مأساة امرأة إنجليزية أحبت مصر والمصريين .. فقتلها الإنجليز
الكتاب: حياة علي النيل
الكاتبة: جانيس إليوت
عرض : أحمد فضل شبلول
تعد رواية حياة على النيل شبه الوثائقية، والتي صدرت عن سلسلة روايات الهلال ـ العدد 549 ـ للمؤلفة الإنجليزية جانيس إليوت، وترجمة سيد جاد، سيمفونية أدبية في حب مصر والمصريين، وبخاصة بعد تبرئة مصر من تهمة اغتيال أو قتل إحدى الإنجليزيات العاشقات لمصر. لقد كتبت جانيس إليوت رائعتها بعين المحبة والسائحة المثقفة التي تعرف عن مصر الشيء الكثير، وكأنها عاشت سنوات وسنوات على ضفاف نهر النيل، درست خلالها عادات الشعب المصري وتقاليده وسلوكياته ومعتقداته وانفعالاته وظروفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومواقفه من بعض الأحداث المحلية والعربية والدولية، وبخاصة في القاهرة والصعيد وأسوان، بل إنها درست بدقة، التاريخ المصري في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وبخاصة الفترة التي تولى فيها حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول رئاسة الحكومة المصرية، وعرفت المشكلات السياسية التي أثيرت بخصوص وجود الإنجليز في مصر والسودان في تلك الفترة. ثم تنتقل جانيس إليوت لدراسة مصر الحالية ومشكلاتها في السنوات الأخيرة، وبخاصة مشكلة الإرهاب، وانعكاس ذلك على الفوج السياحي الذي انضمت إليه أثناء زيارتها لأرض الكنانة. وقد استطاعت الكاتبة أن تربط بنجاح ـ عن طريق عنصر التوازي ـ بين فترة الاضطرابات السياسية التي شهدتها مصر إبان ثورة 1919 والاضطرابات التي حدثت في السنوات الأخيرة، مثل أحداث الأمن المركزي وحوادث التفجير والاغتيالات والعنف والإرهاب، وما إلى ذلك، واعتمدت في ذلك على بعض الجوانب الوثائقية من خلال الخطابات والمذكرات التي كتبتها الجدة فيبي التي عاشت في أسوان في نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن العشرين، ثم كان القتل أو الاغتيال السياسي من نصيبها، وهي في أوج شبابها وأمومتها المبكرة، الأمر الذي دفع الحفيدة شارلوت ـ بطلة الرواية ـ إلى البحث العميق في محاولة الكشف عن القاتل ومعرفة الأسباب والدوافع التي أدت إلى عملية القتل. لقد جاءت شارلوت مع زوجها ليو هامب إلى مصر سعيا وراء معرفة الدافع الذي دفع جدتها فيبي ـ منذ أول أيام عرسها ـ إلى بقائها وإصرارها وتمسكها بها، على الرغم من المخاطر التي كانت تحيط بالجالية الإنجليزية في تلك الفترة وانتفاضة الشعب المصري بجميع فئاته وطوائفه، للتخلص من الاستعمار الإنجليزي، وخصوصا عقب نفي سعد زغلول إلى جزيرة سيشيل ثم محاولة معرفة كيف قتلت ولماذا .. ومن هم الذين كانوا وراء قتلها؟ ومن هنا تأتي الرواية على مستويين: مستوى الزمن الحاضر، والذي تتحدث فيه شارلوت عن نظرتها كسائحة مثقفة تزور مصر ضمن الفوج السياحي الذي يبحر من القاهرة إلى أسوان على أحد الفنادق العائمة، مرورا بعدة مدن ومراكز وقرى مصرية، منها سوهاج وأسيوط والأقصر، وذلك على الرغم من حوادث الإرهاب التي انتشرت في مصر في سنوات الرحلة أو الزيارة، ومن خلال هذا المستوى تظهر عدة شخصيات ضمن الفوج السياحي تعطي نوعا من الزخم والثراء في الأحداث والانطباعات