوم 29 أكتوبر سنة 1956 كان عيد ميلاد ابنى عبدالحميد. كان الرئيس موجودا فى البيت فى مكتبه، وقد طلب منى أن أخبره عند حضور الأطفال إذ كان يسعده أن يحضر حفل أعياد ميلاد أولاده. دخل حجرة السفرة وصافح الأطفال، ووقف لدقائق وقت إطفاء الشموع، وكان عمر عبدالحميد خمس سنوات، ورجع لمكتبه. ثم بعد ذلك ــ وكنت لم أزل فى الدور الأول والبيت ملىء بالأطفال ــ رآنى فى الصالة قبل خروجه وقال لى إن عنده اجتماعا وخرج. فى يوم 31 أكتوبر سنة 1956 حصل الاعتداء الإنجليزى الفرنساوى، وكان الرئيس فى البيت. طلب منى أن أنزل إلى الدور الأول مع الأولاد، وصعد هو إلى سطح البيت ليرى الطائرات، ثم دخل مكتبه وظل فيه. بقيت يومين فى الدور الأول، وهو يخرج ويرجع فى ساعة متأخرة من الليل، ويصعد لحجرة النوم فى الدور الثانى ويطلب منى أن أبقى والأولاد فى الدور الأول، وجهز ترتيبا لنومنا والغارات مستمرة، حتى سقطت قنبلة قريبة من بيتنا وتناثرت شظاياها فى الحديقة، وكان اليوم الثالث للاعتداء وكل الساكنين فى المنطقة قد غادروها. قبل خروج الرئيس فى الصباح، وكنت واقفة معه فى الحجرة، قال لى بالحرف: أنا ورايا البلد وأولادنا وأنت معاك أولادك، وسيحضر صلاح الشاهد ويوصلكم لبيت فى مكان بعيد عن الضرب وقت الظهر. وكان لا يعرف المكان الذى سنذهب إليه فى أى جهه أو شارع.. وحيانى وخرج. ذهبنا لبيت فى الزمالك صغير مكون من دور وبدروم وفى شارع ضيق، وكنت لم أر بيتا فى حى الزمالك بهذا المنظر.. فهو قديم والفرش قديم وغريب، وله حديقة صغيرة جرداء ليس بها زرع. سألت صلاح الشاهد لمن كان هذا البيت؟ قال إن صاحبته أميرة ولم تكن تسكن فيه إذ تعيش فى الخارج. طلبت أن أكلم الرئيس فى التليفون وكلمنى وسألنى عن الأولاد، وفى اليوم التالى طلبته أيضا فى التليفون وتحدثت معه. وبعد ذلك طلبت أن أكلمه فرد علىّ زكريا محيى الدين، وقال: إن الرئيس غير موجود فى مجلس الثورة وذهب فى مهمة، وسيكلمك عندما يرجع إن شاء الله. وطبعا انشغلت جدًا حتى طلبته ورد علىّ بنفسه.. وعلمت بعد ذلك أنه كان فى طريقه لبورسعيد. طلب الرئيس مكالمتى بالتليفون، وكان الوقت الساعة الثامنة صباحا والقتال أوقف قبلها بساعات، وقال: يمكنك الآن أن ترجعى منشية البكرى بعد أن مكثت خمسة أيام فى منزل الزمالك. وجدت حى منشية البكرى خاليا، ولم يرجع أحد لمسكنه، والرئيس ظل فى مجلس الثورة، وكنت أكلمه بالتليفون كل يوم.. وعند انتهاء المكالمة كما هى عادته يقول لى: عاوزه حاجة؟ فأشكره. وبعد أكثر من أسبوع سألته متى ستحضر إلى البيت؟ فقال: بعد خروج الإنجليز. وفى مرة كنت أتحدث معه بالتليفون وكعادته قال: عاوزه حاجة؟ فقلت: عاوزه الإنجليز يخرجوا.. وضحكنا. وبعد ثلاثة أسابيع، وكانت الساعة العاشرة مساء اتصل أحد الضباط بالتليفون، وقال: سيادة الرئيس فى الطريق للبيت، وكنت والأولاد لم نره منذ مغادرتنا منشية البكرى رجع جمال إلى البيت، وكان عنده إنفلونزا وارتفاع فى درجة الحرارة، وقال: لقد صمم الدكتور أن أرجع إلى البيت وأرتاح حتى تزول الإنفلونزا، وإن البقاء فى مجلس الثورة لا يساعد على الشفاء وانخفاض الحرارة سريعا.
