1- مدخل .
2-كيف نحاكم الحضارة الغربية.
3-المشكلة أو المأزق : إخفاق الحداثة.
4 – الأساس القائم للمعرفة.
5 - الأساس الجديد للمعرفة.
6- الفاعلية.
7-أسباب إخفاق الحداثة.
1- مدخل :
لقد تيسر لي تقديم ورقة بحثية في مؤتمر مؤسسة " ترقية الوعي البشري " بساندييقو بالولايات المتحدة، تحت عنوان " نحو علم للفاعلية"(1) ، حيث تم استعراض المرتكزات الأساسية لنظرية الفاعلية، بوصفها نظرية في طبيعة الإنسان، ولا شك أن أي نظرية في طبيعة الإنسان، هي على نحو ما نظرية في طبيعة الكون، والعكس بالعكس. يقصد بالفاعلية القدرة على الإنتاج والإثراء الشامل للحياة، عندئذ يعنى علم الفاعلية بتنمية الفاعلية، تنمية قدرات الإنسان النفسية والروحية والإبداعية، أي يعني ببناء الإنسان الخلاق، وذكرت في تلك الورقة أن بعض الأسباب الداعية لتطوير علم للفاعلية تتمثل في:-
أ- أزمة الهوية التي يعيشها الإنسان المعاصر، التي تتجسد في التناقض بين الطابع الكوني للوجود الواقعي للإنسان الفرد، وانغلاق وعي هذا الفرد في الأطر الذاتية والأسرية والطائفية والقبلية والقومية.
ب- أزمة النهضة الحضارية في العالم الثالث، وخاصة الشعوب العربية والأفريقية، وجميعنا شهود على هذه الأزمة، ...لحظة بلحظة. لقد طالب الكثيرون بضرورة المقاومة وضرورة وضع الأولويات ، وأري الأولوية القصوى للجبهة الثقافية، لترقية الوعي، ذلك أن الغرب قد أستطاع أن يفرض هيمنته على العالم أجمع بوساطة ما أبدعه من استراتيجية لرؤية الحقيقة، ولن نستطيع أن نتحرر من سلبيات وإخفاقات استراتجيته، التي لا نعاني منها وحدنا، بل العالم بأسره ، بما في ذلك شرائح كبيرة في الغرب نفسه، إلا إذا تمكنا من إنتاج استراتيجية جديدة لرؤية الحقيقة تتجاوز إخفاقات الرؤية الغربية. وتقدم حلولاً يقبلها الغرب طواعية، كما نقبل اليوم الكثير من معطيات رؤيته طواعية، فها نحن نلهث سعياً من اجل السيارة والتلفاز والنقال والكهرباء والدواء....إلخ . إننا جميعاً في قارب واحد، لن ينقذنا من الغرق التراث أو الجغرافيا أو العرق، لقد كان طوق النجاة دوماً وسيظل أبداً هو إنتاج معرفة جديدة، وتاريخ البشرية أصدق شاهد.
ج- أزمة العلوم الإنسانية: أوضحت أن أزمة العلوم الإنسانية تتمثل في افتقارها إلى الموضوع على مستوى بنيتها النظرية، أي غياب النظرية العاملة، الأمر الذي يجعل منها علوماً لفرض السوية وتقويض انبناء الفاعلية.
د- ذكرت أيضاً أن من ضمن الأسباب الداعية لعلم للفاعلية "مأزق الحضارة الغربية" وهو الموضوع الذي سوف نتناوله في هذه الورقة، وهو موضوع ضخم وشائك، لذا سوف ينصب اهتمامي على النسق الفكري أكثر من التفاصيل.
نقصد بمأزق الحضارة الغربية فشل أو إخفاق مشروع الحداثة الغربية، وهو المشروع التأسيسي للحضارة الغربية. ويقصد بالحضارة الغربية المسيرة التاريخية الثقافية الاجتماعية للشعوب الأوربية خلال الخمسة قرون الماضية، سوف نستخدم مصطلحي الثقافة والحضارة بنفس المعنى، وتعني الثقافة - بالنسبة لنا- جاهزية معرفية لأجل إنتاج الوسائل المادية والقيم الروحية.
2- كيف نحاكم الحضارة الغربية؟
يحلو للبعض وصف الحضارة الغربية بأنها حضارة مادية إباحية استعمارية تحط من قيمة الإنسان وأشواقه الروحية، يقال هذا أحياناً – على سبيل المثال- إعلاء لشأن الثقافة العربية الإسلامية بوصفها ثقافة روحية ترفع من قدر الإنسان. بالمقابل هناك من ثمن عالياً الحضارة الغربية، كونها أنتجت العلم والتكنولوجيا، وأنتجت مجتمعات حديثة تسودها الديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان.
بالطبع ليس محبذاً في أي بحث علمي رصين الركون إلى مثل هذه الانطباعات الوصفية، حتى لا نستصدر أحكاماً جزافية. وبما أننا لا نستطيع أن ننفذ إلى الواقع بصورة اعتباطية دون نظرية توجه هذا النفاذ، يصبح من الضروري حين نعالج موضوعاً ضخماً مثل الثقافة الغربية أن نستهدي بنظرية عامة للثقافة، وحينما نحاكم هذه المسيرة الثقافية عبر القرون يصبح من الضروري أن نسترشد بنظرية في حركة التاريخ.
ثانياً: أننا لا نستطيع محاكمة هذه الحضارة من خلال كشف حساب لأوجه القصور والعطاء في كل حقل من حقول إبداعاتها، الفنون والآداب والفلسفة والعلم والتقنية والاقتصاد والسياسة ....الخ هذا أمر فوق طاقة فريق من الباحثين ناهيك عن فرد.
لذا سوف نلجأ إلى محاكمة أستراتيجية هذه الحضارة لرؤية الحقيقة، وما تنطوي عليه هذه الاستراتيجية من بديهية لا مفكر فيها، مولدة لنمط التحولات المعرفية في فضاء الثقافة الغربية. لذا سوف نبحث في محدودية أو اعتلال الأساس المعرفي (الابستمولوجي ) الذي قامت عليه هذه الثقافة، كما نبحث في العلاقات الديناميكية لبني العقل في فضاء الثقافة الغربية ، ونقترح أساساً جديداً للمعرفة، استراتيجية جديدة لرؤية الحقيقة، تسمح بالكشف عن أسباب فشل مشروع الحداثة الغربي، ومن ثم كيفية تجاوز الإخفاقات. لذا في تقديرنا المتواضع، تكمن المنهجية السابرة لهذه الأغوار في التحليل الفاعلي، أي نظرية الفاعلية(2).
