محمود درويش كلمة ألقاها الشاعر محمود درويش في ذكري أربعين الراحل ممدوح عدوان .
علي أربعة أحرف يقوم اسمك واسمي، لا علي خمسة، لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج إليها أثناء السير علي الطرق الوعرة. في عام واحد ولدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. ولدنا لنتدرب علي اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تدقه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية.
عاليا، عاليا كان كل شيء.. عاليا كالأزرق علي جبال الساحل السوري. وكما يتسلق العشب الانتهازي أسوار السلطان، تسلقنا أقواس قزح، لنكتب بألوانها أسماء ما نحب من الأشياء الصغيرة والكبيرة. يدا تحلب ثدي الغزالة، مجدا لزارعي الخس في الأحواض، شغف الإسكافي بلمس قدم الأميرة، ومصائر أخري لجمهور مطرود من المسرح.
لم ننكسربدوي هائل كما يحدث في التراجيديات الكبري، بل كأشعة شمس علي صخور مدببة لم يسفك عليها دم من قبل، لكنها أخذت لون النبيذ الفاسد. ولم تصرخ، هناك، لأن لا أحد، هناك، ليسمع، أو يشهد. دلتني عليك تلك الضوضاء التي أحدثتها نملة بين الخليج والمحيط، حين نجت من المذلة، واعتلت مئذنة لتؤذن في الناس بالأمل. ودلتك علي سخرية مماثلة! ولما التقينا عرفتك من سعالك، إذ سبق لي أن حفظته من إيقاع شعرك الأول، يفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويبعثر رائحة الياسمين. لم يكن لنا ماض ذهبي علي أهبة العودة، كما يدعي رواد المقهي الخائفون منا لقبض علي قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيد، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المتخم بفراغ المطلق.
لم نبحث إلا عن الحاضر. ولكننا، من فرط ما أهنا، بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع، أثار علينا غضب الملائكة المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض، والباحثين عن الشعر الصافي في جناح بعوضة، ودعينا، في غرف التشريح مفعمة الهواء والكلام، إلي بتر المفردات كثيرة الاستعمال. وسرعان سرعان ما علاها الصدأ من قلة الاستعمال، وفي أولها: الحياة.. ومشتقاتها. لكننا آثرنا أن نخاصم الملائكة. ممدوح لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبة في الضحك معك علي عورة بردي المكشوفة كأسرارنا القومية، ولأنه يذكرني بمدي حاجتي إلي استراحة من الركض آناء النوم، بحثا عن حلم مسروق، أراه واضحا وأحاور السارق. ويذكرني اسمك بما أنا فيه من طقطقة كأني حبة بلوط في موقد الفقير ليلة العيد. لهذا، أكتب اسمك ولا ألفظه، ففي الكتابة يتموج اسمك علي ماء الحضور. وفي الكلام أسمع وحش الغياب يطاردني من حرف إلي حرف، ليفترس الشلو الأخير من قلبي الجائع إلي هجائك المادح.
ممدوح! ماذا فعلت بك وبنا؟ فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض. ولكن، في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر. لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي، لا أتبين من منا هو الغائب، بل لأن الحياة التي ألفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها، وكم أحببنا فجورها وتقواها.. فتركت ثعلبا منا بلا صاحب. لا جلجامش ولا أنكيدو. لا الخلود هو المبتغي ولا قوة الثور. فنحن الخفيفان الهشان. كواقعنا هذا، لم نطلب أكثر من وقت إضافي لنلعب بالكلمات لعبا غير بريء. هذه المرة، أو لنورث ما لم نقله بعد من لم يقل بعد. ولنجعل من الشعر مزاحا مستحبا مع العدم. لكن حرف الميم الثاني في اسمك واسمي ظل قطعة غيار لا تنفع.