أول عشاء رسمى مع الرئيس والإمبراطور هيلاسلاسى
فى شهر فبراير سنة 1959 سافر الرئيس لسوريا وقت عيد الوحدة ومكث نحو شهر.. وبقيت فى القاهرة. فى يونيو سنة 1959 حضرت أول عشاء رسمى مع الرئيس وكان لإمبراطور الحبشة هيلاسيلاسى.. حضره الوزراء وزوجاتهم والسلك الدبلوماسى. وقفت بجوار الرئيس والإمبراطور والمدعوون يمرون لمصافحتنا، وبعد انتهاء الاستقبال شعرت بسرعة فى دقات قلبى وإغماء، وكنت جالسة بجوار الرئيس والإمبراطور.. أخبرته بما أشعر به، فقال لى أن أذهب وأستريح فى حجرة مكتبه.. وكنا فى قصر القبة. غادرت حفل العشاء وأحضر لى طبيبا وظل هو مع الإمبراطور والمدعوين حتى انتهى العشاء.. وكنت تحسنت ورجعت لحالتى الطبيعية ورجعنا إلى البيت. وفى اليوم التالى عمل لى فحص طبيا، ولم يكن بى أى مرض إلا أنه مجرد انفعال لحضورى فى حفل رسمى وأول عشاء لى وكان مع الإمبراطور. فى عشاء آخر.. وكان مع الرئيس نهرو رئيس وزراء الهند.. ذهبت مع الرئيس وجلست على ترابيزة الأكل بين نهرو والرئيس وابتدأنا فى العشاء، وأخذ الرئيس نهرو يتحدث معى وأنا بجواره.. شعرت بسرعة نبضات قلبى والإغماء ونفس ما حصل لى فى حفل الإمبراطور. قررت أن أظل كما أنا فى مكانى ولا أخبر الرئيس، وأتحمل ما يجرى لى حتى ولو توقف قلبى لكن لا أغادر المكان. وفى آخر المأدبة وعند تقديم الحلوى شعرت بحالتى ترجع لطبيعتها، وبعد انتهاء العشاء قمت ومشيت بجوار الرئيس نهرو والرئيس وأنا فى حالة عادية. ونحن راجعون فى الطريق قال لى جمال: لقد لاحظت عليك أثناء العشاء أنك غير عادية فقلت الأحسن ألا أشعرك بأنى لاحظت شيئا حتى لا تزداد حالتك، وأخذت أتحدث مع السيدة التى بجوارى ولم ألتفت ناحيتك. فقلت له ما حصل لى. وفى اليوم التالى عمل لى فحصا طبيًا وقال لى الدكتور: لقد عالجت حالتك بنفسك والآن سوف لا تحصل لك مرة ثانية، وأعطانى حبوبا أتناولها قبل ذهابى لمآدب العشاء الرسمية، وكنت أتناولها قبل خروجى مع الرئيس.. وبقيت هكذا لفترة وكان الضيوف كثيرين.. وبعد ذلك اعتدت وأصبحت لا أتناول الدواء، وأصبح حضورى المآدب الرسمية شيئا عاديا، وكنت فى أغلبها أهدى بنيشان فيتضاعف الموقف الرسمى.