3-المشكلة أو مأزق الحضارة الغربية:
يتمثل مأزق الحضارة الغربية في فشل مشروع التنوير أو الحداثة الغربي، ونقصد بالإخفاق أن المشروع لم يحقق الطموحات المبتغاة، بل في كثير من الأحيان جاءت النتائج بعكس التوقعات. أحدثت الحداثة الغربية ثورة في مفاهيم العقل، الذات، التاريخ والطبيعية. كان ذلك حصيلة ثلاثة قرون (لخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر) من الكفاح والصراع ضد سلطة الكنيسة الظلامية وضد الإقطاع. فنتج عن ذلك الإصلاح الديني والنهضة، وبذلك تمكن الوعي الأوروبي من إحداث قطيعة بين الماضي والحاضر، وتحول من الماضي إلى المستقبل، وتحول من سلطة أرسطو إلى سلطة العقل، وتم الانتقال من سلطة الكتاب المقدس إلى سلطة الطبيعة، ومن التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان، ومن البحث في خلود الروح إلى البحث في طبيعة الجسد.
فتطور العلم في كافة المجالات وازدهر. كما ناضل التنويريون من أمثال منتسكيو، روسو، فوليتر، هلفسيوس وآخرون ضد تدخل الكنيسة في شئون العلم، والتقدم الاجتماعي، كانوا ضد الطغيان ومع تحرر الإنسان من القهر الطبقي، كانوا مع حرية الفكر ضد التعصب الديني، مع الديمقراطية ضد الملكية ومع الجمهورية الاشتراكية ضد الإقطاع (3). مهد وأشاع كل ذلك فكر الأنوار الذي أعلى من شان العقل ومجد الإنسان كحرية وإرادة، وبشر بتقدمه وتحرره. وتحققت الثورة الفرنسية 1789تحت شعار "الحرية، الإخاء والمساواة " . ولكن ما أن توطدت دعائم الثورة وانفتح الأفق لتجسيد قيم الحداثة، سرعان ما بدأت النتائج تأتي على عكس التوقعات. فباسم العقل والعلم والتقدم، جاءت أنظمة استبدادية شمولية تصادر حرية الفرد وإرادته، وباسم العقل والعلم والتقدم، انطلقت الجيوش الاستعمارية تغزو العالم، مصادرة لحقوق الإنسان وسالبة الحريات. وفي النصف الأول من القرن العشرين بلغت الحداثة قمة احباطاتها من خلال حربين عالميتين، سحقتا ودمرتا عشرات الملايين من البشر، ومازالت البشرية تذوق ويلات الحروب، والاستغلال والاضطهاد، كل ذلك باسم العقل والحقيقة والتقدم.
ثم العلم والتكنولوجيا اللتان بنت عليهما الحداثة آمالها في تحقيق الرفاهية والسعادة للبشرية تحولا إلى وسيلة لتسليع الإنسان، جعله سلعة بخسة الثمن، وأصبحا وسيلة لدمار البيئة، إبادة الغطاء النباتي بما فيه من غابات وكائنات حية، في بقاع شاسعة من الكرة الأرضية، بث التلوث في باطن الأرض وخارجها، وفي البحار وفي السماء. هكذا بعد حربين عالميتين أنجبتهما أطماع الرأسمالية واستبداد السوق، وبعد إفلاس النظم الشمولية الاستبدادية، وبعد تواطؤ العلم مع السلطة والاستغلال، أصبح جلياً أن العقل الذي بشرت به الحداثة قد فقد عقلانيته وأن العلم قد فقد موضوعيته، وأن الإنسان قد فقد آدميته. أصبح كل شيء يلفظ أنفاسه الأخيرة على مشارف الفناء، ولم يتبق إلا إصدار شهادات الوفاة للعقل والحقيقة والإنسان كذات وإرادة. لذا كان رد الفعل المتوقع على أقل تقدير على مستوى نظام الخطاب، إعداد العدة لاستئصال الشمولية والعقلانية والذاتية، ومن ثم إعلان موت الإنسان ونهاية التاريخ(4 ،5) ، وهي المهمة التي تبنتها ما بعد الحداثة، إكمال مراسم دفن جثمان الحداثة.
ها نحن أمام أهم وأخطر سؤال في تاريخ البشرية، لماذا لم يكن ممكناً تجسيد قيم الحداثة، قيم الحرية والإخاء والمساواة والتسامح، على أرض الواقع ؟ ما هو السبب؟ هل المشكلة في العقل أم العلم أم الإنسان أم فيهم جميعاً؟
اختارت ما بعد الحداثة ميشيل فوكوه، جاك دريدا، وآخرون، موت الإنسان ذاتاً وإرادة وعقلاً، وذلك استناداً لمعطيات اللسانيات البنيوية التي تأسست على مجموعة من المسلمات، بات من الواضح أنها تلغي مفهوم الذات وفعالية الوعي والإرادة، مما يمثل تحدياً لأطروحات الحداثة الإنسانوية. ويتمثل التحدي في تحويل إشكالية المعني والدلالة من مجال نوايا ومقاصد الذات إلى مجال النسق اللغوي اللاشعوري. وانبثق أيضا من مضامين المسلمات اللسانية البنيوية تصور اللغة كنسق مقفل ومكتفي بذاته، وسابق الذات والعالم(6) .
ليس هذا فحسب بل أن نيتشه وفرويد أكدا على أن الكوني ينبثق من اللاوعي واللغة والرغبة، خلافاً لمزاعم الفكر التنويري في أن الكوني ينبثق من العقل الذي يدعو إلى التحكم في الانفعالات بواسطة الإرادة المسخرة لخدمة الوضوح. زعمت الماركسية أن الأزمة هي أزمة طبقة رأسمالية وليست أزمة عقل ، وإنه يمكن تجاوز الأزمة من خلال البروليتاريا صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الاجتماعي وفي الحرية والعدالة والمساواة . لكن مع الأسف جاءت التجربة الاشتراكية دليلاً دامغاً على مأزق الحداثة. انهارت التجربة وأرتد المجتمع إلى الرأسمالية وآليات السوق، رغم التضحيات الجسيمة، مما يدل على صعوبة تجسيد قيم الحرية والعدالة والمساواة ليس فقط على الصعيد الكوني، وإنما أيضاً في الحدود القطرية الضيقة ، مما يجعل السؤال مفتوحاً لماذا تموت اليوتوبيا؟ ولماذا يؤدي السعي وراء الاشتراكية والعدالة الاجتماعية إلى الاستبداد كما يؤدي إلى تدني الكفاءة الاقتصادية، أي إلى تدني معدلات النمو الاقتصادي؟
يرجع ألن تورين في مؤلفه " نقد الحداثة" أسباب إخفاق الحداثة وعدم التمكن من تجسيد قيمها على أرض الواقع، فيقول " أن نقد الحداثة المعروض هنا يريد أن يخلصها من التراث التاريخي الذي اختزلها في العقلنة ويدخل إليها فكرة الذات الشخصية وتحقيق الذات. إذ أن الحداثة لا تقوم على مبدأ وحيد ولا على مجرد تحطيم العقبات التي تقف في وجه سيادة العقل، إنما هي نتيجة للحوار بين العقل والذات(7) .
