إيلاف -2 سبتمبر 2006
شكل ذاكرتنا... وتركنا نرى مصر عبر عينيه
سلوى اللوباني من القاهرة: من خلال قلم الاديب نجيب محفوظ تعرفنا إلى المجتمع المصري.. إلى الانسان المصري...رأينا الحارة المصرية بكل تفاصيلها...كما عايشنا شخصيات كثيرة...أثر نجيب محفوظ في وجداننا...أمتعنا قبل كل شيء...فليس غريباً أن يكون فنه موحداً لأبناء الضاد...هذه بعض من الكلمات التي عبر عنها بعض الشخصيات الادبية العربية ل إيلاف، كل منهم عبر بكلماته الخاصة ورؤيته عن أهم إنجازات الاديب نجيب محفوظ الادبية..من مصر الكاتبة نعم الباز، الكاتب محمد توفيق، الشاعر شعبان يوسف رئيس ورشة الزيتون الثقافية، الكاتب ناصر عراق رئيس تحرير مجلة دبي الثقافية، ومن العراق الحبيب القاصة سميرة المانع، ومن الاردن الكاتبة سميحة خريس، وسعدية مفرح الكاتبة والشاعرة الكويتية، ومن سوريا الاديب حسين سليمان.
نعم الباز: انجاز نجيب محفوظ الادبي هو توصيف الشخصية المصرية والمرور على الشارع والحارة المصرية واظهارها بالشكل الطبيعي في أعماقها، وخصوصاً التغيير الذي حصل على الحارة أيام الاستعمار الانجليزي كما في روايته "زقاق المدق"، إنجاز محفوظ الادبي أشبه بحديقة مليئة بالزهور والثمار، رسم خريطة الانسان المصري في كل قصصه ورواياته وفي أكثر من عصر، محفوظ عمل على تغيير الخط الدرامي في القصة، لن أقول الكلمات التقليدية عنه بانه الهرم وغيرها... بل أقول نجيب محفوظ.... هو نجيب محفوظ، وأقول...غروب شمس الادب برحيله.
محمد توفيق: رحل نجيب محفوظ ولم يمت، فقد حقق أدبه اندماجاً غير مسبوق في نسيج وطنه الاجتماعي والثقافي، وأصبح الإنسان المصري يدرك تاريخه في القرن العشرين من خلال عدسة نجيب محفوظ الثاقبة المنقبة، الجريئة المحايدة، بعيداً عن مدوني التاريخ الرسمي ومؤرخي الملوك، وباتت شخصياته الخالدة نماذج يحتذى بها أو يتعين تجنب سلوكها، ورصدت أعماله التي غطت مساحة عريضة من الوجدان العام – مسافة ممتدة من الواقعية إلى الميتافيزيقا – محنة الإنسان وعظمته في كل مكان، وقد لمست بنفسي مدى تأثير الأستاذ والذي تعدى محيطه الطبيعي – عالمه العربي – بل امتد إلى وجدان المثقفين في بلدان لم يحلم بزيارتها يوما من المكسيك إلى أستراليا ومن السويد إلى الجنوب الإفريقي، وأذكر جيدا يوم أعلن نبأ حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 88 ، وكنت أقيم وقتها في الولايات المتحدة ، فتحدثت هاتفيا مع صاحب دار النشر الصغيرة في واشنطن التي كانت تنشر بعض أعماله في ترجمتها الإنجليزية وعلى رأسها رواية "أولاد حارتنا"، وكنت أتردد إليها من وقت لآخر، فوجدت الرجل ما بين الفرح الشديد وعدم التصديق، وقال إن العالم سوف يتعرف أخيراً إلى أعمال مبدع كبير كنجيب محفوظ، فأدركت أن هذه نقطة فاصلة ليس لشخص أديبنا الكبير وحده وإنما للأدب العربي ككل. وأعتقد أن عبقرية الأستاذ تكمن في آلاف الشخصيات التي رسمها ( لأولاد الذوات والموظفين والأمهات والمخبرين ومعلمي القهاوي ومدمني المخدرات والساقطات وصانعي العاهات...إلخ) والتي حازت منه على درجة الاهتمام والإتقان نفسها بل والحب، فترك للقارئ وحده الحق في إصدار الأحكام، وهي سمة من سمات الأدب الخالد البعيد عن التشنج والإملاء، معبرا بذلك عن روح التسامح والتفتح التي اتسمت بها الشخصية المصرية عبر العصور، وأتصور أن هذه الروح كانت المستهدفة الأولى من الهجوم الذي شنته التيارات الظلامية ضد نجيب محفوظ، فالمستهدف هو مجمل أعماله وروح مصر الحضارية الرافضة للتعصب التي تطل منها، رحم الله عملاق الأدب العربي، ولا أقول سنفتقده فهو باق معنا بأعماله.