سنة 1958.. ما يشبه الاعتقال
كانت الوحدة مع سوريا فى شهر فبراير.. زاد شغل الرئيس فوق أعبائه وسافر لسوريا ومكث شهرا وبقيت فى القاهرة. فى صيف سنة 1958 ذهب ليوجوسلافيا واصطحبنى معه بدعوة من الرئيس تيتو، وبإلحاح فى دعوتى والأولاد. سافرنا على المركب الحرية، وكانت أول مرة يصطحبنى معه وأسافر للخارج. ذهبت مع الأولاد للإسكندرية ووصلنا للمركب ثم حضر بعدنا، وكان يرافقنا فى الرحلة الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية ومحمد حسنين هيكل وزوجتاهما. عندما وصلنا ميناء دبروفننج كان فى استقبالنا الرئيس تيتو والسيدة حرمه.. وكنت أول مرة أشاهد استقبالا رسميا أو أكون فى مكان رسمى، وكانت الموسيقى تعزف ونقف ثم نسير وأنا بجانب الرئيس، وكان يلتفت بسرعة ويقول لى هامسا أقف أو أمشى أو أتقدم بضع خطوات حتى لا أغلط.. ومشيت بتوجيهه همسا ولم أرتبك. تناولنا الغداء مع الرئيس تيتو وكل المرافقين له والمرافقين للرئيس، وفى المساء ذهب هو والمرافقون مع الرئيس تيتو لحضور احتفال بمناسبة تاريخية لا أذكرها فى بلد هناك، ومكثت مع السيدة يوانكا حرم الرئيس تيتو والسيدات المرافقات فى دبروفننج لمدة يومين. رجع الرئيسان وغادرنا دبروفننج لبريونى سويا، وعند صعودنا إلى المركب ووصولنا لجزيرة بريونى كان الاحتفال الرسمى نفسه، وكان الرئيس وأنا أسير بجانبه يلتفت إلىّ ليهمس فيجدنى أتقدم بالخطوات وأقف ثم أسير معه قبل همسه. وفى المساء قال لى: إنك تعلمت. فقلت له: السبب إنى حفظت نغمة الموسيقى. مكثنا فى جزيرة بريونى يومين ثم غادرناها بالعربات نتنقل فى بلاد يوغوسلافيا الجميلة. وكانت تحصل لى مواقف أرتبك فيها، وفى البلد الذى نصل إليه أو نبيت فيه يستقبلنا رئيس جمهورية من جمهوريات يوغوسلافيا كما هو النظام هناك. وأذكر قبل مغادرتنا بلدا فى الصباح قال لى الرئيس: سيكون موجودا رئيس الجمهورية الذى لم يكن قد حضر للبلد بعد عند وصولنا.. فسلمى عليه، قلت: نعم. وعندما نزلنا وكنت بجانبه وجدت واحدا واقفا فى وسط الصالة فى اللوكانده لم أره من قبل فسلمت عليه، فنظر لى الرئيس، وكان الرئيس تيتو مقبلا وبجانبه رجل آخر لم أره أيضا من قبل، وقال هامسا: سلمى على الرئيس تيتو والذى بجانبه. وفى المساء ونحن بمفردنا قال لى: لقد قلت لك سلمى على رئيس الجمهورية فوجدتك صافحت المتردوتيل أولا، وكان الرئيس يضحك وهو يتحدث فقلت له: لقد قلت لى إنه يوجد رئيس جمهورية البلد، وقد حضر فى الصباح فوجدت رجلا لم أره من قبل فقلت فى نفسى هذا هو رئيس الجمهورية.. وضحك جدا وضحكت وقلت: لن أغلط مرة ثانية. وفى اليوم التالى.. وكنا وصلنا لبلد آخر، وكان الرئيس ركب عربة مع الرئيس تيتو وركبت عربة بجوار المدام، ووقفت عربة الرئيسين ونزلا أولا، وكان يقف ثلاثة رجال فى استقبالنا أمام اللوكانده فلم ألاحظ الذى صافحه الرئيس أولا. وفى المساء قال لى: لقد صافحت السكرتير أولا ولاحظت عليك الارتباك.. وضحكنا. وبعد ذلك لم يقل لى ملاحظة فى المساء فقلت له: إننى لم أغلط اليوم وها نحن لم نضحك. قضينا أسبوعا فى يوغوسلافيا، وقامت ثورة العراق أثناء وجودنا هناك وتأزم الموقف الدولى، وغادرنا بريونى بالمركب فى طريقنا للإسكندرية، ولم يكن الرئيس تيتو مطمئنا للسير فى البحر لوجود الأسطول الأمريكى فى البحر الأبيض. وفى طريقنا، ونحن لم نزل فى بحر الأدرياتيك، أرسل برقية يحذر فيها الرئيس من الاستمرار فى الرحلة لخطورة الموقف. كان الوقت مساء.. وكنت