قراءة فى قصة (بيت مظلم فى آخر الشارع )
من المجموعة القصصية يعبر الزمن على دراجة للقاص حسين منصور
إنطلاقا من عنوان القصة بإعتباره أحد عتبات النص وبوابته للدخول إلى فضائه نجد أن عنوان القصة (بيت مظلم فى آخر الشارع) هو جملة إسمية المبتدا بها نكرة معرفة بصفة (مظلم) والخبر شبه جملة (فى آخر الشارع) ، وباستعراض القصة نجد أن صفة الظلام قد وردت بها ثمانِ مرات بإشتقاقاتها المختلفة ووردت بالمعنى مرة واحدة فى عبارة منتصف الليل ، فنحن أمام صفة ملحة ومتكررة فى القصة، وحيث أن "الأوصاف فى القصة لا تصاغ لمجرد الوصف بل لأنها تساعد الحدث على التطور لأنها جزء من الحدث نفسه"(رشاد رشدى فى فن القصة القصيرة) فإن لصفة الظلام فى القصة أهمية بالغة على ما سنرى .
تدور القصة حول رجل تناديه امرأة وتطلب منه مرافقتها لنهاية الشارع لخوفها من الظلام عند البيت فلم يتردد فى الاستجابة ومرافقتها، ويحادثها أثناء الطريق عن أبيه الفظ الذى يضرب أمه وعن الحكومة التى استولت على أملاك أجداده مركز الشرطة ومدرسة الصنايع فى مقابل ملاليم وتختفى المرأة من جانبه وتدخل البيت المظلم وفى نهاية الشارع خلع جلبابه الممزق وسب الجميع وقذف زجاج النوافذ ومصابيح الإنارة بالحجارة وأشار إشارات بذيئة "وسط ابتسامات المارة الذين عهدوا حاله من سنين" ، غير أن القصة لا تكون بمضمونها ولكن بالطريقة التى يقدم بها ذلك المضمون على ما سنرى ، فنحن أمام قصة تدور بين الوعى واللاوعى وبين الواقع واللاواقع وهذا منبع الفن كما يقول يوسف إدريس فى أحد حواراته .
وبإستعراض أحداث القصة نجد دلالة البيت المظلم على عدة مستويات فالمستوى الأول بيت مظلم حقيقى وهو بيت المرأة التى طلبت من بطل القصة أن يرافقها لخوفها من الظلام ، ونجد مستويات مجازية أخرى فى دلالة البيت المظلم منها بيت أبيه "أبى كان رجلا سكيرًا يشرب ويعود إلى البيت مخمورًا ويضرب أمى ويدلق حلة الطبيخ" ، كما نجد مستوى مجازيا أعلى وأوسع للبيت المظلم وهو بيت الوطن الذى ظُلم فيه أجداده وقد أخذت الحكومة منهم مبانى مركز الشرطة ومدرسة الصنايع ودفعت ثمنها ملاليم وأخيرا ذهاب عقل بطل القصة وجنونه هو بيت مظلم على مستوى المجاز كما ورد فى سياق القصة .
الشخصيات :
اقتصرت الشخصيات فى القصة على شخصيتين لا أسماء لهما الشخصية الرئيسية لرجل تم تصوير شخصيته – وهذا من براعة القصة – فى عدة مواضع بالقصة فهوابن وحيد لوالديه وهو محب للمرأة ولمرافقتها وسماع صوتها، يقضى نصف ليله ماشيا هاربا من أفكار تطارده، يحدث نفسه ، يسألها ويجيبها وفى نهاية القصة يظهر خلله النفسى والعقلى حيث خلع جلبابه الممزق ونخر نخرة طويله وسب الجميع وقذف بالحجارة زجاج النوافذ والمصابيح وأشار إشارات بذيئة ، أما المرأة فهى كانت بلا ملامح واضحة سوى صوتها الخفيض العذب المتوسل "كان الصوت عذبا متوسلا" ثم اختفت عند وصولها للبيت المظلم، وربما تكون المرأة من وحى خياله وربما يكون لها شيئا من الواقع فهى شخصية بين الواقع والخيال أو الوعى واللا وعى ، وهناك شخصية أبيه السكير الفظ والقاسى الذى يضرب أمه التى كانت طيبة عبر استرجاع الماضى، وقد استغرق زمن القصة وقت مرافقة بطل القصة للمرأة بالشارع حتى بيتها المظلم واثناء ذلك تم قطع الزمن التعاقبى بالاسترجاع والعودة للماضى .