من ثم يري ألن تورين أن فشل الحداثة يرجع إلى اضمحلال الذات نتيجة لاختفاء الغايات التي دمرها المنطق الداخلي للوسائل التكنيكية، كما يرجع السبب أيضاً إلى تقلص الحداثة إلى مجرد البحث عن اللذة ،عن المكانة الاجتماعية، وعن الربح وعن القوة.(8) ولا تنفصل فكرة الذات عند تورين عن الفاعل الاجتماعي، فهي بالنسبة له إرادة فرد في التعرف عليه والاعتراف به كفاعل . لقد أضطر ألن تورين بغية تفسير إخفاق الحداثة إلى فصل العقل عن الذات، ولأن هذا الفصل غير ممكن نجده في مكان آخر يعرف الذات فيقول" ماذا نعني بالذات؟ هي قبل كل شيء خلق عالم منظم بواسطة قوانين عقلية ومعقولة بالنسبة للفكر الإنساني."(9) وإذا كان الفصل بين العقل والذات غير ممكن فكيف نفهم أن تطور الوسائل التكنيكية قد أدى إلى اضمحلال الذات، ولم يؤدي إلى اضمحلال العقل؟ وكيف نفهم أن سقوط الحداثة في البحث عن اللذة والمكانة الاجتماعية والربح قد أدى إلى اضمحلال الذات ولم يؤدي إلى اضمحلال العقل؟
كل هذه المتاهات تجعلنا أمام مأزق حقيقي يتطلب حله استحداث استراتيجية جديدة لرؤية الحقيقة، يحتاج إلى برادايم جديد، يحتاج إلى أساس جديد للمعرفة البشرية.
ولكن ما هو الأساس القائم للمعرفة، وما هي حدود اعتلاله حتى نستوضح الأساس الجديد؟
4- الأساس القائم للمعرفة:
شهد القرن العشرون تقدماً هائلاً في تطور العلم، إذ تحققت الثورات الثلاث: ثورة مكانيكا الكم التي أدت إلى اكتشاف الذرة واستغلال طاقتها، وثورة المعلومات التي أدت إلى اكتشاف الحاسب الآلي وغزو الفضاء وثورة الاتصالات. ثم ثورة البيولوجيا الجزئية التي أدت إلى اكتشاف الحامض النووي والهندسة الوراثية والاستنساخ. على الرغم من أن كل حقل من هذه الحقول ظل يستفيد ويوظف الاكتشافات في الحقول الأخرى لمصلحة تطوره الذاتي، إلا إن هذه الحقول ظلت تفتقر إلى ما يربط بينها، أي ظلت متشظية. يري الكاتب أن بعض الأسباب التي تقف خلف هذا التشظي، هي نفسها التي تقف خلف مأزق الحضارة الغربية، ألا وهي محدودية الأسس التي تقوم عليها المعرفة البشرية. تتجسد العلة والمحدودية في الطريقة التي فهمت بها مفاهيم : المادة، تطور الكائنات الحية والعقل.
مفهوم المادة :
يعرف الفيزيائي المادة بالكتلة وكمية الحركة(الزخم) كما يعرف الإشعاع أو الطاقة بالتردد وطول الموجة. وتم في إطار النظرية النسبية الخاصة إثبات الصلة الوشيجة بين المادة والطاقة من خلال ، وهذا يعني تكافؤ الكتلة والطاقة، إذ يمكن تحويل المادة إلى طاقة والعكس بالعكس. عندئذ حينما نتحدث عن المادة نقصد هذا التصور الذي تأسست عليه الفيزياء المعاصرة. في تقديرنا أن فشل الفيزياء المعاصرة في استكناه ظاهرة الحياة وتطورها، بما في ذلك انبثاق العقل يرجع إلى محدودية مفهوم المادة آنف الذكر. فالمادة في إطار هذا الفهم خاملة لا تنطوى على القدرة على توليد النظام، لذا فقد أوضحت العديد من الدراسات أن تطور الكائنات الحية لا يمكن أن يحدث عشوائياً، ومن ثم ضرورة وجود مبدأ مولد للنظام.(10،11،12) ذلك أن طبيعة العقل بوصفه قدرة على توليد النظام ينبغي أن تكون نتيجة لعقلانية الطبيعية. يتطلب حل هذه المشكلة توسيع مفهوم المادة لينطوى على نحو ما على القدرة على توليد النظام أو المعلومات.
مفهوم التطور:
تأسست نظرية دارون على مسلمتين أساسيتين هما : الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي. وبغض النظر عن عشوائية الطفرات أم لا، اعتمد الانتخاب الطبيعي على مبدأ زيادة الكفاءة التناسلية reproductive fitness أوfitness maximization وإن معيار هذه الكفاءة هو القوة والأنانية والعنف. لقد تم استخلاص هذا المبدأ من خلال عمليات حفظ البقاء على مستوى النوع، عندئذ عمم بوصفه المبدأ الناظم لتطور الحياة كافة، بما في ذلك الحياة الإنسانية. وفي حقيقة الآمر حين ينظر المرء إلى تاريخ البشرية يجده في عمومه تجربة تحقق صدقية مبدأ الأنانية والقوة والعنف، بل أن مجتمعاتنا المعاصرة ليست بمعزل عن هذه الصورة المأساوية. بيد إنه - لحسن الحظ – ليست هي الصورة الوحيدة التي تم التعبير عنها من خلال تاريخ البشرية. لقد جسد تاريخ البشرية نماذج للحب والإبداع والعطاء والغيرية تناقض تماماً الصورة الغالبة. إن تجسيد الغيرية والإبداع من خلال أقلية لا يقلل من أهمية الظاهرة. أدت هذه الواقعة إلى انقسام العلوم الإنسانية، تلك التي ارتكزت على البيولوجيا :علم النفس البيولوجي ، علم النفس التطوري، علم الاجتماع البيولوجي ، استهدت هذه العلوم بالفطرة الدارونية، وبات أملها في حل مشكلات البشرية المستعصية، الأنانية والعنف، رهيناً بما يمكن أن يقدمه تطور الهندسة الوراثية من حلول.(13) بالمقابل قلل الشق الآخر للعلوم الاجتماعية، تلك التي تركز على التعلم والاكتساب من دور الوراثة، التي اعتبرت شبه متساوية عند الجميع. هذا الانقسام في العلوم الإنسانية والتناقض الناشئ بينها، إنما يدل على محدودية مفهوم التطور الدارويني، أو على اقل تقدير يدل على محدودية قراءتنا لنظرية التطور، فصار الخلق والغيرية والإثراء الشامل للحياة خصائص منافية لتطور الكائنات الحية. لذا لزم توسيع قراءاتنا لنظرية
دارون.
