ماذا لو بقيت قليلا..؟

أتساءل الآن..
كنت قريبة من الشاطئ خطوة، خطوتان، ربما عشرة. وكان البحر كساحر عجوز يستعرض آخر مهاراته، يقلب فى جيبه، ويستحث الجمهور، يستعطفه مجرد محاولة أخيرة وقبل اسدال الستارة، يفاجئهم بموجة يقذف معها آخر أنفاسه، فيتصايحون ويتمايلون ابتهاجاً، فينتشى البحر ويتذكر كل ألعابه القديمة.
وكانت علاقتنا الوطيدة وصيفياتى التى لا تنقطع عنه تتيح لى أن أتدلل عليه واقترب منه أكثر وأشد ذقنه البيضاء، لكن البحر لم يعد هوالبحر الذى أعرفه، صار حساساً لأية كلمة تنتقص من قدره، بما يليق حقاً برجل فقد أسنانه، حتى أنه لم يتقبل أن أناديه:
- ايها العجوز.
فضربتنى إحدى موجاته ودفعتنى. بل تجاوزتنى وقد غطت رأسى، دون أن تنظر للخلف .كانت الضربة مفاجئة، فقدت توازنى وكدت أسقط، لكنى استندت بيدى اليمنى على القاع.. كانت المياه شديدة النقاء ومن تحتها تتلألأ ابتسامة الرمال وقد تجمع الرفاق فى دائرة يتبادلون الضحكات الرائقة وصفو البال ويدعوننى للبقاء وأن اتخذ مقعدى الشاغر منذ سنوات كى تكتمل الدائرة وكانت مكتبتى كما هى وبلكونتى تسعنا، وكانت مليئة بنباتات الصبار التى امسح عنها الغبار الذى يعيق تنفسها وتنفسى، لكنى ثنيت إحدى ركبتى ورفعت رأسى سريعاً مخافة أن تغمرنى موجة أخرى.
نهضت وقد ابتلت ملابسى " الشورت البيج " و " التى شيرت البنى " وشعرى الرمادى المربوط بشريطة سوداء، والذى يدعونى ابنى كلما رآنى خارجة من البيت لتغطيته بإيشارب يناسب وقار أعوامى الثلاثة والستين.
أعطيته ظهرى وابتعدت، دون أن اتيقن رد فعله وأنا أشير له بأصبعى الصغير مهددة بالخصام كما علم أبى الطفلة الصغيرة التى كنتها.. ولكى أكون صادقة بالقدر الذى يجب أن تتصف به امرأة تقترب من النهاية وتشترى قطعة ارض لكى تكون مقبرتها، فإننى أشعر أن أمواجه وأنا أبتعد كانت حانية، ولا أبالغ إذا قلت أنها كانت تستحثنى على البقاء .
فماذا لو بقيت قليلا.. ؟

اتساءل الآن.. وكوب التمر الهندى المثلج بين كفى وأنا أجلس على السور الحجرى الفاصل بين الطريق المسفلت ورمال الشاطئ، أهز قدمى حيناً وحينا ًآخر أرسم بأصابعي على الرمل. خلفى تتناثر عشرات المحال الصغيرة، معظمها يبيع المشروبات الأسوانية
( الدوم ، التمر هندى، الخروب، الكركديه )، كل يوم أخصصه لمشروب واحد واتخلص من سعرات " البيبسى والكوكاكولا".

واليوم موعدى مع الكركديه، لكن مزاجى لا يحتمل بهجة الكركديه، طعم التمر هندى لاذع، عندما أشربه يملأنى بالحنين للفضفضة .
لم يلاحظ أحد سقوطى، ابنى يدعو الجيران للاحتفال بعيد ميلادى وزوجته تحت الشمسية ذات اللون البرتقالى والنجوم الخضراء، ترص الأطباق والمناديل والملاعق والشوك وتجهز علب الحلوى والجاتوه، استعدادا لغروب الشمس وبدء الحفل.
قدومهم من القاهرة للاحتفال بعيد ميلادى ليس أول المفاجاءات زياراته الاسبوعية الأخيرة حملت لى ما هو اكثر .

فىالمرة الاولى اشتكى من غلاء الاسعار والدخل الذى يتناقص بعد ان تفرغت زوجته لتربية طفلهما. شعرت بالتقصير، وقررت أن اتنازل له عن معاش زوجى واكتفى براتبي ومكافأة نهاية الخدمة .
كنت وقتها أضع أسئلة امتحان لطلابي بالفرقة الرابعة وورد على خاطرى سؤال لماذا نجح شعار أسرة صغيرة تساوى حياة سعيدة فى الدول المتقدمة وفشل فىالدول النامية ؟
فى الزيارة الثانية كانت زوجته بصحبته، تحدثا عن الوحدة والسن والمرض.. جملهم المبتورة أقلقتني، فطرحا الخطة كاملة:
تغلق البلكونة بالألوميتال، أنقل ما أحتاج إليه من حجرة مكتبتى لحجرة نومى لينتقلا للإقامة معي ويؤجران شقتهما مفروشة.
كنت أصحح كراسات الإجابة للطلاب وكانت معظم الإجابات صحيحة. ولكم حيرنى أنى صححت أربعين كراسة فى حين أن من يحضر محاضرتى ما كان يزيد على عشرة طلاب فقط.
رفضت الاقتراح، فأتهمانى بالأنانية وخرجا غاضبين.
فى المرة الثالثة جاء ليعتذر، لم يقصد اتهامى فأمرأة مثلى لا ينبغى أن تقيم بمفردها، لا بد من وجود رجل فى البيت خاصة عند استقبالى لطلابى من الذكور، فى هذه المرة كدت أصفعه لكن وجهه كان لزجا بما جعلنى أقشعر من مجرد لمسه.
سلمت أوراق الإجابات للكلية وحزمت حقائبي لمرسى مطروح، لم يتركانى جاءا للاحتفال بأعوامى التى مضت ويشاركانى أيامى القادمة.
- الشقة ايجار قديم وستؤول للمالك بعد عمر طويل لكن لو أقمنا معك ستكون الشقة من حقى.
تقترب الشمس من المغيب والجيران يتجمعون حول المنضدة الكبيرة والشمسية ذات اللون البرتقالى والنجوم الخضراء مطوية، وإبنى تبحث عيناه عنى والتورتة، لا تتسع لشمعات أكثر.
- فما ذا لو بقيت قليلا ً .. ؟