السرد واللغة والحوار : كان السارد محايدا لم يتدخل ليفسر الأحداث وإنما ليصفها كما يراها أو يستنبطها من أذهان الأبطال وعبر عن ذلك بضمير الغائب العليم ، إلا أنه أعطى للمرأة مساحة صغيرة لتتحدث بصوتها بضمير المتكلم فى جمل قليلة ربما لأنها كانت شخصية حافزة أو خيالية ، وأعطى للرجل بطل القصة مساحة أكبر بضمير المتكلم للحديث عن معاناته مع أبيه الفظ والحكومة التى استولت على مال أجداده فكان أشبه بالبوح الذى يحسن التعبير عنه بضمير المتكلم، وحسنا فعل الكاتب، كما اتسم السرد بالتكثيف ونبذ الاستطراد والترهل وتوظيف تقنية اختلاط الواقع بالخيال والوعى باللاوعى وهى منطقة بينية صعبة فى الكتابة ولكنها تعبر عن مستوى فنى رفيع فى الكتابة، كما احتوت على تقنية الاسترجاع وقطع الزمن التعاقبى والعودة للماضى .
أما اللغة فكانت بالفصحى المبسطة فى السرد والحوار وخلت من اللهجة العامية ، كما كان الحوار من طرف واحد دون رد من الآخر الذى يحادثه، فحين طلبت المرأة من بطل القصة مرافقتها إلى بيتها المظلم لم يتردد فى الاستجابة ولكنه لم يبادلها الحوار، وعندما تحدث معها البطل أثناء الطريق لم تنطق بكلمة ثم اختفت من جواره عند البيت المظلم، وهذا ما يدعونا إلى تغليب أن المرأة وحديثه إليها من وحى خياله أو لا وعيه . وقد اتسمت اللغة بالجمال فى وصف طريقة حديث المرأة وصوتها "نادته بصوت خفيض (من فضلك) كان الصوت عذبا ، متوسلا ..رافقنى لنهاية الشارع فأنا أخاف الظلام عند البيت هناك" ، كما اتسمت بتعدد الدلالات مثل ماذكر سابقا من تعدد دلالة بيت مظلم وكذلك عبارة المرأة للرجل (رافقنى فإنى أخاف الظلام) فهى عبارة لا تخلو إشارة المرافقة لها فى بيتها المظلم، وتعدد دلالات النص إلى مدلولات عديدة، فضلا عن أحداثها التى كانت بين الواقع والخيال وتوظيف تقنيات سردية مختلفة ونسجها بلغة فنية مكثفة جعلتنا أمام قصة ذات مستوى فنى وتقنى رفيع .
الهامش :
1- القصة نُشرت بصفحة الكاتب ثم نشرت عقب ذلك بمجموعة قصصية بعنوان (يعبر الزمن على دراجة) بدار الحكمة وقد اقتصرت مداخلتى بالأمسية التى إقيمت بها على هذه القصة .
2- ذكر يوسف إدريس فى حوار معه عن المنطقة البينية بين الحلم والواقع وبين الوعى واللاوعى فى القصة وهى التقنية السردية التى كُتبت بها القصة يقول" قد يمكن اختراع عقار فيما بعد، لا يخدر ولا ليسكر، ولكن ليجعل الإنسان يحلم ، لأنها مرحلة من مراحل الوعى واللاوعى، أو اختلاط الوعى باللاوعى ، وهذا هو منبع الفن، وهو اختلاط الواقع باللاواقع، والمصدق بغير المصدق" من حوار بمجلة فصول العدد الثانى ، من كتاب الخطاب القصصى عند يوسف إدريس – بهيئة قصور الثقافة للكاتب عمرو العادلى .