مفهوم العقل:
لقد عرف العقل وظيفياً بأنه عقل اقتصادي، عقل أداتي، عقل تواصلي..الخ
وعرقياً: عقل أوربي، عقل عربي ، عقل ياباني ...الخ ، دون تحديد التركيب الذي يسمح بأي من هذه الوظائف، رغم علم الباحثين إنه لا وظيفة بلا تركيب. لم يجد تركيب العقل حظه من البحث مثلما وجدت وظائفه، يرجع السبب إلى وجود بديهية لا مفكر فيها(unthinkable assumption or hidden assumption ) مؤداها أن العقل البشري يتكون من بنية واحدة. أشاعت البديهية اللا مفكر فيها الإرباك في المعرفة البشرية على المستوى الفلسفي وعلى مستوى العلوم الاجتماعية والتاريخية، ذلك أن ديناميكية المعرفة ( عدم جوهرانيتها واطلاقيتها ) وديناميكية البناء الاجتماعي، وديناميكية حركة التاريخ وديناميكية الثقافة وديناميكية الوعي على صعيد الفرد لا تتجلى إلا من خلال ديناميكية بنيات العقل. لكل هذه الأسباب يصبح كشفنا لتعدد بنيات العقل وتعقيد تركيبه أمراً بالغ الأهمية.
البعد الانطولجي: لا يقتصر مأزق الحضارة الغربية على المحدودية الايستملوجية أنفة الذكر وحدها، بل يتعلق أيضاً بوجود أو سيادة بنية للعقل ، يتم الكشف عنها، بنية العقل المادي أو البرجوازي وهي بنية مغلقة ومتدنية الفاعلية.(14) يخول انغلاق بنية العقل اقصاء واستغلال واضطهاد كل من هو خارج الحدود الجغرافية لبرامج عطاء البنية، ويتم ذلك عادة بحجة التفوق الديني أو العرقي أو الحضاري. عليه يخول انغلاق بينة العقل احتكار الحقيقة والسلطة والثروة : مصدر الشر في العالم. لذا تصبح الحاجة ماسة إلى أساس جديد للمعرفة، يسمح باستكناه ظاهرة الإنسان على نحو أفضل.
5- الأساس الجديد للمعرفة البشرية:
المادة:
يري كثير من الباحثين(Bohm 1990, Draganescu , Kafatos , 1998, (15، 16)أن مفهوم المادة كما هو متحقق في الفيزياء المعاصرة لا يؤسس الواقع النهائي، وإنه من اجل فهم ظاهرة الحياة والعقل يصبح من المهم النظر إلى الواقع النهائي في إطار نوع من تنام complementarity-- المادة المعلومات information . يري ديفيد بوم أن الإلكترون جزء لا يتجزأ من مجال وجسيم، ويري أن للمجال خصائص جديدة فارقة عن الميكانيكا الكلاسيكية، تتمثل في احتياز المجال على معلومات ناشطة active information وهو نشاط شبيه لنشاط المعلومات في خبرتنا الذاتية. بالمثل أكد دراقنسكو وكافاتوس على أن الواقع النهائي يشتمل على نوع من التنام بين المادة والمعلومات. عليه يتمثل التوسيع المقترح لمفهوم المادة في وعي الطبيعة التنامية للمادة المعلومات. ونسمى البنية التتامية للواقع النهائي بالفاعلية، لكونها تشمل على معلومات ، بمعني قادرة على توليد النظام. بناء على هذه الرؤية التنامية تتجلى بنى الجماد عند الفاعلية المتدنية، وتتجلى البني البيولوجية والعقل عندما ترتقي الفاعلية، وتتجلى أبعاد الفاعلية ليست فقط كقدرة على توليد النظام وإنما كقدرة على الإبداع والإثراء الشامل للحياة.(17)
التطور:
لاحظنا إنه قد تمت قراءة نظرية التطور وتعميم نتائجها انطلاقاً من معطيات عمليات التطور الصغيرة micro-evolutionary processes التي تؤدي إلى المزيد من تكيف أفراد النوع الواحد مع البيئة، وهي عمليات تخضع لمبدأ زيادة الكفاءة التناسلية. لذا فإن توسيع مفهوم التطور يتطلب إعادة قراءة نظرية دارون واضعين في الاعتبار ناتج عمليات التطور الكبيرة macro-evolutionary processes، وهي العمليات التي تؤدي إلى تطور الشعبة phylum. فمن خلال تطور الشعبة تتخلق أنواع جديدة، محققة فاعلية وإبداعية التطور، كما يتم ابداع انساق بيئية ecosystems يتوفر لها الاستقرار وحفظ البقاء على المستوى الشامل للنسق، أي تتوفر الحماية الشاملة وحفظ البقاء الشامل لكل الأنواع في النسق، كان نسقاً ميكروسكوبياً أو ماكروسكوبياً. لذا يمكننا القول إنه بينما تخضع عمليات التطور الصغيرة إلى مبدأ زيادة الكفاءة، التناسلية، فإن عمليات التطور الكبيرة تخضع لمبدأ زيادة الفاعلية: الإبداع والإثراء الشامل للحياة.(18، 19)
العقل:
يتطلب توسيع مفهوم العقل اعتماد الفرضيتين الآتيين:
أ- لقد أدي تطور معمارية الدماغ البشري إلى أن تتنزل زيادة الفاعلية من خاصية تتعلق بعمليات التطور الكبيرة، تطور الشعبة، إلى خاصية تتعلق بتطور أفراد النوع البشري. هذا يعني أن الإنسان يخضع لمبدأ زيادة الكفاءة التناسلية، كما يخضع لمبدأ زيادة الفاعلية. عليه تظهر خصال الأنانية والعنف والاستغلال، (الخصال الدارونية) عند تدني الفاعلية، كما تظهر خصال الحب والإبداع والعطاء الشامل عند ارتقاء الفاعلية، كان ذلك على مستوى الفرد أو مستوى المجتمع والنوع.(20)
ب- كما أدي تطور معمارية الدماغ إلى أن يتمايز العقل ويتمفصل داعماً الدوافع الأساسية لحفظ البقاء، التناسل، إنتاج واستحواذ الخيرات المادية والإثراء الشامل للحياة. أصبح كل من هذه الدوافع مصطحباً ببنية للعقل، ذلك أن الإنسان يتناسل بوعي وينتج ويستحوذ الخيرات المادية بوعي، كما أن النشاط الخلاق الذي يحقق الإثراء الشامل للحياة نشاط واعي. بناء عليه يمكننا الحديث عن بنية عقل تناسلي وبنية عقل مادي أو برجوازي وبنية عقل خلاق، وهي بنيات للفاعلية. يقصد ببنية العقل النسق أو النواة التوليدية للوعي التي تحدد فكرة الإنسان عن نفسه ومنحي استجابته وتفاعله مع العالم. عندئذ يحتاز كل فرد بشرى بنيات العقل الثلاث: البنية التناسلية والبرجوازية والخلاقة.(21)
بنية العقل التناسلي: هي البنية التي يعي الإنسان من خلالها ذاته بوصفه كائناً تناسلياً ( جنسياً)، وظيفته ودوره في الحياة التناسل. عندئذ تمثل الأسرة والتناسل مرجعية نهائية للبنية.
