عتبة
نذكّر ،منذ البداية، إلى أنه لا يمكن قراءة هذا النّمط من السّرد القصصيّ( الخاطف) من دون استحضار سمات تهيمن على تكوينه السّردي ،وتضفي عليه كثيرا من الحميمية و التّماسك و الفعالية التّأثيرية .أقول هذا الكلام ،وأقصد سمات من قبيل :التّوليف والتوتّر و المفارقة و الكثافة و الإيجاز.غير أن هذه السّمات السردية المهيمنة تخضع،في الحقيقة،لسلطة تأمّل قصصيّ عميق، يجتهد لنشر ظلاله الفنية على مجمل النسيج التكويني لتجربة"صباح...وشتاء"،ولتصميم الصّور السرديّة الجزئية الموجزة فيها،و توليفها بمهارة وحرفية حتى تصبح بمنزلة فسيفساء دقيقة ملوّنة تسهم في تشكيل كيان اللوحة القصصية الكلية ، وتناغم أجزائها المختلفة ،وبهائها و سحر تأثيرها.
والحقّ أنه يصعب على مثل هذا اللّون من ألوان التّجريب السّردي أن ينتزع شرعيته الأدبية بعيدا عن كسب رهانين أساسين:
أ-تحفيز حواس المتلقّي المفترض .
ب- هندسة الإيجاز السردية
ولا شكّ في أن الكاتب/الناقد كان على وعي بخطورة المجازفة بخوض تجربة الكتابة من دون تحديد مسبق لمنبعها و مصبّها،وفي غياب معرفة واضحة بالأجواء المتخيّلة التي ينبغي أن تسود معظم أجزاء عمله، فتسم شخصيات متونه السردية الخاطفة و سلوكاتها و ملفوظها بسمات بلاغة الإيجاز،ما يؤهّل القارئ المخصوص ،بعد ذلك، للقبض على اللحظة الجمالية أو الصورة الكلية لهذا العمل.مثلما يخرج القارئ العادي من هذه الرّجلة ،بدوره، منتشيا بما حصّله من بهجة و متعة و معرفة .
تتكوّن هذه الباقة من أربعة و ثلاثين مقطعا سرديّا أو صورة قصصية موجزة تامّة التكوين ،مستقلة بعنوان ،تنتقل بالقارئ إلى معايشة أجواءً نفسيّة و طقوس مختلفة شتىّ، وتتضافر فيما بينها لتكوين صورة سردية كليّة ذات عمق فكري و فلسفي مخصوص.وهذا ما يجعل بوصلة السّرد فيها تبدو موجّهة بواسطة رؤية فنية و إنسانية عميقة تصف،و تعلّق، و تحاور، وتنسّق الأحداث،و تبني الشخصيات و المواقف الدرامية و المفارقات ،و توزّع الأدوار ..وسوف نحاول ،بدورنا،من خلال هذا الاجتهاد النقديّ ،الموجز تكوينا، المكثّف دلالة،إضاءة بعض ما وسم سرد هذه الرؤية من سمات فنية ،هي بمنزلة أساس جماليّ تُشيِّدُ عليه بلاغة الصورة السّردية الموجزة كونها الأدبيّ الملفت.
