تعيش الرواية بداخلي من قبل أن أنسج أولى خيوطها، تتنفس واقع أو خيال ما وراء الوقائع، من قبل التفكير بالورقة أو الكيبورد، فكرة الرواية تنبت قبل أن تولد! ابحث عن شرفة ترفع راية الحرية المتاحة لأبعد الحدود، فرواية حياة إنسان، ليست سهلة المنال، حتى لا أقول أصعب من صعود قمم الجبال، فهي توازي سباق الظلّ الذي تخلفه ظهيرة عارية من الظلال، فالكتابة كالجري تحت وابل الأمطار أو التصدي لقطار مارق أسفل جسر منحدر عند نهاية طريق صحراوي...
تهشيم الواقع هو حرفة الروائي، هذا البناء القديم، هذا الدكتاتور المتعالي، أو ذاك المحيط بلا قرار، أو ذاك المستنقع الراكد، تلك الصورة القذرة، ذلك الوطن الغادر، أو تلك، خديعة الأصدقاء، لاجئ كنت أو مسلوب الحرية، مقيد بالسلاسل، سجين جدران الاسمنت، أو مقيد بزواج فاشل، أو حب عديم الرائحة...أنت بطل الرواية بكل صور متخيّلة من واقع تعيشه وتبحث عن قلم أو كيبورد يحررك من هذا الواقع...فتتلقى دعوة الكاتب وإذا كنت محظوظًا بكاتب يزعم كسر القيود وعبور المسكوت عنه بلا خجل...فأنت محظوظ حقًا...
الصعود إلى ظهر الرواية، يتطلب عجلات خرافية، ووقود أسطوري، وجرأة توازي متاهة في غابة أمازونية...هل قرأت لمجازفين من كتاب بلاد سلسلة جبال الأنديز...؟ سترى الفرق هناك عندما تصعد الملائكة والشياطين متنافسين في سباق محتوم بالنهايات الفاجعة...فزمن الدكتاتوريات سائد رغم تساقطها في السنوات الراهنة ومرشحة للآتية، فالمستنقعات والمتاهات ما زالت تشكل هناك دوائر وحقول وطواحين ترفد الروايات بالأنفُّس المحتومة...ما زالت بقايا الدكتاتوريات تنوخ في بعض ثنايا جبال الأنديز...ليست رواية ما لم يمسها شيطان...هذا شعار اللاتينيين...
تحفة الرواية مثل حسناء مشوهة...مثل سماء ساقطة من أعلى أو إله في صورة إنسان...لا غرابة في الالتباس فالكاتب يروي ما يدور في خياله وليس ما تمليه عليه الحكومة...الرواية خريطة عقلية لبلاد عجائبية، لمخلوقات خرافية تبحث عن فكّ طلاسم قيودها التي لا تعرف كيف كُبلت بها ومتي؟ الرواية تأتي وقت لا تكون فيه سعادة، وقت يخرج الوحش من الغابة...يشيع في الأرجاء شائعات أبلغ من الحقائق...ففي الأنظمة الدكتاتورية، الشائعات أجمل من الحقائق، لأن الحقائق ليس ورائها سوى الأحزان والاكتئاب...السعادة تأتي من الشائعات بينما الأحزان تتراكم من الوقائع...من هنا تتغذى شرايين الرواية المقتدرة على التنفُّس في أجواء القيود...وهي كثيرة، دينية وسياسية وغرامية وجزافية...قيود في شكل نجوم جزافية...
تعيش الرواية بداخلي فترة زمنية وتموت بمجرّد ولادتها، لأنها فقدت حرية التنفُّس ودخلت في ثنايا المكتبات وضاعت بين الرفوف أو اعتقلت بقاعات الجمارك...وهكذا طارت الرواية أو انتحرت حرية انتقالها على باب الجهات الرسمية وحتى الشعبية، أسيرة الموروث. أنتهز كل مناسبة جنائزية لتهنئة كل رواية خارج السرب...رواية تخطت حدود المسموح والمسكوت...