بنية العقل البرجوازي : هي البنية التي يعي الإنسان من خلالها ذاته بوصف كائناً مادياً (اقتصادياً) وظيفته ودوره في الحياة إنتاج واستحواذ الخيرات المادية.لذا يشكل العمل واستحواذ الخيرات المادية مرجعية نهائية للبنية.
بنية العقل الخلاق : هي البنية التي يعي الإنسان ذاته من خلالها بوصفه كائناً خلاقاً نشطاً وظيفته ودوره الإنتاج والإثراء الشامل للحياة. لذا يشكل الإنتاج والإثراء الشامل للحياة مرجعية نهائية للبنية.
النمو والتشكيل: يقصد بنمو وتشكل البنية سيادتها، وتعني السيادة أن تستدمجها غالبية أفراد المجتمع (مجرد الغالبية)، ذلك أن سيادة بنية بعينها لا يعني عدم وجود ممثلين للبنيتين الأخريين، بقدر ما تعني أيلولة السلطة والسيطرة للبنية المستدمجة، ومن ثم قدرتها على توظيف البنيتين الأخريين لتحقيق مآربها. من جديد لا يعني الاستدماج أو السيادة السيطرة المطلقة، ذلك أن أهم سمة تميز بنيات العقل، كان ذلك على صعيد الفرد أو المجتمع هو حراكها. في العادة تسود البنية الأنجع في تصديها لمشكلات حفظ البقاء والتطور الاجتماعي. وهي سيادة تسمح لها بتوظيف البنيتين الأخريين لمهامها وأغراضها. لذا نقول إن بنيات العقل تتآزر عندما تقدم أحداها استجابة ناجحة لمجمل التحديات الاجتماعية والحضارية. أما إذا فشلت البنية السائدة أو الرائدة في تقديم استجابة ناجحة فإن البنيات سوف تتنافس وتتنازع بغية تقديم أفضل استجابة. ينشأ عن ديناميكا واستاتيكا بنيات العقل ما يعرف بعلاقات الفاعلية. تسود بنية العقل التناسلي حينما يكون المجتمع متخلفاً وليس من وسيلة لدرء زيادة معدل الوفيات إلا بزيادة معدل المواليد، وحينما تكون القوة العضلية مصدراً للأمن الغذائي والأمن الاجتماعي. بالمقابل تسود بنية العقل البرجوازي حينما تتمكن بنية العقل التناسلي من تجاوز هاجس خطر الانقراض، وتوفر البشر كمياً، فتكتظ بهم المدن. عندئذ ينشأ هاجس جديد، هاجس توفير الأمن الغذائي لملايين الأفواه الفاغرة، وهو الشرط الضروري لنمو وتشكل بنية العقل البرجوازي.
تركيب بنية العقل:
تتكون كل بنية من وجدان (جملة العواطف والمشاعر، في هذا المقام تهمنا القدرة على الحب)، جنان (القدرة على الفهم والاستدلال والتحليل...)، وذات (وعيها لذاتها). غير أن كل بنية تختلف عن الأخرى في وظائفها بناء على طبيعة المرجعية النهائية للبنية. نقول إن بنية العقل مغلقة (وجدان مغلق) إذا كان برنامجها للعطاء محدوداً، يقصر عملية الحب والعطاء في دائرة ضيقة تشمل الشخص وأسرته وربما عشيرته أو طائفته. وتكون بنية العقل مفتوحة إذا كان برنامجها للعطاء مفتوحاً يحقق الإثراء الشامل للحياة. في هذا الإطار تعتبر كل من البنية التناسلية والبرجوازية مغلقة، وإن البنية المفتوحة هي بنية العقل الخلاق.
الوجدان ومنظومة القيم: تتحدد منظومة القيم وفقاً للمرجعية النهائية للبنية وحسب انفتاح أو انغلاق الوجدان، لذا فإن منظومة القيم في البنية التناسلية، منظومة تناسلية تعمل على تكريس دور المرأة والرجل في التناسل، وتجعل من تكوين الأسرة غاية الحياة وليست وسيلتها. ورغم الأهمية البالغة لهذه البنية ومنظومتها القيمية التي حافظت على بقاء الحياة البشرية وصيرورتها، إلا إنه يعاب عليها تدني الفاعلية، كونها مغلقة. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لمنظومة القيم المادية التي تكرس دور الإنسان في الإنتاج والاستهلاك، فهي أيضاً محدودة العطاء. لذا فإن البنية الوحيدة التي يمكن أن تجسد قيم العدل والتسامح والعطاء الشامل هي بنية العقل الخلاق لأنها كونية الوجدان. تحدد كل بنية مفاهيم الشرف، الكرامة التنمية، معنى الحياة...الخ، فالشرف في مفهوم البنية التناسلية هو شرف الأسرة (الشرف الجنسي)، وهو في مفهوم البنية المادية شرف العمل والثروة، وهو في نظر البنية الخلاقة، شرف العدل والعطاء الشامل. وربما كان في مقدور التناسلي إدراك أهمية التنمية الاقتصادية أو الإبداع ولكن عادة, في أرض الواقع، لا يتوفر له الدافع لينخرط في مثل هذه المشاريع. هكذا تتمايز منظومات القيم وتتمفصل وفقاً لتمايز بنيات العقل.