أ- سمة المحلية والبعد الكوني
عنوان الصّورة السردية الأولى هو نفسه عنوان الباقة السّردية "صباح ..وشتاء" ،الولادة و الرّحيل، ميلاد الزّمن و فناؤه،أو لنقل تجدّده.تماما كما يحدث مع شخصيتي الصّورة الأولى :الأب الهرم و الشّجرة
العجوز،وكما تتجدّد المعرفة في ذهن السّارد الحائر «إن كان ورق الشجرة يسقط في الشتاء»!.ولكن عن أية شجرة يتحدّث السّارد في هذا المقام ؟ لاشكّ في أنه يقصد تلك « الشجرة أمام المنزل فى الناحية الأخرى من الطريق-على الترعة-»1، تلك التي لو كانت قريبةل«ظللت علينا ومنعت الشمس والتراب.»2 ،كما علّق الأب الخبير.عن فضاء مشهود يتحدّثان،وعلى متن شفافية الحوار ينتقل القارئ بدوره إلى فضائه القرويّ السّابح في صباحات حارّة ،المترع بالخضرة و النّضارة وبهجة الأحاديث الحميمة:
« قلت الشّجرة التى أمامنا شجرة كافور أليس كذلك ؟ قال لا.. توت، ثم قال: هل كبرت؟
قلت نعم كبرت جداً. فقال ليتها كانت التى أمامنا.. كانت قد ظلّلت علينا ومنعت الشّمس والتراب.»3
إن هذا الحوار الموسوم بالبساطة و المباشرة و المعرفة الفلاحية ينقلنا بيسر عجيب إلى فضاء الريف المصري(العربي) الناضر بالثّمار ،و المحاصر بقسوة الشّمس و التّراب.بيد أن بلاغة الإيجاز السّردي في هذه الصورة المكثّفة تبلغ أكثر من عمق دلاليّ ،ذلك أنها تمتدّ لتُساءل ،بإيحاء فنيّ ، واقعا منتكسا ،من خلال التساؤل عن سرّ التجدّد في كيان حيّ .هل أنسانا طعم الهزائم المتوالية ،فعلا، سنّة الحياة في النّضارة و التجدّد؟:
« وكنت ما أزال متردّداً فى سؤاله خشية أن يفتضح جهلى.. وأخيراً سألته: طبعاً ورقها يقع فى الشتاء! .. قال طبعاً»4
* * *
الإصغاء إلى نبض الذّات يعلّمنا ترجمة أحاسيس النّاس.تماما كما يحدث للّسارد في صورة "نظر" الموجزة.يتحرّك السّارد في الغرفة بنية البحث عن (نظّارته).ينتبه الأب اليقظ في الظلام منذ سبع سنوات.إنه يتألمّ في صمت .وعلى الرّغم من أنّ السّارد يحاول أن يخفي كلّ دوافع الألم و أسبابه،فإنّه يخلّف وراءه ،قصدا،بعض الخطوات التي تجعلنا ندرك طبيعة الألم و مصدره .فبعد خطوة (البحث عن النظّارة)،هناك الخطوات الآتية:
-« عندما فتحت الباب لأحضر نظارتى، انتبه وسأل من؟»5
-« كان قد سمعنى أحرّك زرّ الكهرباء لأعلى، ثمّ لأسفل»6
-« ها هو يقظ فى الظّلام، ظلام دائم منذ سبع سنوات»7
الانتباه و إساخة السّمع و الظّلام الدّائم من سمات شخصية الأب الكفيف الدرامية التي تعيش مأساة العمى بكلّ تفاصيلها المؤلمة القاهرة.صحيح أنّ معاناة الإنسان لا يمكن أن يعيشها غيره ،كما يصرّح السّارد،ولكن المبدع المرهف يستطيع أن يقتسم معه إدراكها ،ولولا ذلك ما انتقل إلينا هذا الشعور بالقهر و الوحشة و الألم،الذي يعانيه الكفيف في ريف مصري،بل في كلّ بقاع الدنيا.التّصوير السرديّ الموجز ، إذن، تصوير معدي ،على الرّغم من نفسه القصير،وربّما بسبب ذلك.
* * *
يمثّل الاعتقاد بالنّبوءات سمة من سمات الإنسانية القلقة تجاه جبروت الدّهر و نوائبه.وفي بلدة السّارد أصبح يقينا أنه لن يشهد وفاة أبيه،لأن هذا الأخير رفض أن يزور أباه لحظة احتضاره.وتتحقّق النّبوءة بغياب السّارد لحظة موت الأب ،ويتساءل إن مات راضيا عنه أم لا؟. ويستعرض القارئ في خاطره حالات مماثلة حدثت ببلدته، من دون أن تثير فيه هذا الكمّ من القلق الذي زرع السّارد بذوره الشائكة في وجدانه حول حتمية هذه النبوءة ،وحول حجم الاستثناءات الممكنة، وحول تداعيات هذه المتاهة.ولكن القارئ لن يظفر بترياق الدّاء إلاّ في آخر صورة قصصية تضيء ما عتم من هذا التشكيل السردي المتميّز،كما سوف نرى بعد حين.
