أكتب عن رواية سعيد نوح " كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد " لكي أضع أمام القارئ صورة روائي مبدع له صوته الخاص ، ونبرته المتفردة ، ولكي أستثير حماسة القارئ للبحث عن رواية سعيد نوح الثانية الجميلة : " " دائما ما أدعو الموتى " . يتقاسم سعيد نوح ( مواليد 1964 ) مع كتاب الرواية الجدد المنهج الفني العام – أي مجموعة الوسائل وطرق التعبير الشائعة بدءا من الحفر في الزمن بالعمق والعرض ، والتخفف من عبء الوصف والحبكة وانتهاء بالاستفادة من التقنية السينمائية . وفي ذلك المجال ليس لدي سعيد نوح جديد . إلا أن سعيد يثب إلي الأمام مسافة واسعة بفضل أسلوبه ، أي طريقته الخاصة التي يتحقق بها المنهج العام . وأهم ما يميزه في هذا المجال ككاتب هو حرارة موقفه من شخصياته وموضوعه ، الحرارة التي تصبح بوتقة ينصهر فيها موضوع الرواية وأفكار ومشاعر الكاتب ، ليصبح كل ذلك وحدة واحدة . وسعيد نوح لا يعرف ما تم التعارف عليه سابقا بشأن الطابع الصارم الخارجي للعمل ، أو اختفاء الكاتب ، أو " جبل الجليد " الذي لا يظهر سوى سطحه . وعلى العكس من ذلك يبادر سعيد نوح في روايته " كلما رأيت بنتا "، وفي رواية " دائما ما أدعو الموتى " إلي إطلاق سراح طوفان من المشاعر النبيلة تجاه الشخصيات والعالم والحدث . ويبدو في ذلك أقرب إلي المغني الشعبي ، الذي لا ينكر تعاطفه مع أبطاله ، وبكائه عليهم ، وحثهم صراحة على الوقوف ثانية على أقدامهم لمواجهة العالم . أقول إن هذه الحرارة ذات الطابع الغنائي هي أهم ما يميز سعيد نوح وهي أعذب ما في كتابته وبفضلها يرتفع سعيد نوح عاليا كروائي مبدع ، لا يتكرر . ولذلك لم يكن مستغربا أن ننصت في رواية " كلما رأيت بنتا حلوة " إلي أصداء من نشيد الإنشاد ، وعبارات مثل : " أنا لحبيبي ، وحبيبي لي " من الإصحاح السادس ، أو قوله : " يا ناس ولعوا الفوانيس .. فها أخي جميل الليلة " التي يمتد صداها إلي عبارات مشابهة مثل " يا بنات هذا أخي قد طلع عليه الفجر " ، أو لجوء سعيد إلي أساليب الندب الشعبي التي تعتمد على التكرار مثل قوله : " أنت باقية في سعيد يا حبة عيني " ، أو حين تناجي ماجدة أختها الراحلة : " يا عروسة تعالي ، أنا ح أعمل لك كحك ، ها أزوقك بنفسي " . ويتضح هذا الطابع الغنائي حتى في عنوان الرواية ذاته الذي يشبه بيتا من قصيدة .
في روايته " كلما رأيت بنتا حلوة " يعرض سعيد نوح لقصة حب خاصة بين أخ وأخت ، لكنه حب يختلف تماما عن علاقة الحب المحرم التي طرحها محمد البساطي في روايته " فردوس " . في فردوس تتحرك رغبة شهوانية آثمة ومبهمة تجاه زوجة الأب ، أما عند سعيد نوح فإن المحبة المتبادلة بين الولد وأخته أقرب إلي النورانية ، والشفافية ، والسعي المشترك نحو مثال خاص للجمال الإنساني ، مثال يفتقده الواقع . ذلك أن سعاد تحظى بحب الجميع وانجذابهم إليها ، لأن بها من العطف على البشر والعالم الكثير ، ولأنها مستقيمة وصريحة وصادقة وطاهرة ومستعدة دائما للتضحية من أجل الآخرين، وغفران أخطائهم . وهي بدرجة ما الوجه الآخر الأنثوي لأخيها سعيد ، وهما معا يشكلان ذلك النموذج المكتمل للجمال الإنساني الذي يبكيه سعيد نوح ويغني من أجل وجوده . والعلاقة بينهما لا تشوبها شائبة ولو شبهة صغيرة من مشاعر الحب المحرم حتى عندما تسأل سعاد أمها : " أمي هل يجوز أن أتزوج ذلك الولد الجمي ل سعيد ؟ ولماذا حلمت بالزفاف مع سعيد ؟ " .
بالولد والبنت ، بسعيد وسعاد ، يتكامل الكائن المنقسم ، ليس في بوتقة الشهوة والتلاحم الدموي ، ولكنه يتكامل معنويا ، على طريق الأمل في تأكيد أهمية وجود إنسان آخر ، وبشر آخرين ، أكثر رفقا ببعضهم البعض ، وأكثر عطفا ، وأعمق إنسانية ، وأوفر حبا لكل ما في الكون . ولذلك تولد سعاد وقد أحاطت بمولدها وحياتها القصيرة سيرة المعجزة ، وأهازيجها ، فهي الطفلة التي كانت في الخامسة وداست سيارة على بطنها لكنها نهضت وواصلت سيرها كأن شيئا لم يكن ، وهي التي إذا فتح حارس المقابر مدفنها وجد نورا بداخله ، وهي المثال الذي يعشقه الجميع ويتطلعون إليه . وتعزز تلك الصورة المثالية للبطلة الشعور بأن شيئا يتخلل العمل أقرب إلي الخيال . فليس ثمة شخص في الواقع بكل هذا النبل والغيرية . ومن ثم يتسلل إلي النفس التساؤل :
لماذا لا يكون العالم على هذا النحو ؟ والناس على هذه الصورة ؟ . وليس ثمة شعور واحد أسود في الرواية إلا المشاعر التي تتبادلها سعاد وهويدا خطيبة أخيها سعيد ، المشاعر التي تنفي بها الأحلام صورة الواقع . ويأتي التعبير عن هذه الكراهية صريحا حين تقول سعاد : " أشعر أنني أحقد على هويدا ، فقد أخذت سعيدا مني " ، بينما تقول هويدا : " أنا أكرهك يا أخت سعيد " . الأكثر من ذلك أن هويدا تتعرض لعملية إجهاض ، بعد موت سعاد ، وكأن سعيد نوح يقول لنا : لا ينبغي لهذا الواقع أن يلد لنا سوى الجمال . وقد قال ذلك على نحو فني ، وساحر ، يستحق من أجله أن تفرد له مكانة خاصة ، فلا يطبق الصمت عليه ومن حوله .