عن البلد الذي يزورونه أو يسيحون فيه، ويتضح من خلال الحوار وبعض الحوادث أن هؤلاء السياح لم تكن السياحة هدفهم الأول، وإنما هناك عوامل أخرى تجذبهم إلى مصر، فضلا عن أن هناك بعض الانطباعات السلبية يحملها بعض هذه الشخصيات عن مصر. أما عن شارلوت نفسها فقد جاءت لكشف غموض مقتل جدتها، لكنها لم تكن حانقة على البلد، ولا على أهله، فقد كان يخامرها شعور بأنه ربما لم يكن للمصريين دور في تلك الجريمة، لذا نستطيع القول إن شعورها كان أقرب إلى الحيادية، وبخاصة أمام بعض العبارات مثل: ذلك النيل العجوز الذي يبعث على الملل أو أقول لك يا عزيزتي إن هؤلاء القدامى وهذا الهوس بهم، لم يكونوا إلا مجرد برابرة، تلك الضحية والإيمان بالخرافات والغازات المضغوطة والفساد، وإلا فما السبب في الغزوات المتتالية التي اجتاحتهم، أظن أنك سوف تركبين هذا النهر المريع ويلتوي عنقك من طول النظر إلى معابدهم المضحكة، .. ص 30. أما المستوى الثاني فهو مستوى الزمن الماضي الذي تستحضر فيه البطلة مذكرات وخطابات جدتها، وهو المستوى الوثائقي في الرواية حيث كتبت فيبي مجموعة من الخطابات لأمها وأختها في إنجلترا أثناء وجودها في عدة أماكن من مصر، مثل القاهرة وبور سعيد وأسوان وجزر الفنتين .. وغيرها. وتنجح الكاتبة في تضفير هذه المذكرات والخطابات التي أحضرتها شارلوت معها، مع أحداث الرواية في زمنها الحاضر أو مستواها الأول، حيث كانت تركن إلى هذه المذكرات والخطابات وقت الراحة والهدوء، بل إنها كانت تنسحب من بعض الحفلات والسهرات الصاخبة التي تعد للفوج السياحي سواء في الفنادق أو على ظهر الباخرة التي تشق عباب النيل، لتقرأ أو تعاود قراءة ودراسة بعض الخطابات والمذكرات والتي تنكشف من خلالها مجموعة من الأسرار عن علاقة فيبي بمجموعة من المصريين الذين أحبتهم وارتاحت إليهم، بل شجعتهم على المطالبة بالاستقلال. تقول فيبي في مذكرات ربيع 1919 هليوبوليس: إنني أكره وأحتقر معظم جماعة المفوضية ـ البولو والبريدج والحفلات ـ وعدني إليكس زوجها أن أقابل بعض المصريين الحقيقيين. هذه البلاد متألقة، جميلة، تختلف عن أي شيء رأيته من قبل. من هنا أريد أن أعرفها. إنها واحة في الصحراء. كل شيء رائع. يقول .. إنني أفضل فارسة تزوجها في حياته .. ينبغي تعلم اللغة العربية، وأن أحصل على وصفة بابا غنوج، الباذنجان، كل شيء هنا يزدهر، أشجار البرتقال والنخيل، أولياندر .. ص 41. وتقول في خطاب إلى دوروثي في ديسمير 1921: مصر التي أصبحت بالنسبة لي وطنا آمل أن أعيش وأن أموت فيه .. ص 144. وتقول في مذكرات 6 مارس 1922 : إذا لم أهتم من أجل آل حازم، ومن أجل مصر، فلن أكون أنا نفسي، وربما لم نكن ليحب أحدنا الآخر كما نفعل .. ص 150. وتقول في مذكرات جزيرة الفنتين ـ سبتمبر 1923: هذا هو الوطن حقا، وتضيف في مكان آخر من هذه المذكرات ليس معقولا أن أتصور أحدا في أسوان يُلحق بنا الأذى .. ص 152. وأحيانا يختلط الأمر على شارلوت فتنظر إلى مصر بعيني جدتها فيبي وذلك عندما تتشبع بجو المذكرات والخطابات فتتساءل ص 74: هل هاتان عيناي أم عيناها؟. كما أنها تعقد مقارنة بين جريمة قتل جدتها ورواية أجاثا كريستي المعروفة جريمة على النيل التي