وفي صورة "أمي" تحضر السّمات المحليّة بكثافة ملحوظة لترسم لنا صورة الأمّ القروية بنزوعها العمليّ ، وبتحوّل شخصيتها المتخيّلة تحوّلا يضفي عليها بعدًا إنسانيّا كونيّا.لنتأمّل كيف تدرّج السّارد في تكوين صورة أمّه :
- « حين فقد أبى بصره، وكان لديهما بقايا تجارة، اكتشفنا فى أمّى قدرات كانت مختفية وظهرت فجأة. »8
-« وحين أصبح لدينا تليفون ، كانت حريصة على أن تتعلم كيف تستخدمه»9
-« بعد وفاة أبى، لاحظت أنها قد أخذت تعبر عن رغبتها فى إمتلاك الأشياء الجديدة من أدوات المطبخ. » 10
ثمّة وجود لسمات مخصوصة في هذه الصور الجزئية تسهم في تشييد ملحمة الأمّ العربية في صعيد مصر:تحمّل المسؤولية ، التطلّع إلى معرفة مستجدّات العصر ،حبّ امتلاك الأشياء الجديدة،غير أن ما يريدنا السّارد أن ننتبه إليه ، في حقيقة الأمر، هو السرّ الكامن خلف تحوّل الأمّ المفاجئ من شخصية هامشية محدودة النّفوذ ،إلى قائدة الأسرة المفعمة بالحيوية و الانفتاح،وإلى أنثى في الثمانينيات من عمرها، تدنو ،كما في صورة "أمي :قصة حبّ" مما كان مجرّد الاقتراب منه يعدّ جريمة لا تغتفر(حديث عفيف مع الجار السّعيد ) .لا شكّ في أن عجز الزّوج ،ورحيله بعد ذلك،حرّرها من الإحساس بالعجز و التبعيّة.إنّها القوّة النفسية و اليقين الداخلي ما يرفعنا إلى المراتب العلا ، أو يهوي بنا إلى حضيض سحيق.وتثور الأمّ في وجه ولدها ،رمز الرّجولة، مازحة صادقة :
« أنا قلت لك بعد أبوك ما مات، ماليكشى دعوة بيَّه، سيبنى على حريتى. كفاية اللى عمله فيَّ أبوك.»11
* * *
يعتقد خوسيه ماريا ميرينوJose Maria Merino أن من بين عوامل شعبية هذا النّمط من السّرد بصيغة "الأنا"ما يرتبط بتقنية كتابته البسيطة،أي أنّه يكتب كما لو أنّه يحكى12. ويبدو لي أن الكاتب يسعى لتنفيذ بعض من هذا التصور، انطلاقا من الاقتصاد في وصف الحالات الشعورية المعقّدة لشخصيّاته،وانتقاء المواقف اليومية البسيطة (موقف العزاء مثلا)،ثم الاعتماد بشكل أساس على ملفوظ عاميّ يخترق القارئ المفتون بسحر العامية المصرية وعذوبتها إلى أعماق الأعماق،وأخيرا الاكتفاء بما يناسب هذا النوع من التصوير السرديّ الصّاعق من قوالب لغوية موجزة لا حشو فيها ولا امتداد.وبذلك يعلن التوتّر الفني عن وجوده ، وينسج شبكته التّأثيرية ،استنادا إلى صور مفارقة تذهل القارئ ،وتعبث بكيانه .انظر مثلا،صور "طقس العزاء" الجزئية ،وما تختزنه من تفاصيل محليّة على قدر كبير من الخصوصية و التميّز.يتوتّر فيها الفعل القصصي(فروض الطقس الاجتماعي) نتيحة تفاني النّاس في إضفاء مزيد من التنظيم و الضبط و العقلنة و الميز الطبقي على حدث وجوديّ عدل، ما هو في الأصل إلاّ تذكير بمساواة الإنسان ،بضآلته وهوان شأنه:
« ليست الأماكن فى الدّوار متساوية ولكنها مراتب ودرجات. هناك أولاً الصّدارة التى يقف فيها متلقّى العزاء. وهناك المنصّة المرتفعة التى يجلس عليها قارئ القرآن. والمكان الأهمّ وهو المكان المجاور للصدارة تماماً وهذا يحتفظ به عادة لأعيان القرية أو للضيوف الغرباء. وكلما بعدنا عن هذا المكان تضاءلت قيمة الموقع.»13