مع الأولاد وحرم الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية نشاهد فيلما فى السينما وتوقفت المركب عن السير. وبعد انتهاء الفيلم قمت لأذهب إلى حجرتى فقابلنى فى ترأس المركب محمد حسنين هيكل فتبادلنا التحية وقال لى: سأسألك سؤالا.. الموقف فى منتهى الحرج والرئيس تيتو يخشى استمرار الرحلة، والمركب توقف عن السير، والرئيس يشتغل فى حجرة العمليات يتلقى الأخبار والبرقيات، وأنا أفكر ومن وقت وأنا أتمشى وألاحظك تشاهدين فيلما فى السينما فواحد من اثنين.. إما أنا جبان أو أنت شجاعة جدا.. فقلت: لا ده ولا ده إنها مسألة اعتياد.. فقد اعتدت على المواقف الصعبة. فرد: إنى لا أخشى على نفسى قط بل أخشى على الرئيس جمال عبدالناصر فقط، فالأمريكان لا يهمهم إلا هو. قلت: إن شاء الله تنتهى على خير. وظلت المركب واقفة حتى الصباح والرئيس يشتغل، وفى الصباح غادر المركب إلى مدمرة ــ إذ كان يرافقنا مدمرتان ــ ومعه وزير الخارجية ومحمد حسنين هيكل، ورجعت بنا المركب لجزيرة بريونى. وصلنا فى اليوم التالى.. السيدات والأولاد والمرافقون. ذهبنا لفيللا الضيافة، وبعد وصولنا طلبنى الرئيس تيتو لأقابله، وكان يقيم فى فيلا بجوار فيللا الضيافة. قال لى: إن الرئيس جمال عبدالناصر موجود فى الاتحاد السوفييتى فى مكان خارج موسكو، والزيارة سرية وسوف لا يذاع مكان وجوده الآن، ورجوعكم لبريونى سيظل فى الكتمان، وسوف تمكثون فى الفيللا ولا تخرجون حتى لا يعرف مكانكم، ولا تقولى لأحد، وعندما تصلنى أخبار سأخطرك بها. مكثنا يومين لا نظهر خارج الفيللا، والمرافقون، ومنهم كبير الأمناء والطبيب مكثوا فى الدور الذى تحت الدور الأول ببضعة سلالم، وكلما حاول أحد منهم الخروج للحديقة منعه الحرس. طلب كبير الأمناء مقابلتى، وكان منزعجا وقال: إننا نكاد نكون كالمعتقلين، وسألنى إذا كنت أعرف أين ذهب الرئيس، وقال إنه والمرافقين قلقون جدا عليه. قلت: إن الرئيس تيتو قال إنهم فى مكان ما وبخير.. وسوف يخبرنى عندما تصله أخبار. كانت مدام تيتو تحضر وتبقى معنا حتى المساء، وكانت السيدات قلقات وأكثرهن قلقا حرم محمد حسنين هيكل إذ كانت تبكى، وكنا نستمع للإذاعة وعرفنا أنهم وصلوا لسورية.. الرئيس جمال عبدالناصر والمرافقون له. وأخيرا سمح لنا بالخروج، ودعانا الرئيس تيتو فى رحلة فى يخت جميل أمضينا فيه اليوم. بعد أن وصل الرئيس للقاهرة، وكان قد رجع على طائرة سوفييتية، هبطت الطائرة نفسها فى اليوم التالى فى بريونى لنستقلها للقاهرة، وكانت أول مرة أركب طائرة. كان موعد وصولنا يوم 22 يوليه والرئيس سيلقى خطابا فى المساء. أخبره السكرتير عن الساعة، التى ركبنا فيها الطائرة، بينما كان الرئيس فى مكتبه يكتب وحان موعد وصول الطائرة، وكان قد طلب من السكرتير أن يخبره عند وصولنا. ظل الرئيس ينتظر ويسأل السكرتير مدة ساعتين، ويحسب الوقت الذى يمكن أن تطير الطائرة فيه والوقود الذى تحمله ويجد الوقت فات بساعتين. قال لى الرئيس: لقد وضعت القلم وجلست أفكر وأنا فى غاية القلق، وحان وقت خروجى لإلقاء الخطاب فخرجت من المكتب لأركب العربة.. رأيت الضابط يجرى مسرعا، وقال لى: لقد وصلوا المطار فى أنشاص، إذ لم يكن مطار القاهرة قد جهز بعد لاستقبال الطائرات الكوميت النفاثة. قال لى جمال: لقد كان من أحرج الأوقات التى مرت بى يا تحية وأنا أنتظركم وأصعبها.. وقابلنا بحرارة. وكان السكرتير أخبره عن الميعاد الذى ركبنا فيه قبل ركوبنا الطائرة بساعتين.