الجنان Reason: لا يعتمد الجنان في تصورنا للعقل على المنطق وحده، بل يعتمد أيضاً على مكون الدلالة(في كل بنية) الذي يحدد المرجعية المعرفية( الابستيمة) العاملة ومرجعية الفعالية السببية. بما إن المنطق لا يختلف من بنية عقل إلى أخرى، فإن المرجعية المعرفية لكل بنية تتحدد وفقاً لمكون الدلالة في البنية، ولما كانت بنية العقل التناسلي متدنية الفاعلية (بنية وعي قصور)، فإن مكونها الدلالي يقذف بمرجعية الفعالية السببية خارج الذات وخارج الكون، لذا فإن مرجعيتها المعرفية وخطابها يكون ذا طبيعة غيبية وخرافية. هذا بينما تكون المرجعية المعرفية مادية بالنسبة للبرجوازي، خارج الذات إلا أنها ليست خارج الكون. عليه تمكنت بنية العقل البرجوازي من اكتشاف قوانين المادة لأنه كان عليها، من خلال سعيها لإنتاج واستحواذ الخيرات المادية، أن تطرح فروضا مادية، تخضع للمحاكمة التجريبية. وتكون المرجعية المعرفية الفاعلية أي الذات في إطار بنية العقل الخلاق، ونكون بذلك إزاء القوانين الأكثر جذرية في الطبيعة، قوانين منظومات التخليق الذاتي.
الذات: يتحدد وعي الإنسان لذاته بناء على بنية العقل التي يستدمجها، فهو تناسلي إذا كانت البنية المستدمجة تناسلية....الخ. مع الوضع في الاعتبار نسبة لحراك بنيات العقل المحكوم بتفاعل الإنسان مع ذاته ومع العالم الخارجي، وما يترتب على ذلك من ديناميكية في الوعي، فإن الإنسان لا يغل (يحبس) في البنية المستدمجة على نحو مطلق.
6- الفاعليةfaeeliya :
يسمح الأساس الجديد للمعرفة بانبثاق رؤية جديدة للإنسان والحياة والكون أساسها الفاعلية، حيث يلعب مفهوم الفاعلية، بوصفه وعياً للحياة ولحياتية الكون، الدور الذي يقوم به مفهوم المادة، أي إنه يشكل برادايم paradigm جديد لإشاعة الترابط والنظام في المعرفة البشرية من ميكانيكا الكم وحتى نظرية الأدب literary theory. واضح أن البرادايم الجديد لا يأتي من فراغ ، بل يتأتى من خلال توسيع ذات الأسس الابستمولوجية التي أرستها الحضارة الغربية. هذا يعني ألّا سبيل لتجاوز الحضارة الغربية إلّا من خلالها. يلاحظ أيضاَ أن البرادايم الجديد يعزز البعد المفارق للإنسان من خلال دمج المقولات الإنسانوية في المقولات البيولوجية، بينما تؤدي عملية الدمج في إطار الأساس القائم للمعرفة إلى إقصاء عين البعد المفارق : الحب والإبداع والعطاء الشامل. بذلك تشكل الفاعلية، في ضوء الأساس الجديد للمعرفة، أرضية فكرية تحتية للعلوم الإنسانية، فتسمح بنظريات في علم النفس والاجتماع والتاريخ، والثقافة ونظرية المعرفة ...الخ، ولنبدأ بمفهوم فضاء الفاعلية.
فضاء الفاعلية:
يتشكل فضاء الفاعلية من نسيج العلاقات الديناميكية لبنى العقل . يقصد بالعلاقات الديناميكية لبنى العقل، تنازر(تنازع أو تآزر) بنيات العقل وما ينجم عنه من صراع أو استقرار على صعيد الفرد أو المجتمع، وما ينجم عنه من نمو للفاعلية، ومن تنوع واختلاف. يتضح ذلك من خلال تعريفنا للبناء الاجتماعي بوصفه نسق تنازر بنيات العقل، من خلال سيادة إحداهن. عندئذ يصبح التغير الاجتماعي هو التحول من سيادة بنية بعينها للعقل إلى بنية أخرى. هكذا يتولد فضاء الفاعلية من حراك بنيات العقل، وهو فضاء بيولوجي نفس اجتماعي تاريخي. تنشأ في فضاء الفاعلية ظاهرات الفاعلية الإبداع، الاغتراب تطور المعرفة نمو الفاعلية حركة التاريخ...الخ.(22)
يتكون فضاء الفاعلية بدوره من فضاءات جزئية: فضاء بنية العقل التناسلي، فضاء بنية العقل البرجوازي وفضاء بنية العقل الخلاق. في بداية التاريخ البشري وفي المجتمعات المتخلفة المعاصرة تسود بنية العقل التناسلي، من أجل توفير البشر كمياً. هكذا تأسس فضاء الفاعلية الجزئي، فضاء بنية العقل التناسلي، أي الفضاء الذي تسود فيه بنية العقل التناسلي. وهو فضاء دارويني، بالمعنى التقليدي للدارونية، حيث يؤدي انغلاق بنية العقل إلى إقصاء واستغلال واستباحة الآخر، كما يسود الوعي التناسلي بسماته، فيما يتعلق بوعي الذات والمرجعية القيمية والمعرفية.
