مثل كل صباح..على كرسي البلاستيك ..جلست.. في موعدك الباكر ذاته.. مثل الساعة الدقيقة أنت.. مُنضبطاً منذ أيام العمل والمكتب..وإنضباطك موروث مِن خالقي الإنضباط ذاتهم.. مِن الإنجليز..قهوة الصباح والراديو أمامك و باب المنزل نِصف مفتوح ..كما اعتدت دائماً.. تُرهِف السمع للأخبار المحلية.. أخبار الوفيِات..هاهو تحفزك يزداد ودقات قلبك.. نعم تزيد..لكن ليس نذيراً.. بل ترقب:
(توفى الحاج شرارة الاصيل..والد رجل الاعمال بِسوق ألاوراق المالية..والد الدكتور والمهندس..وتوفى حسن حسون..شقيق المقدم عطا بالخارجية وبالمليشيا الشعبية وسيُقام المأتم بالخرطوم وبقرية الباسة..وتوفىصهر اللواء الركن المدير السابق للمُؤسسة العسكرية الاقتصادية.. ووالد المقدم سعاد بمباحث الأمن ألقومي..وحسن بالحفريات والآثار..ونجاة سعد وسعيد بالإمارات وألسعودية وألكويت وأمريكا وهولندا و..)
وُتغلق الراديو..ترقبك الكبير فيه شيء من انكسار..خلق لايعلم بها إلا الله.. من أين جاءوا ؟ أسماء لا أول لها ولا آخر..أسموها بعضهم..وأخذوا يشترون الأراضي ويبنون البيوت ويلدون أولادهم في أمان الله وكأنهم أهل هذه الأرض أصلاً..! حتى موتاهم..يدفنوهم ويقيمون المأتم ..! كانت العَائِلات معروفة بالاسم..كم اسم منهم عرفت الآن ؟ ولا واحد منهم لم تعرفه! لكن..(حسن حسون) هذا.. هل يكون هو ذاته ( حسن حسون) بتاع التجارة والتموين ؟ لكن ألم يمت ؟ لا..لا..ذاك ( حسن بشير ) ايوه..كان في التعاون والتموين..رحمة الله عليه ..أكل الوزارة أكل تمام وأخذ المعاش وتاب ومات..أذكر أنهم قالوا إنه وقع في الحمام..دعك جسدهُ بالصابون ..قبل ما يغسلهُ بالماء وقع..ايوه حدثك بهذا..(حمد الامين ) عند دفن ( حاج السنوسى الفاضل)…لا..ليس عند الدفن..انت لم تحضر الدفن أصلا.ً.فهو مات ليلاً..وأنت تنوم مُنذ الثامنة..بعد نشرة (بي. بي.سي) مُباشرةً..لم يُكمِل في المعاش السنة الأولى..مثلك بالضبط..وطلع من الدنيا كلها.. والغريب أن (على الماحى) صديقه الروح بالروح..والذي قالوا إنه بكى عليه وصرخ مثل النسوان..كان طلع على المعاش معهُ في نفس السنة.. وبدل معاشه وبقروش البدل فتح له دكان في بيته ..إمرأته دخلت عليه بشاي الظهر وجدتهُ منكفئأ الجريدة في يده و(السفة )في شفته..هل كل من ينزل المعاش يموت ؟ ما هذه الوسوسة ؟ ( خليل عبد التام ) الذى سف الإصلاح الإداري سف تمام..وكون نفسه..وبعد ذاك طلع المعاش وتاب وحج البيت..قضى في المعاش خمس سنوات كاملة حتى مات ..أذكر أني قابلتهُ في عقد بنت (المرضى السيوفي ) وكان معه نسيبه بتاع وكالة السودان للأنباء..والذي كان يقوده من يده هو ابن أخته اللي أخذ بنته طوالى..وذاك الاخضر العاتي الذى سلم عليك باسمك ولم تعرفه..من هو..؟ يكون ياربى..عديل ( التوم نقد ؟) ولا ( ولد جبارة ) عبد ناس المجمر ؟لا..لا ليس هو يا أخى..ضعفت ذاكرتك وتشابهت عليك الأسماء..زمن .
