كلمات العزاء التي لم تصل إلى غايتها

ليس سهلاً أن ترسمَ امرأةً في الريح، تمشي بعناقيد عنبٍ ناضجٍ في غير موسمه، فيما ينتظرها ستة أقمارٍ على بعدٍ غير مرئي، فما المسافةُ إلا العاطفة، كلما اشتقتَ أكثر، زادت المسافةُ ولو كانت متراً واحداً، وهنا بالذات، في هذا المتر "المحتل"، وُلِدَتْ، وكانت ككل البنات، تبتعد في أحلامها، وترتب بيتها في لعبةٍ مع الوقت، وككل البنات، ضفّرت شعرها، وفكّته، وقصته قصيراً، وأطالته، وتباهت به أمام صديقاتها، وكرهته أحياناً، وكلما كان المساءُ يخرجُ إلى الطريق العام، كانت تودعه بقبلةٍ في الهواء، لأنها تعرفُ أن القمر يعوّضُ وحشة الليل، فتبتسم قبل أن تنام.
كتبت على يدها أسماء المناسبات العائلية، كي لا تنسى فيحزن الآخرون، وطيّرت أمنياتها مع كل شعاعٍ لمس الأرض آتياً من سماءٍ بعيدةٍ، وثَقَت بالسماء كحارسٍ وحيدٍ على الأحلام، ومضت في طريقها اليومي، أمَّاً عاديّةً تودِعُ رقياتها في خطواتها، فتمشي الريح معها خطوتين، ثم تيأسُ من شالها الذي يطيرُ دون حاجةٍ للريح، فيبدو من بعيد كأنه جناحان، وتبدو هي في هيئة طائرٍ يعيد الهيبةَ للفضاء، وكانت أيضاً تبتسمُ قبل أن تدخل البيت.
إنهم يدخلون إلى المزارعِ، ويكسرون الصلبان على رؤوس القساوسة، وحين جلسوا تحت الأبراج الكثيرة المنعوفة في أرض أبيها، لم يتشاوروا في نوع الأشجار التي سيعمرون بها الصحراء، بل في المكان الذي على الرصاصة أن تستقر فيه، وكانت بكل ما فيها من طيورٍ وشجر، هدفاً نموذجياً لجنديٍّ معتزٍّ بوعدٍ إلهيٍّ، وبندقيةٍ حديثة الصنع، تكادُ تطلقُ رصاصها دون معينٍ، لكثرة ما قرأوا على زنادها من أحقاد، فصارت تعرفُ لماذا خُلقت، ولماذا لا يمكنها أن تبتسم، قالوا لها إن الحديد لا يبتسم.
سقطت في المكان الذي كان معدا لها منذ البداية، لم يكن خطأً عابراً، ولم يكن الجندي يملك فائضا من الوقت ليعرف إن كانت تشكل إرهاباً ديموغرافياً، أو أنها تصنع جُبناً أو فخّاراً سيهدد وجود دولته، من باب الاحتياط المطلق، غرس الرصاصة في عروقها التي كانت تخبئ كنوزها التاريخية، فوجد الدم نافذةً للهرب من مهرجان التاريخ، لكنه لم يكن قادراً على الابتسام أيضاً.
الأولاد الستة الذين كانوا في الانتظار، ما زالوا في الانتظار، صاروا الآن بلا أمٍ ولا أبٍ، ولا حكايات، ولا جدار يلجأون إليه حين تشتد الرياح، وكلّ كلمات العزاء التي خرخشت في الأجواء، سقطت قبل أن تصل إلى غايتها.