شعبان يوسف: حياة وكتابات نجيب محفوظ كلها مهمة، ولكن هناك قيمة أدبية وهي انه كاتب مقاومة، وذلك يتبدى في كافة الشخصيات الروائية الواقعية في أعماله، مثل شخصية "خالد صفوان" في الكرنك.. هو حمزة البسيوني الذي مارس ضغوطا وقدرا من القمع بالانسان المصري، وهناك شخصيات أخرى مهمة في رواياته وقصصه مثل عيسى الدباغ في "السمان والخريف"، سعيد مهران في "اللص والكلاب"، كمال عبد الجواد الذي يعتبر تقريباً تصويرا واقعيا لنجيب محفوظ نفسه، نجيب محفوظ يعتبر حاملا للتراث المصري في كل أعماله... التراث القبطي والاسلامي والفرعوني، لذلك بدأ بكتابة الروايات التاريخية وللمفارقة الغريبة أن أول من كتب عن محفوظ في الاربعينات هو سيد قطب، ويشاء القدر أن يتوفى نجيب محفوظ في شهر اغسطس وهو الشهر الذي أعدم فيه سيد قطب قبل اربعين عاماً... فقد أعدم في اغسطس 1966، أما بالنسبة إلى تصريحات محفوظ السياسية لا نأخذ بها كثيراً، فكلها فيها مراوغة وقدرة على التسويف حتى يكتبه في أدبه، أي ما يخبئه ولا يعلنه في تصريحاته يستخدمه في أدبه، بدأ محفوظ موظفاً عام 1934 في إدارة الارامل في وزارة الاوقاف... وفي أحد أحاديثه صرح أن رواية "الثلاثية" من الاحاديث التي كانت تتداول بينه وبين المترددين إلى الوزارة، محفوظ ابتعد عن العنف والصدام مع السلطة السياسية والعسكرية والدينية لذلك حتى قبل دخوله المستشفى لم يكن موافقاً على نشر روايته أولاد حارتنا الا بموافقة الازهر، بالرغم من أنه بينه وبين نفسه لم يكن راضياً عن هذا الموقف، كان هناك تجار باسم محفوظ يدفعوه الى المواقف غير الثورية... وهناك من هم متحدثون باسمه ولكنهم لا يستحقون ذلك... لا يستحقون اسم نجيب محفوظ.
ناصر عراق: أنجز نجيب محفوظ 35 رواية و 15 مجموعة قصصية علاوة على سلسلة احلام فترة النقاهة التي ظل يكتبها وينشرها في مجلة نصف الدنيا حتى فترة قريبة عندي تعد الثلاثية واولاد حارتنا افضل ما أبدع أديبنا الراحل وأزعم ان هذين العملين سيظلان خالدين الى الابد .لكني أعتقد أن سيرة الراحل العظيم بمثابة ميثاق يصح الاقتداء بها حيث رسخ محفوظ عدة قيم فضلى في الحياة مثل الدأب والنظام الصارم ثم إخلاصه الشديد وعشقه الجارف لأدبه وعمله . لقد أرسى نجيب وعمق وحافظ على جزالة اللغة العربية وحلاوتها من خلال إصراره الشديد على الكتابة بها طوال الوقت ولم يستسلم لهوس اللهجة العامية كما أنه كان يكتب رواياته أيام الاحتلال الانجليزي بلغة عربية سليمة وصافية وممتعة .تبقى كلمة اخيرة وهي ان نجيب كان يهدف في كل ابداعه الى إمتاع القارئ قبل أي شيء آخر وهو ما حققه بنجاح باهر .
سميرة المانع أعاد الراحل فقيدنا "نجيب محفوظ" الاعتبار للادب العربي الخلاق من بين الاداب العالمية، وكانت له اليد الحسنى في تدريب وتنوير عدد كبير من ادبائنا باسلوبه السهل الممتنع وبحثه المضني في طيات التأريخ القديم والحديث، مركزاً على قضايا عصرية حارة ملتهبة، واجهت زمانه وأحدثت بلبلة في مجتمع مملوء بالمتناقضات والتشويش، منذ أربعينات القرن العشرين وكتابات الخالد نجيب محفوظ مثابرة متواصلة في رواياته وقصصه القصيرة التي قاربت الخمسين، تلح على التوعية بمشاكل أخلاقية خطرة وبهموم فلسفية وفكرية، من أجل البحث والتقويم، من بينها قضايا اللاعدالة والفساد، الرغبات الانانية الشخصية التافهة المضحية بقيم الخير والجمال والعدل، وكعادة الادباء الاصلاء، لم يدّع أنه قادر على حلّ هذه الامور الصعبة بقدر رغبته في أن يمكّن القارئ من التفكير بها وإنعاش المخيلة من أجل اسئلة وأجوبة على المعوقات والاباطيل التي تزخر بها مجتمعاتنا الحالية، كانت أعماله تُستقبل بحفاوة لدى النخبة والطليعة الثقافية في المنطقة العربية كلها، تتلقفها بشوق وحماس، بل ببشارة أمل ببزوغ نجم نهضة أدبية وفكرية تقشع غبار التخلف والظلام وتجمع الشباب والشيوخ معا، ليس غريبا أن يكون فنه موحداً لابناء الضاد، لمّ شعثهم بدل بعثرتهم وتمزيقهم، وكما ذكر قبلنا، ليس هناك للانسان شيء في هذا الوجود المضطرب أفضل من الفن الخلاق لجمع البشر على المحبة والتفاهم، توحيد ابناء الامة الواحدة بحنان ومودة ورفق خال من زعيق الشعارات والاوامر والقسوة و النهي والاجبار، لم تلجأ كتابات نجيب محفوظ للمبالغة بالتجريب والتنظير والموضة الادبية، لكنها كانت تحاول الهيمنة على القراء بخطوات معقولة مقبولة متزنة كي توصل الفكرة بسلام ماضية في طريقها، مثلما يقود المرء عمياناً في درب شائك وعرّ، من أجل هدف توضيح وجهة نظر متفانية مخلصة للقضية المهمة المعنية، على الرغم من أن نجيب محفوظ لم يكن الأول في الرواية الفنية العربية لكنه بالتأكيد أحد الروائيين الرواد المهمين في تطويرها واذكاء الرغبة لدى القراء العرب في التمتع بالفن الروائي العالي الجودة، كمصدر غذاء روحي صحي، كما هو حاصل للشعوب الاخرى المتطورة، منذ قرون، بهذا الفن الحيوي الذي برع فيه ابناؤها وأنعش روحها وكان تسليتها في تحقيق ما تصبو نحوه، من تغيير، لمجتمعاتها للأفضل.