قهوة الصباح..طعم البن المنُكه بِتوابل مضبوطة بِمقداَر معروف ( للحاجة )معرفة الزواية التى يعتدل فيها مزاجك ويجيء رأسك عندها تماما..طعم البن المر يسرى في لسانك ويجرى لِداخل ناَفوخك..و الفنجان الثاني مع الصفحة الأولى من الصحيفة.. تعرف أنها مثل أختها الصادرة امس والصادرة غداً مرات تُفكر مأخوذاً بالعزة أن لا تقرأها..لكن الإنسان كوم عادات لا فكاك منها.. من قال هذا.. خواجة طبعا..(مستر رايت )..مؤكد هو على المعاش الآن..الخواجات مُعمرون جداً .
تُحرك خرطوم الماء من الشجرة الأولى للشجرة الثانية..بعد الصفحة الأولى .. نفس الكلِمات والصور..كل شيء ثابت عند هذا الجيل.. يمكن أن تكتب صحيفة الأسبوع القادم ولن يحدث شيء..أغلب أقاليم البلد عملنَا فيها لكن ،شِهادة لِوجه الله ،مثل هذا لم نرَ ولم نسمع..كيف يكتبون مقالاً طويلًا عريضاً عن انتشار الثعابين في مستشفى وكأن لاشيء..!؟ مجرد مقال !؟ دكتور ( ابو جمعة ) ،رحمة الله عليه، طرد طبيب و حكيم باشا وممرضأ..لِمجرد أنهم أعطوا مريضأ حقنة بنسلين قبل كشف الحساسية ..! أيام كان للإنسان قيمة..! الآن ..ماذا يحدث..!؟ لاحول ولا قوة إلابالله..!أنت بالذات ماذا يحدث لك لو لا قدر الله داهمك الضغط ..لو دخت فجاءة..؟لا يهم.. أخذنا حظنا مِن الحياة والعمل عملناهُ لهم.. وعرقنَا عرقأ طاهرأ.. لقمتنا ما فيها ذرة حرام و أهو خلاص أنزلونا المعاش..مالنا بهم..لا ننتظِر مِنهُم خيرأ..يالله لِم هذه القهوة غير مضبوطة هذا الصباح ؟
آه..هاهو خرطوم الماء ينقطع تدفقهُ..كل شيء ينقطع في زمانهم هذا وفجاءة دائماً..كل شيء يتم بِسرعة عجيبة..يكون ابن آدم في أتم صحة وعافية وفجاءة يتضايق..يلتف حوله أهله ..ويجيء الدكتور الأول ويوصي بنِقلهُ للمستشفى..نذهب ونعود.. تعبان.. تحسن قليلأ..مات..ندفنهُ و نعود..! مالك تُكثر التفكير ..حالك أحسن من غيرك..بيتك مِلك حُر وعِندك العربة والأولاد غرست فيهم كل الفضائل..تحمد الله..لا سرقوا ولا زنوا ولا لآطوا..ولا دق أحد بابك يوم يشكي منهم..أصغر بِنت عندك خلَاص حا يستلمها ابن خالها أول ما تخلص الجامعة..رغم كل شيء الحمد لله
هاهو ابنك الأكبر يخرج متأخرأ..للعمل.. ليس مثلك أبدا محال أن يكون موظف مدني بهذه الهيئة ..قميص أصفر و الكولونيا وذاهب للمصلحة !؟ عمل أم عرس ؟ أيام .. أيام كان للموظف هيبة أصلية وليس بالكولونيا
هاهو يخرج العربة ..لن يتركها لك ..أحياناً تأتيه عربة المصلحة..لكنهُ متأخر اليوم..ويمكن أن يكون عنده شغل..! شغل !!؟ هل هذا جيل شغل ومسؤولية..؟
-صباح الخير ياحاج
-الله يصبحك بالخير يا ولدى
-سمعت أمس أن على رمزى يس توفى
تقف مأخوذاً..هاهو يبتسم إبتساَمتهم التى تعرفها..اضحك..فلن تعرف رجالاً مثل ألمرحوم..رجل يشهد الله ..حافظ الخدمة المدنية كلها في رأسهُ..العلاواَت والترقياَت اوامر ألنقل ومجالس ألمحاُسبة كل حاجة حفظها في رأسه .