انظر كيف يسهم تنوّع الفضاء السّردي ،وتراتبيته في تشكيل مفارقات :القيمة و الميز الطّبقي،الموت و الوضع الاعتباري،العزاء و التباهي،السيادة و العبودية،الوجاهة و الهامشية،الاتعاظ و الغيبة ،كما في الصورة الجزئية الختامية(تقييم اللّيلة)...وحتى لو حاول أحدنا تحطيم مثل هذه الأقفال الصّدئة و العبث بها،فإن ثمة وجود لشخص يضطلع بمهمة خطيرة ،تتحدّد في توجيه الناس ،كلّ إلى موقعه الذي يليق به :
« الأولوية دائماً للضيوف، الوجهاء، العمدة ومشايخ البلد ثم الأثرياء أو ذوى المناصب. فيما مضى كان للمتعلمين وخاصة المدرسين موقع هام فى هذه الأولوية، الآن أصبح لأثرياء النفط هذا الدور وتراجع دور المتعلمين إلا إذا جمعوا مع تعليمهم الثروة.» 14
صادم هذا المشهد السّردي الموجز،من كاميرا السارد المفتوحة،متخلّف واقعه الحضاريّ المرصود ، وهذه التفاصيل المحليّة الخلابة تشرّع النّص في وجه كونية السرد الأدبي ،الإنساني الخلاق،الملتهب توترا و مفارقة، و المعدي تساؤلات وجودية و حضارية مؤرقة.
* * *
ب-سمة الفقد الطّفولي
« سأل:
هما مامعهومش فلوس؟
قلت أيوه.
بعد قليل جاءت سلمى حفيدة أختى مع جدتها وأمها، جرت إلىَّ واحتضنتنى وجلست فى حجرى. واصلت توزيع النقود. سألت:
هما بيخدوا فلوس ليه؟
فقلت علشان مامعاهمش.
قالت يعنى غلبانين.
قلت نعم.
لاحظت أن خالد قد جلس بجوارى منكمشاً حزيناً، فقد حيويته ونشاطه. عرضت عليه بعض النقود فرفض.»15
نحن الآن في"آخر يوم في رمضان"،في جوف مقبرة ،مع سارد محاصر بالأيتام و المشرّدين من الأطفال ، أقارب و غرباء.طفولة موسومة بالفقر والفقد و الانكماش و الحزن،مذهولة بفعل واقع بئيس معتّم ،تسأل ببراءة لإضاءته.الموت طائر كاسر يخطف الفرحة من شفاه الأطفال،ويزرع في عيونهم الخوف و الحزن، تماما كما فعل مع خالد الصّغير عندما خطف أباه:
-« خالد يلحّ فى إمساك يدي. يفتقد أباه دون شك»16
-« كانت سعيدة،وظل خالد حزيناً»17
-« كانا يتبادلان الإمساك بيدي،ولكن خالد ظل حزيناً»18
«هما مامعهومش فلوس»،بالفقد يستهل السّارد سلسلة صور الطفولة في هذه التّجربة،وبالفقد ينهيها. وبين الاستهلال و الختام يتدرّج في تكوين شخصية الطّفل اليتيم،في هذه الصورة الموجز على وجه الخصوص ،استنادا إلى تقنية التّكرار،وتوسّلا ببلاغة إيجاز و توتّر فنيين تخترق القارئ وجدانيا ،وتنقل إليه عصارة الإحساس بمرارة اليتم و جراحه :(سعيدة/حزينا).ثم تأمل كيف يضفي السارد سمات فنية أخرى على شخصية الطفل الرئيسة ،تلهب سياق الصورة السردية مثل:خفوت الحيوية و النشاط،عدم الإحساس بالاستقرار و الأمان، الرفض المستمر،عدم التمييز مابين مقامي الجدّ و المزاح ،وكلّ هذا يسهم بشكل فعّال في الرّفع من إيقاع الّسرد الخاطف ،وحرارة الصور الجزئية .الأمر الذي يستثير لدى القارئ صورا ذهنية دامية ،صور يُتمٍ معلومة.الطفولة أيضا،كما الشيخوخة، ترزح تحت وطأة واقع سرديّ منتكسِ حضاري،متداعٍ مؤسساتيّا،منهارٍ قيميا،ما على السّارد ،إذن، إلاّ أن يفتح كاميراته و يسجّل.