تدور أحداثها فوق باخرة على النيل. ولئن كانت روايات أجاثا كريستي عرفت بأنها روايات بوليسية، فإننا في رواية جانيس إليوت أمام رواية شبه وثائقية إنسانية اجتماعية تختفي فيها صفة الرواية البوليسية على الرغم من وجود جريمة قتل يعود تاريخها إلى عام 1924 أي إلى ما يقرب من خمسة وسبعين عاما. ومع مضي الأيام من تجوال شارلوت في أسوان من أجل البحث عن الحقيقة، تعثر على بانسيه وهي عجوز إنجليزية عاشت في أسوان، وكانت على علاقة طيبة بجدتها فيبي وورد اسمها كثيرا في المذكرات أو الخطابات. تقول بانسيه عن فيبي: لقد أحبت مصر حبا جارفا أليس كذلك .. أما الطريقة التي ماتت بها فقد كانت رهيبة. ص 155. وتسأل شارلوت بانسيه عن سبب عدم سفرها إلى إنجلترا ولو من أجل رؤية أهل فيبي، الأسرة؟ وتفاجئنا بانسيه بقولها:
إن إنجلترا هي التي قتلتها، وهنا تصل شارلوت إلى عمق الحقيقة، وأن الإنجليز هم الذين قتلوا جدتها، لأنها أحبت مصر، وساعدت المصريين على المطالبة، بالاستقلال دون أن تعرف الحجم الحقيقي للدور الذي يمكن أن تؤديه في سبيل ذلك. لقد كان زوج فيبي مخبرا سريا، أو جاسوسا بريطانيا في مصر والسودان، وكان مُراقبا في الوقت نفسه. وقد تم رصد تحركات زوجته، وعلمت المفوضية البريطانية باتصال فيبي بالمصريين وحاولوا الوقيعة بينها وبين زوجها، فأقنعوه بأنها على علاقة آثمة بأحمد آل حازم الذي اتهم بمقتل أحد المسئولين الإنجليز الكبار في مصر، ثم تخلصوا بعد ذلك من فيبي باغتيالها. يقول جيوفري جيلكريست في خطاب إلى دانكان ص 174: مسكينة فيبي تلك المقابلات الأخيرة المختلسة مع آل حازم، جميعها مسجل في تقارير البوليس السري بالقاهرة. كانوا أصدقاء أسيء اختيارهم، وكانت جريمة فيبي الوحيدة هي براءتها وجهلها بخطر مثل هذه الارتباطات. لقد حصلت شارلوت من بانسيه على عدة خطابات ومذكرات في غاية الأهمية، اتضح من خلالها صحة الاتهام الذي وجهته بانسيه إلى الإنجليز. تقول شارلوت ص 177: كان هناك خطاب أخير في مجموعة بانسيه كان موجها إلى إليكس شيء رهيب .. لم يكن خطابا على وجه التحديد، كان أشبه بقصاصة لصق غفل من التوقيع، تتضمن إبلاغه أن يراقب زوجته مع أحمد حازم. وتقتنع شارلوت في نهاية الأمر أن الذي قتل جدتها هم أبناء جلدتها، وأن أحمد حازم كان يحبها، ولكن لم تكن هناك علاقة بينهما. وتؤكد شارلوت على حيادها تجاه مصر ـ على عكس جدتها ـ عندما تسألها إحدى صديقاتها في الرحلة السياحية بقولها:
وهل أنتِ وقعتِ في حب هذه البلاد ؟ تضحك وتجيب: أنا مجرد سائحة عابرة. وتنتهي الرواية بتبرئة مصر والمصريين من تهمة قتل فيبي الإنجليزية التي أحبت مصر، وتمنت أن تموت فيها، ولكن بالتأكيد لم تكن تتمنى أن تموت بهذه الطريقة، وبيد أبناء جلدتها. إنها رحلة البحث عن الحقيقة التي اعتمدت فيها المؤلفة على الوصف والإثارة والاكتشاف من خلال السرد الشاعري والسرد التقريري والإخباري، ومن العبارات الشاعرية الجميلة قولها ص 164 على لسان فيبي: أخذني إليكس زوجها في رقة كما لو كنت مصنوعة من قشر بيض، عبر النهر إلى البر الغربي، ولعل لهذا السبب وصفت جريدة التايمز المؤلفة بأنها واحدة من أحسن الأديبات المعاصرات أسلوبا، وأخصبهن خيالا.