بعد القرن الخامس عشر أخذت تسود بنية العقل البرجوازي المجتمعات الغربية بالتدريج، وكان من العوامل المحركة لهذا التحول الزيادة النسبية في النمو السكاني وازدهار المدن التجارية، ومن ثم التصنيع. تؤدي زيادة النمو السكاني إلى ضرورة توفير الغذاء ووسائل الرفاهية للسكان، يؤدي هذا بدوره إلى تقسيم العمل، ويؤدي تقسيم العمل إلى ازدهار التجارة، ومن ثم زيادة وتراكم راس المال التجاري، الذي يوفر بدوره الأرضية لنمو وازدهار الصناعة، ضمن شروط أخرى. كما تؤدي زيادة الكثافة السكانية إلى انخفاض الضغط التناسلي، ويقصد بذلك انخفاض تشبث بنية العقل التناسلي بمهامها وأغراضها، كما يعني ارتخاء أو تلاشي الآليات التي تعزز التناسل. هذا بدوره يؤدي إلى استقلال الجنس عن التناسل، فيصبح غاية في ذاته. إن تحرر الجنس عن التناسل يساعد بدوره على انعتاق الجسد المغلوب على أمره، المغلول إلى الجنس والتناسل، فيسمح له هامش الحرية بممارسة الفنون والرياضة والرقص. حينما نتحدث عن انعتاق الجنس أو الجسد لا نعني قطيعة بقدر ما هو استقلال نسبي يؤدي إلى إثراء وتنوع الحياة الإنسانية، فالجسد الإنساني متعدد الوظائف والأغراض ومن المجحف في حقه، على نحو يضر الحياة، أن يختزل ويحصر في بعض الوظائف دون الأخرى. لذا تجدر الإشارة إلى أن الحضارة الغربية الراهنة هي أول حضارة إنسانية تحتل لها موقعاً في فضاء بنية العقل البرجوازي، وهو فضاء جزئي للفاعلية.إن انغلاق بنية العقل البرجوازي يعني بالضرورة انتماءها للفضاء الدارويني بخصائصه المذكورة آنفاً.
لم تسد بنية العقل الخلاق عبر التاريخ، رغم إنه قد تم الاستعانة بها في كافة النهضات الحضارية، وان ممثليها ظلوا دوماً هنالك. ومن المفترض أن تؤدي محاولة تجاوز التحديات التي تواجهها البشرية المعاصرة إلى تشكل فضاء بنية العقل الخلاق، وهو فضاء لبنية مفتوحة ، قادرة على تجسيد القيم الكونية. لذا فنحن نسمى هذا الفضاء الجزئي بفضاء الفاعلية، تمييزاً له عن الفضائين الجزئيين لبنيتي العقل التناسلي والبرجوازي بحكم انغلاقهما، ولنفس السبب نعتبر فضاءهما فضاءاً دارونياً بالمعني الكلاسيكي للمصطلح.
حركة التاريخ:
يتولد المسار العام لحركة التاريخ البشري من خلال العلاقات الديناميكية لبني العقل، وهو من ثم ليس مساراً لاطراد الحتمية بقدر ما هو مسار لتواكب الفاعلية والقصور. فتنشأ عن ذلك احتمالات مختلفة لحركة المجتمع: الاستقرار والتوازن، النهضة والتطور أو الانحطاط والاضمحلال. هناك نوعان من التحولات الاجتماعية : يحدث النوع الأول حينما تفشل بنية العقل السائدة - التناسلية مثلاًـ في التصدي لبعض التحديات الأساسية فتتصدع، وكنتيجة لذلك تنبري بنية العقل الخلاق لإزالة الخطر، فتحدث النهضة الحضارية من خلال تجاوز بنية العقل الخلاق للمعوقات الاجتماعية الكائنة. وبما أن حل المشكلات قد تم في فضاء تناسلي وأن البنية السائدة لم تستكمل مهامها الحضارية بعد، فإنها تستعيد تدريجياً زمام المبادرة التاريخية. وعادة ما ينجم عن هذه العملية الانحطاط الحضاري لأن البنية التناسلية العائدة على درجة من الفاعلية أقل من بنية العقل الخلاق. الصيغة الثانية للتحولات الاجتماعية تنشأ حينما تستنفد بنية العقل السائدة مهامها الحضارية، وكنتيجة لذلك تنشأ تحديات جديدة تستوجب سيادة بنية بديلة وفقاً لجاهزيتها. في هذه الحالة ينتقل المجتمع من فضاء جزئي محدد إلى فضاء آخر، وهو ما حدث للمجتمعات الأوربية بانتقالها من الفضاء الجزئي التناسلي إلى الفضاء البرجوازي. في هذه الحالة تأخذ الحضارة في الصعود والازدهار حتى تتمكن البنية الصاعدة من السيادة وفرض سلطانها. وبفرض سطوتها يعم الاستقرار، وتكف عن التطور، و تنجح في توظيف بنيتي العقل الخلاق والتناسلي لمهامها وأغراضها. كما تنجح في تهميش المنظومة القيمة لبنية العقل الخلاق. يلاحظ أن النموذج الفاعلي لحركة التاريخ يستوعب في داخله النماذج الأساسية لحركة التاريخ: النموذج الدوري والنموذج الخطى ونموذج الاستقرار والتوازن.
الثقافة:
مما سبق يمكننا تصور نظرية للثقافة تتسم بقدر من العمومية والديناميكية. لقد سبق أن عرفنا البناء الاجتماعي بأنه نسق تنازر بنيات العقل من خلال سيادة إحداهن. عندئذ تتحقق الثقافة، بوصفها جاهزية معرفية لإنتاج الوسائل المادية ولإبداع القيم الروحية، من خلال نسق تراكب المرجعيات المعرفية والقيمة. أي أن الثقافة هي نسق تراكب الخطاب التناسلي والمادي والخلاق. كل ثقافة كان ذلك في الماضي أو الحاضر تتراكب من هذه الخطابات، الأمر الذي يعني تكافؤ جميع الثقافات ، لا توجد أفضلية لثقافة على أخرى من حيث التركيب. مع ذلك هناك ثقافات أكثر دينامية وفاعلية، يرجع السبب إلى طبيعة بنية العقل السائدة ومن ثم الخطاب السائد. عليه يمكن وصف الثقافة بأنها تناسلية إذا كان يسودها الخطاب التناسلي ، وإنها مادية إذا كان الخطاب السائد مادياً، وأنها إنسية إذا كان يسودها خطاب الفاعلية. في ضوء هذا الفهم يمكن وصف كلاً من الثقافة العربية المعاصرة والثقافة الأفريقية المعاصرة بأنها ثقافة تناسلية. بينما هو واضح أن الثقافة الغربية المعاصرة ثقافة مادية. على الرغم من أن الثقافة المادية أكثر دينامية وفاعلية من الثقافة التناسلية، إلا أن ما يجمع بين الثقافتين انتماؤهما للفضاء الداروينى ومن ثم عجزهما عن تجسيد منظومة القيم الخلاقة. نعود ونكرر أن السيادة المادية أو التناسلية لا تعني خلو الثقافة، أياً كانت، من الخطاب الخلاق . عندئذ ما يدعى صدام الحضارات ليس هو صراع بين ثقافات إنسية ( روحية ) و أخرى مادية، بقدر ما هو تنابذ ثقافات تناسلية وأخرى مادية، نجم عن اختلاف مهام وأغراض كل من البنيتين، التناسلية والمادية.