سميحة خريس: رحم الله والد الرواية العربية ..من العبث الحديث عن انجازات لنجيب محفوظ، ذلك أنه كان يمثل عصراً من العطاء الحقيقي، عصراً من الانفتاح على فن الرواية ثم الخروج بها محملة بكل الدلالات المحلية الى العالمية، ليس أننا نعتبر نوبل انجازاً ولكن الحصول على اعتراف العالم أمر مهم، والأهم، أنه ترك بصماته على جيل بل واجيال من الكتاب والروائيين العرب، لقد صنع من طريقته منهجاً ووضع أسساً للرواية ما زال الكثيرون غير قادرين على الافلات منها .. كان نجيب محفوظ ذاكرة الحارة المصرية ولكنه شكل ذاكرتنا وتركنا نرى مصر عبر عينيه .. وهل هناك أهم من هذا الانجاز الذي يطمح اليه أي كاتب؟
سعدية مفرح رحل نجيب محفوظ بعد أن أعطى للرواية العربية أهم عناوينها، وأضفى عليها روحها المتفردة، وشق لها طريقها الشائك نحو العالمية عبر فوزه بجائزة نوبل، وقد ظل نجيب محفوظ على مدى عشرات الروايات التي كتبها ـ وخصوصا في الخمسينات والستينات ـ ذلك المؤمن الداعية الى التغييرات الهادئة بعيداً عن عنف الثورات وما تأتي به من انقلابات على الصعد السياسية والثقافية والاجتماعية، وهو نتيجة لوفديته القديمة والدائمة ظل على مسافة نفسية ما مع ثورة يوليو 1958 والعهد الناصري كله، مع أنه واحد من كتاب استفادوا أكثر من غيرهم من هذا العهد، وظل لسنوات طويلة المفضل من قبل السطلة الناصرية في جناحها الناصري، ولعل طبيعة "الموظف" التي ظلت تتحكم في مساراته الحياتية كلها، وظل يتحكم بها ويطوعها لمساراته الروائية في أغلب الاحيان أملت عليه ذلك الدور الهادئ ومدت تلك المسافة النفسية بينه وبين السلطة، يردد نجيب محفوظ دائما "أنا مش بتاع سلطة " ...وهو ربما لم يكن "بتاع سلطة" وفق فهمه لطبيعة السلطة، ولكنه ظل دائما ذلك المراقب من بعيد، لكل تصرفات السلطة ناقلا إياها عبر رواياته الى شارع الثقافة، ولعل في روايتيه الشهيرتين "ميرامار" و"ثرثرة فوق النيل" أبلغ مثال لنظرته القديمة المتجددة من رجال الثورة والعهد الناصري برمته، بل وفي عبد الناصر نفسه.. وربما هنا بالذات تكمن أهميته.
حسين سليمان: لقد قرأت نجيب محفوظ خير قراءة في ملحمته الكبيرة الحرافيش- ففيها سكب تراثه الأدبي كله، بل التراث الشرقي. كانت الحرافيش درس الرواية لي ولقد توازت مع "موبي ديك- هرمان ملفيل" من حيث العمق والتأثير الروحي التي فعلته في نفسي، فهي سلسلة الزمن الانساني ذلك حين تكون كلمات وقصص، فيها ضجر الحياة والمتكرر اليومي حين يتحول الى فن. وفيها حرر الرواية من المفهوم الكلاسيكي الذي لمسته في روايته السابقة. نحن محظوظون بمرور هذا الرجل في زماننا الأدبي فهو أحد أعمدة الزمان العربي في القرن العشرين، التعازي الى اسرته وإلى الأمة المصرية بل الأمة العربية