ممدوح! هذا هو وقت الزفاف الفاحش بين الرعد والصحراء، شرق الشمال، لانجاب الكمأ اعجازي التكوين. صف لي ولادة الكمأة أصف لك عجزي عن وصف سر القصيدة، فانظر شرق الشمال! هي حسرة التعريف. أنين الرمل علي الشاطيء حين يرفع القمر، بأصابعه الفضية، سروال البحر وقت الجزر، ويرش علينا قصيدة حب اباحية التصوف. فاغضض من صوتك، لا من بصرك، وانظر. فمنذ ولادة اللغز الكوني، والشعر مختبيء في أشد المواقع انكشافا. ويظهر جليا جليا في اللامرئي من سماء مسقوفة بكفاءة الغيب. كل الأزهار شريفة حيث تترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمر التي يضعها الجنرالات، ما بين وسام ونجمة، علي بزة سوداء أو كحلية... لخداع أرامل الشهداء. وكل اليمامات نظيفة، حتي لو بالت علي شرفاتنا والوسائد، ماعدا اليمامات التي يدربها الغزاة والطغاة معا، وعلي حدة، علي الطيران الرسمي في أعياد ميلادهم، وفي مناسبات وطنية أقل أهمية. الآن، لا أتذكر شيئا منك. فالذكري تلي الحروب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، علي هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد... أو نكتبها معا لشاعر محبط. فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، إلي أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضا، فينتظر غيرها ويحيا أكثر.
كما لو نودي بشاعر أن انهض من هذا الألم. وأنسي الآن، لتبقي معي، أكثر من غلس لم يدركنا ولم ندركه قبل أن تفرغ آخر كرم عنب مقطر في كأسك التي لا تحلو أبدا إلا لتنكسر، أيها العاصر الماهر! ليس هذا مجازا، بل هو أسلوب ليل لا يصلح إلا ضيفا، وأنت المضيف الباذخ. وإن افتأت عليك، كصديق حامض القلب، عاملته بالحسني وأرقت عليه حليب الفجر. لكني لا أنسي ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عالية وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهة عابثة. ومنذ عادت الجرار إلي حفظ الصدي، كالزيت، خوفا عليه من آثار الشمس الجانبية. كم حيرني فيك انشقاق طاقاتك الابداعية عن مسار التخصص، كعازف يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك إن واحدا منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في العديد، دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. وأنت أمامك بين يديك. ألا تري إليك، أم وجدت نفسك أصفي في تعددها، ياصديقي المفرط في التشظي ككوكب يتكون.
فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضا إلي عناية طبية، وإلي فصاد كلما أصيب الدم بالتلوث. آه، من التلوث الذي جعل الايقاع نشازا، واستبدل حفيف الشجر بموسيقي الحجر، واعتبر الحياة عبئا علي الاستعارة! لكن هذا لم يهمك. لأن الحياة لا توهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتعاش.. وتعاش بكاملها، وتلتهم كقطعة حلوي إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت. أحببتها فاحبتك. وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلي قسطا من الحياة لا لشيء.. إلا لينجبوا قتلي.
يا ابن الحياة الحر، أيها المدافع عن جمال الوردة العفوي، وحرية العشاق في العناق علي مرأي من كهان الطهارة اللوطيين! من بعدك سيسخر ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقدرون علي تسمية الضحايا؟ يأنفون من الانتباه إلي دم مسفوك علي طريق المعراج، ويسرفون في التحديق إلي غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة، ولأن الغيم سر مدي الدلالات. لعلهم علي حق، ما دامت هزائمنا تستدعي تطوير النقد إلي هذا الحد! لكن هذا أيضالا يهمك، أيها المتعالي علي التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جندي أمام سنبلة، ونظرت حزينا غاضبا، إلي أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت الي طريقها الممتليء بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معني هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم. ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصا؟ لماذا... لماذا؟ كلمة ألقاها الشاعر محمود درويش في ذكري أربعين الراحل ممدوح عدوان في دمشق مساء 31 يناير..