7 - كيف نفهم إخفاق الحداثة؟
كيف نفهم مأزق الحداثة ؟ في ضوء ما سبق، لابد من التمييز بين مرحلتين في تطورها(23) : -
أ- مرحلة نمو وتشكل بنية العقل البرجوازي
ب- مرحلة سيادة واستواء بنية العقل البرجوازي.
في مرحلة النمو والتشكل تآزرت بنيتا العقل البرجوازي والخلاق في الإجهاز على سلطتي الكنيسة والإقطاع واستحداث النهضة. في هذه المرحلة لا يوجد تناقض بين أهداف كل من البنيتين، ولا غضاضة في أن تتماها بنية العقل البرجوازي مع مشروع بنية العقل الخلاق، فتتبني شعارات الحرية والإخاء والمساواة الكونية. أما في المرحلة الثانية حينما اكتملت السيادة لبنية العقل البرجوازي وتوطد سلطانها، عندئذ تحرص على تجسيد برامجها ومهامها غير آبهة ببرامج بنية العقل الخلاق. وفي الواقع هي لن تجد الفاعلية الكافية لذلك حتى أن رغبت، فقيم الحرية والإخاء والمساواة والتسامح قيم كونية يحتاج تجسيدها إلى وجدان كوني، إلى بنية مفتوحة للعقل، وليس مغلقاً كما هو الحال بالنسبة لبنية العقل البرجوازي.
عليه لا يعزي فشل الحداثة إلى العقل، فعن أي عقل نتحدث؟ لم يعد العقل واحداً ومطلقاً، بل متعدداً ومتنوعاً وديناميكياً، بل يعزي الفشل إلى فشل بنية العقل البرجوازي في تجسيد القيم الكونية، القيم الخلاق، التي استصحبت وساهمت في بناء مشروع الحداثة، وكما أوضحنا أنه يتعذر ويتعثر سيادة قيم كونية في فضاء دارويني.عندئذ تتلخص المشكلة في كيفية الانتقال من الفضاء الدارويني إلى الفضاء الخلاق، فضاء الفاعلية. مع ملاحظة أن هذا الانتقال لا يمكن أن يتم بالعنف والإرهاب، كما لا يتم بالوعظ والإرشاد. أولاً، لا يجدي العنف لأن العنف من الآليات التي يعيد بوساطتها الفضاء الدارويني إنتاج نفسه فيؤبد كينونته. عليه يستحيل الانتقال إلى فضاء الفاعلية عن طريق العنف. ثانياً ،لا يجدي الوعظ والإرشاد لأن بنية العقل المستدمجة سابقة انطلوجياً للنص أو الخطاب ومولدة لدلالته على نحو انتقائي يتلاءم وأغراضها.
لكل هذه الأسباب تحتاج عملية الانتقال إلى فضاء الفاعلية إلى آليات جديدة نجملها في :-
أ - آلية لتنمية الفاعلية.(24)
ب - نواة حضارية مولودة للفاعلية.(25)
ج - نظرية للمعرفة الشاملة لا شمولية.(26)
الهوامش والمراجع:
1 – E. M. Elsheikh, 2005. Towards a Science of Faeeliya. Consequentiality, Vol.,1, Human All Too Human. Dena Hurst(ed.), Expanding Human Consciousness, Inc., Tallahassee, Florida, U.S.A. pp.129-152
2- الشيخ محمد الشيخ، 2001، التحليل الفاعلي- نحو نظرية حول الإنسان, دائرة الإعلام والثقافة، ا لشارقة.
3- بيير شانو، 2000/ 2003، الحضارة الأوربية في عصر الأنوار، ترجمة سلمان حرفوش ، دار كنعان ، دمشق، سوريا.
4- ميشال فوكو، 1986، حفريات المعرفة ، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء، المغرب. ص، 175.
5- فرانسيس فوكوياما، 1993. نهاية التاريخ وخاتم البشر ، ترجمة حسين أحمد أمين ، مركز الأهرام للترجمة والنشر. القاهرة ، مصر .
6 - من أهم هذه المسلمات : التمييز بين اللغة وبين الكلام . تفضيل التعقل والتفسير من خلال الوصف السكوني والتزامني . اختزال مظاهر اللغة الصوتية والدلالية ، إلى مجرد مظاهر شكلية وصورية. اعتبار اللغة كياناً مستقلاً من الإحالات الداخلية، أي بنية.
7– ألن تورين، 1997، نقد الحداثة . ترجمة أنور غيث، المجلس الأعلى للثقافة. ص 25.
8 – ألن تورين، المرجع السابق، ص 145.
9 – ألن تورين، المرجع السابق، ص 274.
10 - Eden,M., 1966. Inadequacies of New Darwinian Evolution as a Scientific Theory. In Moorhead, S., P., and Kaplan, M., M.,(ed.s). Mathematical Challenges to the New- Darwinian Interpretation of Evolution. The Wistar Institute Press.
11 – Kauffman, S., 1993. The Origins of Order: Self-Organization and Selection in Evolution. Oxford University Press.
12 – E. M., Elsheikh, 2005. Biological Evolution: An Information Quantum Analog Model.( manuscript)
13 - – فرانسيس فوكوياما، 2002. نهاية الإنسان – عواقب الثورة البيوتكنلوجية. ترجمة أحمد مستجير . اصدارات سطور.
14 – الشيخ محمد الشيخ ، التحليل الفاعلي ، مرجع سابق ص 102.
15 – Bohm, D., 1980. Wholeness and the Implicate Order. Arc Paperbacks- Routledge and Kegan Paul Ltd. London, 1987, printing.
16 – Draganescu, M. 2004. Frontiers of Science and Self- organization. www.racai.ro/~dragam.
17 – E., M., Elsheikh, 2005. Towards a Science of Faeeliya Ibid
18 – E., M., Elsheikh. Ibid.
19 – E., M., Elsheikh. Ibid.
20 – الشيخ محمد الشيخ ، التحليل الفاعلي. مصدر سابق ص 116
21 – الشيخ محمد الشيخ ، التحليل الفاعلي. مصدر سابق ص 84.
22 – الشيخ محمد الشيخ ، التحليل الفاعلي. مصدر سابق ص 115.
23 – الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي . مصدر سابق ص 132 - 136.
24 - – الشيخ محمد الشيخ، التحليل الفاعلي . مصدر سابق ص116 - 119
25 - Ibid
26 - Ibid.