* * *
وفي صورة "أحمد"يتجسّد الفقد الطفوليّ على شكل صمت ،تارة، و مكر جميل تارة أخرى،يمارسهما أحمد اليتيم مع السّارد ،الذي لا تتحدّد طبيعة القربى التي تجمعه بالطفل ،وإن عظم حجم المحبة و الكرم و العطف الذي يغدقه عليه.فهو إما يمنحه جنيها كل يوم جمعة ليشتري حلوى،أو يصطحبه إلى بيته ويشجّعه على الرسم.و يهيمن الصّمت على معجم التصوير السردي وهو يشكّل سمات شخصية أحمد الصغير ،ويكشف ما يضطرم في وجدانه من أحزان مكتومة،تعلن عن حضورها المكثّف من خلال ما يأتي:
««- وسار بجوارى صامتاً»19
- قال بعد لحظة صمت: خسارة. وصمت»20
- وجلس يرسم على الكنبة فى صمت وانهماك».21
- داعبت شعره ولم ينطق»22
- صعدنا إلى غرفتى، وجلس صامتاً ينتظرنى 23»
يتسلّح أحمد بصمته ليخفي إحساسا قاهرا بفقد شيء لا يستطيع أن يحدّده.إن صور الصمت المتكررة هذه تنقل إلينا ،استنادا إلى بلاغة الإيجاز،شعورا عاصفا بانكماش أحمد وضيق خاطره.إذ إنه لا يسترجع أنفاسه الخامدة ،تماما،إلاّ في هذه اللّحظات الآمنة السّعيدة التي يقضيها ،مع السارد،مشغولا بالرسم أو من خلال مكره البريء طمعا في جنيها يشتري به حلوى.
بيد أنّ سمة الفقد الطّفولي تأخذ،في هذه التجربة السردية، أبعادا دلالية أكثر رمزية و عمقا تأثيريا ، عندما يتمّ نسج خيوطها اعتمادا على استنطاق رغبات دفينة ،كما في نصّ " طفولة". ويصوّر السّارد الكهل أو العجوز ،هنا،تلك الرغبة الجامحة في امتلاك مسدس أطفال ،التي دفعت به إلى البحث في دكاكين اللّعب حتى ظفر ببغيته،ثم الاستمتاع بإطلاق الرّصاصات من المسدّس، على كلّ أعدائه المفترضين،ابتداء من الحبيبة الخائنة ،مرورا بالصّديق الإنتهازي،وانتهاءا بالمجرمين من ساسة العالم ...وعلى الرّغم من سُمك الخطاب الإيديولوجي في بعض صورة الانتقام الجزئية(انظر ص:20)،فإن ثمّة وجود لاستثمار إيقاعيّ سرديّ على قدر كبير من الوعي الجمالي ، أسهم في صيانة توازن سياق الصّورة السّردية المنسوج بسمات الثّورة و الرّفض و الرّغبة في الانتقام. التردّي إلى شغب الطفولة ،إدن، إقرار بإمكانية تصحيح المسار،بعيدا عن حزن الفقد و خرسه.
إنّ مقارنة الصورة بسابقاتها يمنحنا إحساسا بانسجام التكوين القصصي و تناغمه وتدرّجه غير المعلن ، في أفق تكوين تجربة سردية تمتح من سيرة شخصية، بقدر ما تحرص على تذويب شرعية انتمائها ، وإلاّ ما سرّ إغفال السّارد،الواعي أو غير الواعي، ذكر العلاقة التي تربطه بعدد من الأطفال؟وبمَ نفسّر تعويم السّرد الأسريّ الحميم،فجأة، في سلسلة من صور الحب المختلّ الغيرية ،كما سوف نرى اللحظة؟.