خريف سنة 1958
بعد رجوعنا من إسكندرية.. مرض الرئيس بالسكر وأخبرنى بمرضه فحزنت جدّا، وكنت أنزل للحديقة بمفردى وأبكى، وانقطعت عن أكل الحلوى لوقت طويل من شدة حزنى، وكنت لا أقدم الأصناف التى لا توافق العلاج فكان يطلبها ولا يأكل منها، وكان يقول لى: الحمد لله إن مرض السكر أخف من أمراض أخرى كثيرة.. ولحرصى الشديد على صحته كنت أقوم بطهى ما يأكله بنفسى فى أغلب الأيام.
ست سنوات مضت ولم نخرج سويا فى عربة
كنا فى استراحة القناطر وكنا راجعين للقاهرة فى المساء، وكنت أركب العربة مع الأولاد ويركب الرئيس عربته.. وكان يفضل أن نسبقه. كنا جالسين فى الحديقة وأنتظر دخول العربة، فقلت: لقد مضت سنوات لم أخرج معك فى عربة.. فقال لى: فلتركبى معى ونرجع سويا، وكان أحد الضباط يقف بجوار عربة الرئيس وعندما رآنى قال: تفضلى.. ومشى لعربتى وظن أنى لم أنتبه لها فوجدنى ركبت عربة الرئيس، وظهر عليه الارتباك فقلت للرئيس: إنهم مندهشون اليوم فقد مضت 6 سنوات لم نخرج سويا فى عربة. لم يكن يوجد وقت يقضيه معى إلا أنه كان يحب أن أكون بجانبه وهو فى البيت وفى حجرته، وإذا صعد من مكتبه أو حضر من الخارج ولم يرنى عند حضوره يقول لى: لقد بحثت عنك ودخلت حجرتك. وأحيانا يدخل حجرات الأولاد وتكون فرصة لملاطفتهم والبقاء معهم لدقائق. لم أره أبدا يستريح، وكل وقته شغل يقرأ أو يكتب أو يتحدث بالتليفون، والوقت الذى لا يشتغل فيه هو الساعات التى ينامها فقط. وكنت أستمع لحديثه بالتليفون ولا أعلق أو أفتح فمى بكلمة مهما كان الحديث من الأهمية والخطورة، والدوسيهات ترسل وأضعها فى حجرته على الترابيزة بجانبه قبل حضوره. وأثناء وجوده فى حجرته ترسل مذكرات يقرؤها ويعطى تعليمات بالتليفون أو يكتب مذكرات وترسل للسكرتارية، والجرائد العالمية ترسل كل يوم ويقرؤها.. فكنت أظل أياما لا أجد وقتا أتحدث فيه معه إلا تحيته لى التى لا ينساها أبدا حتى إذا تكرر دخولى الحجرة عدة مرات.