-سمعت امس في اخبار الساعة عشرة.. والدفن كان بالليل وأنت كنت نائم .
أيوه ..كنت نائم..مات على رمزى يس وأنت نائم..ولو قلت له اترك لي العربة لأسارع للعزاء سيضحك..تعرف هذا الجيل جيداً.. الأصول يسمونها تقليدية
يمينك تسبقك لمِقبض الكُرسي معاوداً الجلوس ببطء ،رحمة الله تغشاه، علم من أعلام الخدمة المدنية.. ورثها هؤلاء..ماذا يعملون الآن في ألمكاتب..؟ اهم شيء عندهم الفطور وبعدين الجرائد واخبار الكرة ..وقِلة الأدب مع البنات..احمد الله على نجاتك وخروجك للمعاش قبل تحرر المرأة و دخولها ميدان العمل ..كل واحد يحب اثنين..ثلاثة مِن اللي معاهُ في المكتب ولما يجيء للزواج..يجرى على بنت عمه و خالته.. حتى الدوسيهات والتقارير( يفروشوها) للإفطار..ايوه حدثني (عبدالحافظ محفوظ ).. كيف يعاشر هذا الجيل الغريب الذي لا يُحسن شيء ؟ وسبحان الله صبر لِقراءة صفحة فى كتاب ما عندهم وبكل جراءة ونفس مفتوحة يتصدون لكل المواضيع وباستعداد تام للإجابة..أضحكنا ( التلب الطاهر) لما حكى أن أولاد ( الشيخ ) ألمليونيرات إعتنقوا ألشيوعية.وصفق يديه وقال يأكلون أحسن أكل في أمان الله وساكنين ألعمارات وراكبين أفخم ألعربات في أمان الله وشيوعيين في أمان الله..وحاج( الامين سعد مبارك ) قال ان أولاده أطلقوا الذقون ولبسوا (جلاليب) شديدة القصر.. عبادة حولت كل شيء إلى حرام..ما الذي يريدني الأولاد ان افهمه ؟ معقول يا أخوانا أكون كافر سبعين سنة دون ان اشعر ؟ و(العجب الفاضل ) قال له احمد الله انهم بجانبك..اولاد المرحوم( الجندى) باعوا حوش الجندى الكبير وهاجروا للسويد واخذوا جنسية..وحتى ولدى المهندس اللي صبرت عليه الأعوام لأرفع به رأسي وسط الناس مصمم يطلع.. اقول له خليك هنا.. يقول لي (اين هنا ؟ هنا مافى حاجة ؟) احمد الله انك شايفهم..وعندك من ينزلك القبر ويأخذ الفاتحة عليك
-صباح الخير..ياحاج
يا ساتر..هذا إبن جارك التاجر..انت لا تحبه..منزلهم امامك..طوابق وكم عربة..هاهو يخرج عربته وينطلق وكأنهُ في سباق.. هاهو ابوه يشير اليه..الظاهر انه كان يريد مِنه ان يستمع اليه! لِم هؤلاء التجار دوماً على عجل..؟ كبر الرجل وكبر السوق وكبرت التجارة فأرجعوه للبيت..لكن كيف كبرت تجارتهم بهذه السرعة..أستغفر الله يقال أنهم يُتاجرون حراماً في العملة..استغفر الله
هاهو..يتلفت متحيراً..يُحييك..تدعوهُ لِفنجان قهوة..يتقدم نحوك متمهلاً..يتنهد وهو يجلس على كُرسي البلاستيك الثاني تصب له القهوة.. حتى التجار يحالون للمعاش..سيحكى لك وستحكى له عن الدنيا والناس وعن على رمزى يس وعن ال..
كرسي البلاستيك
By: Abdelmajid Oleish - on: Saturday 18 November 2017 - Genre: Stories
Upcoming Events
Online discussion of The Vegetarian by Han Kang Nobel Prize winner 2024
November 08, 2024
This discussion of Han Kang’s The Vegetarian...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
October 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
Book discussion:Chimamanda Ngozi Adichie 's Half of a Yellow Sun
September 28, 2024
Chimamanda Ngozi Adichie 's Half of a Yellow S...
Edward Said – Culture and Imperialism
July 27, 2024
Discussion of Edward Said's Culture and Imperi...