ج- سمة الحبّ المختلّ
يتوقّف السّارد مع صورة الحبّ المختلّ في ثماني صور سردية متتالية ،تبدو الحياة المشتركة بين الرّجل و المرأة فيها موسومة بالإغراء ،بالصّراع و التوتّر و التّغريب...ففي أولى قصص الحبّ ،يرصد السّارد لغة النّظرات التي تجمع ما بين حسناء الحارة المطلة من نافذة بيتها ،و الميكانيكي الشاب،وهي تنقلنا ،بذلك، إلى قلب الفضاء الشعبيّ الأسكندراني(العربي)،المترع بأسيجة من الكبت و الحظر و الوشايات.ولا يلزم السّارد نفسه بكشف هوية الحسناء،مثلا،هل هي متزوّجة أم لا ؟ولكنّه يضفي عليها سمات مخصوصة تجعلنا أقدر على فهم طبيعة العلاقة التي تجمعها بالميكانيكي (الوسيم):المرأة حسناء شهيّة،في الثّلاثينيّات من عمرها،تلوك اللبّانة، تقف في النّافذة بدون قلق،تذهب و تجيء خلف النّافذة...إنه نمط من الحبّ المختل، المحاصر بالعيون و الحرمان و الرّغبة...
وفي ثاني قصص الحبّ ينتصب الزّمن حائلا بين العاشق الكهل و الفتاة الصّغيرة ،ويشكّل السّارد حيرة الكهل و شغفه بالفتاة بواسطة صور سرديّة موجزة خاطفة ،أشبه ما تكون بلمسات ساحرة من أنامل فنّان.انظر ،مثلا، إلى الصّورتين الآتيتين :
- « وخُيَّل إلىَّ أنها فى غاية الجمال.»24
-« وبدا لى أنها لمحت تدقيقى فى المرأة»25
ثمة وجود لحيرة و ذهول واضحين يسيطران على شخصية السّارد الكهل لدرجة لم يعد فيها متأكّدا ممّا ترصه حواسه من مواقف.بل إنه أصبح أسير موقف قصصي ملتبس يفسّر ما يلحظه من حركة الفتاة الحسناء « حركة من يشعر أن شخصاً معجباً به يراقبه »26 صحيح أن إضفاء سمات مماثلة على شخصية السارد القصصية يروم،في حقيقة الأمر، أداء وظيفة جمالية مخصوصة تتمثّل في تلغيم السّياق السّردي استعدادا لتخييب أفق انتظار القارئ،وتفنيد توقّعاته. غير أنّ العرض الإيقاعيّ الذي تمّ به تنوير هذه الصورة الجزئية،لم يكن بالحرفية الكافية ليدرك القارئ أن تفسيرات السارد لتحركات الفتاة ،ليست إلاّ خيالات كهولة ...
وتمتدّ صورة الحبّ المختلّ لتشمل فئات بشريّة أخرى من عالم "صباح...وشتاء" تحترق بفعل حبّ من طرف واحد ،مثل الأمّ الصغيرة الحزينة التي هجرها زوجها،أو نتيجة حبّ مستحيل التحقّق ما بين سارد شارد وحبيبة متردّدة كما في رابع قصص الحبّ:
« فى البداية- حينما استشرتها كصديقة- أعلنت أن هذا ليس حباً، هو انجذاب،ثم عادت تتسائل عمّا إذا كان مجرّد إنجذاب فقط.
وأنت الذى أدرك المأساة بعد فوات الأوان حاولت أن تؤكد دائما أنه لم يكن حباً وأنت تعرف أنه كان حباً مستحيلاً، وأنك ضائع بين مستحيلين.»27
الحيرة و الحسرة و الضياع سمات هذا الحب المختلّ المستحيل ، ومعالم كيان السّارد الشّارد المتردّد الذي يعجز عن تعرّف خصوصيات ذاته الإنسانية ،فما بالك بتحديد موقعه و دوره الحضاريين.