سنة 1960.. لا لملابس السهرة
تلقى الرئيس دعوة من الرئيس تيتو، ودعانى والأولاد لنقضى أياما فى جزيرة بريونى أثناء إجازة الصيف. وكان الرئيس قد تلقى دعوة مماثلة من ملك اليونان ودعيت معه، وتكررت الدعوة فرتب أن نذهب لليونان فى طريقنا لبريونى. وسافر كبير الأمناء لليونان قبل سفرنا فأخبره رئيس البروتوكول اليونانى أن العشاء يجب أن يكون بملابس السهرة للرجال والسيدات. رجع كبير الأمناء وأخبر الرئيس فرد وقال: لن أرتدى ملابس السهرة أو ألغى السفر لليونان. اتصل كبير الأمناء برئيس البروتوكول فى اليونان وأخبره بما قاله الرئيس، فكان الرد أن الملك يرحب بحضور الرئيس جمال عبدالناصر وينتظر زيارته باللبس الذى يريده.. المهم أن يزور اليونان. ركبنا المركب « الحرية».. الرئيس وأنا والأولاد ووزير الخارجية الدكتور محمود فوزى ومحمد حسنين هيكل وزوجتاهما. وصلنا ميناء برييه واستقبلنا الملك والملكة وأولادهما ــ ولى العهد وشقيقتاه ــ فى قارب حتى المركب، ونزلنا فى الميناء فى استقبال رسمى وغادرنا فى عربات.. الرئيس مع الملك وأنا مع الملكة حتى القصر الذى سنقيم فيه، وكان بجوار قصر الملك. أقام الملك مأدبة عشاء حضرها أعضاء الأسرة المالكة والسلك الدبلوماسى ورئيس الوزراء والوزراء، وكان النظام أن يقف المدعوون على جانبى البهو الكبير ونمر فى الوسط لتحيتنا كما هى عادة الملوك. وقفت الملكة بجوار الرئيس لتتأبط ذراعه وتمشى بجواره فقال لها: سأمشى بجوار الملك وأنت تمشين بجوار زوجتى، فسألته الملكة: وماذا لو تأبطت ذراعك؟ قال لها: إنى أخجل.. فرجعت الملكة ووقفت بجوارى وقالت لى بالإنجليزية: أعطينى يدك أو آخذ يد زوجك.. ومشينا وسط المدعوين يحيوننا.. الرئيس بجانب الملك وأنا بجانب الملكة.
سنة 1961.. الانفصالية
فى يوم 28 سبتمبر فى الصباح.. وكنت بجوار الرئيس.. تلقى مكالمة تليفونية تخبره بأنه وقع انقلاب عسكرى فى سوريا، وكان المشير عبدالحكيم عامر هناك. قام بسرعة وارتدى ملابس الخروج والتأثر يبدو عليه وخرج، ولم أقل أى كلمة كعادتى مهما كان الحديث من الأهمية. سمعته فى الراديو يخطب وهو فى غاية التأثر.. كان شعورى وأنا أسمعه.. متأثرة لحزنه، وفى نفس الوقت للحقيقة لم أكن حزينة للانفصال. بعد إلقائه الخطاب رجع إلى المنزل والتأثر يبدو عليه للغاية، ثم خرج ثانية وبقيت فى البيت أتتبع الأخبار من الإذاعة. وفى الواقع لم تكن الوحدة بالنسبة لى شيئا أستريح له.. لأنه أولا زاد عمله لأقصى حد، وبالإضافة إلى ذلك سفره وقت عيد الوحدة. رجع الرئيس فى المساء وكنت فى الحجرة وبجواره.. لم يقل أى كلمة ولم أقل أى كلمة، وكنت لا أدرى ماذا أكون؟.. زعلانة متأثرة أم لا؟ كنا فى الصيف فى إسكندرية فى المعمورة، وكان قد بنى بيتين متجاورين فى سنة 1959 للرئيس والمشير عبدالحكيم عامر.. المبنى والشكل متطابقان، وقد أصبح بيت المشير عبدالحكيم عامر استراحة الرئيس أنور السادات بالمعمورة فيما بعد. كان المشير يحضر ويجلس مع الرئيس على الشاطئ.. وكان صيفا بعد الانفصال، وكنت جالسة بجوارهما وتكلما عن سوريا والانفصال، فقال الرئيس عنى للمشير: إنها انفصالية، ولم تكن تعجبها الوحدة.. وضحكا. وكانت هى الحقيقة فضحكت وقلت: إنها كانت عبئا وأزيح.. وضحكنا جميعا. كما قلت دائما وهو فى المنزل، فى الوقت الذى يكون فيه فى الدور الثانى، أكون بجواره بالليل أو بالنهار، وهذه رغبته وكان يشتغل باستمرار.. فى الحجرة، فى المكتب، وهو مستلق على السرير، فكنت أستمع لأحاديثه التليفونية وأحيانا يكون المتحدث معه محمد حسنين هيكل. وبعد ذلك فى يوم الجمعة الذى يكتب فيه هيكل مقاله بصراحة فى جريدة الأهرام مرات أجد فى المقالة مما قد سمعت فى حديث الرئيس له.
الوحدة والانفصال
كان الرئيس يسافر فى عيد الوحدة لسوريا ويمكث أكثر من شهر، ولم أذهب معه إذ كان يفضل أن أبقى مع الأولاد.