والمحصلة أن هذا الاختلال ليس وليد حيرة و ذهول ،وحسب،وإنما،أيضا،وليد ميل ساديّ إلى استعذاب الهزيمة و الحرمان ،تماما ،كما ترصده ،بإيجاز بليغ،خامس صور الحب بهذه التجربة.فبعد شهور مطاردة السارد للساحرة آن ماري ،والسّعي للظّفر منها بلقاء حميم.وعندما تتحقّق الأمنية و يتمّ اللقاء يعجز السارد عن إتمام اللّوحة التي توقّع،مرضا و يأسا، أنها لن تكتمل :
« على عكس يقينك جاءت آن مارى وجلست بجوارك، وكان عليك أن تحقق ما أردت طوال تلك الشهور المضنية. كانت مطواعة، راغبة فى أن تفعل ما تريد، ولكنك لم تكن راغباً فى فعل شئ. لم تكن ربما قادراً على فعل شئ. وهكذا وجدت نفسك تقود الحديث إلى الانغلاق، لكى تذهب آن مارى وتحقق توقعك أنها لن تأتى.»28
انغلاق أقفال الذات و صدؤها يحولان دون تحقيق توازنها الداخلي ،و إشعاعها الكوني.والحق أن هذا الاعتقاد بمنزلة تصور فكري و حضاري ينطلق منه الكاتب سيد البحراوي ليشيد عوالمه الإبداعية و النقدية على حد سواء.الأمر الذي يضفي على منتوجه الأدبي،في الغالب، سمات الالتزام بقضايا الإنسان العربي ووضعه الكونيّ المزري.وحتى في هذه التجربة نستطيع الظفر بمواقف سياسية صريحة معلنة ،تنفلت من مسام السّياق الفنيّ لتندّد و تحتجّ و تسفّه على نحو ما نجد في صورة "صخرة"،حيث يعلن السّارد:
« أخرجت القلم وكتبت:
تسقط اسرائيل وكامب ديفيد.»29
وحتى عندما يفكّر في أخذ صورة تذكارية لأحد الأبواب العربية،يفعّل ما يضطرم في وجدانه من ميل إلى المقاطعة ،ويترجمه على أرض الواقع:
« وفى لحظة تغلّبت على تردّدى الذى دام ساعة، والتقطت صورة لبوابة صلاح الدين وفوقها علما مصر وفلسطين، دون علم دولة اسرائيل.»30
تنوير
"الكاميرا المغلقة" آخر نصوص باقتنا السردية ،وهو ،كما أشرنا في بداية هذا التحليل، بمنزلة صورة تنويرية لما عتم من تصور هذا الكون السردي.في هذه الصورة تتماهى الحدود ما بين السارد و الكاتب، وتحضر شخصيات أدبية واقعية لتضفي على هذا التكوين السردي المتخيل سمات وثائقية بيّنة.
* * *
1-صباح...وشتاء، ،ص:2
2-نفسه،ص:2
3-نفس،ص:2
4-نفسه،ص:2
5- نفسه،ص:3
6-نفسه،ص:3
7-نفسه،ص:3
8-نفسه،ص:5
9-نفسه،ص:5
10-نفسه،ص:5
11-نفسه،ص:7
12-Sobre la narracion en primera persona,in El oficio de narrar,coor.Marina Mayoral ,Ministerio de cultura y Ediciones catedra,S.A.,1989,P:135
13- صباح...وشتاء،ص:10
14-نفسه،ص:11
15-نفسه،ص:15
16-نفسه،ص:15
17-نفسه،ص:15
18-نفسه،ص:15
19-نفسه،ص:17
20-نفسه،ص:17
21-نفسه،ص:17
22-نفسه،ص:17
23-نفسه،ص:18
24-نفسه،ص:31
25-نفسه،ص:31
26-نفسه،ص:31
27-نفسه،ص:33
28-نفسه،ص:34
29-نفسه،ص:41
30-نفسه،ص:42