قراءة فى ديوان (الوقت... خارج الوحدة) للشاعرة د نجاة على

هو الديوان الرابع فى الأعمال الشعرية للشاعرة وقد صدرعام 2023 ، وقد سبقه ثلاثة دواوين وهم كائن خرافى ، حائط مشقوق وشفرة سكين ، ويشيرعنوان الديوان إلى دلالتين هما الوقت والوحدة والوقت قد يشير إلى الزمن أو العمر وتشير الوحدة إلى الإنفراد والبعد عن الآخرين ، وربما بالعنوان أصداء وجودية ستتعمق بنصوص الديوان .
هناك إلحاح بنصوص الديوان على تكرار ذكر الأب أو أشباحه، حيث ورد صريحا تسع مرات وذُكر عشرات المرات بضمائر الغائب والمخاطب ولاشك أن ذلك الإلحاح فى ذكر الأب ربما يستدعى عُقدة اليكترا ذلك المصطلح الذى وضعه فرويد عالم النفس الشهير ويشير إلى تعلق اللاوعى للفتاة بأبيها وهو يقابل عقدة أوديب للذكر"الآن تأكدت أنه يشبه/ أبى الذى غادرنى/ فى منتصف الطريق" ص34 ، فالذات الشاعرة تتمثل حبيبها الذى يشبه أباها، غيرأنه بالمضى فى قراءة الديوان يتسع دلالة الأب إلى مدلولات رمزية أخرى بل قد يحمل مدلولات ميتافيزيقية ففى النصوص إشارات البحث عن الأب أوالمعنى أو الإله ففى نص عاطلون عن الحياة تعود الذات الشاعرة إلى طفولتها وتكتب الرسائل الطويلة إلى أبيها فلا يرد عليها "وتكتب الرسائل الطويلة /إلى أبيها/ فلا يرد عليها" ص42، وفى نص هذا العدم لا يثير: لن أنشغل بطيفك الذى مر/ بى سريعا / رغم أننى فعلت ما يكفى /لتنظيف البيت من الأشباح ص45 ، لماذا اختار أبوك /هذا المكان البعيد/كى يرقد فيه وحده / وهاهم قد محوا اسمه / ونزعوا عنه كل هوية /تدل عليه ، ص55 فثمة بحث عن الاب ومحاولة للوصول إليه أو الإتصال به وهناك محو للألوهية كما فى الفلسفات الماديه والفكر الغربى، بالنصوص ثمة أصداء لبحث صابر الرحيمى عن أبيه فى رواية الطريق ولتساؤلات عمر الحمزاوى عن معنى الوجود فى رواية الشحاذ لنجيب محفوظ " هذه ليست دموعا يا أبى / فأخبئها بعيدا عنك إنها صوت الجرح/ النازف فى القلب ...وأن ابنتك الوحيدة صارت / تفاوض الزمن / كى يدعها تنسى /خيانات الجسد ووحشة التائهين الذين ساروا / باتجاه العدم"ص61
تستدعى الذات الشاعرة شخصيات أسطورية مثل هيلين فى نصين ص12، 30
"لماذا أكرهك يا هيلين /كما ينبغى لغريمة شرسة /لابد أنك نائمة فى حضنه "
بالمقطع السابق كسر لتوقع القارئ ولعب فنى بديع فالذات الشاعرة تكره هيلين ليست لأنها أشعلت حرب طروادة بسبب هروبها مع عشيقها باريس ولكن لأنها غريمتها فى حب باريس ، وبالنص الثانى رثاء لموت هيلين ص٣٠ .
كما استدعت الذات الشاعرة شخصيات مسيحية ويهودية تقاطعت مع حياتها مثل دانيال الجار المسيحى الطيب بشبرا وسؤاله هل اختلاف الدين يمكن أن يمنع الحب فردت عليه بل قد يمنعنا أحيانا من الحياة ، كما استدعت الذات الشاعرة الشخصية اليهودية بنيامين وقصة بنى إسرائيل مع النبى يوسف وأبيه وأخوته وقد ألقوه فى البئر ، وقصة اليهود مع النبى موسى وتيههم فى صحراء سيناء لمدة أربعين سنة وكأنها تتقاطع مع تيه الذات الشاعرة فى صحراء حياتها كذلك يتم استدعاء كافكا كمعادل للمسخ فى حياتها "وظلت لوحة كافكا /فى المحيط المقابل /نبوءة تخبرها/بأن وجودها صار مسخا/ وأن ما حسبته حبيبا/صار بقعة داكنة فى القلب" ص48 .
وهناك نصان يشيران إلى الغربة وعدم الإستقرار الأول البحارة ، وتتسم حياة البحارة بالتنقل والغربة وعدم الإستقرار وربما بالعدوانية ، وربما يشير نص البحارة إلى الآخرالعدوانى"قاطعوا البحارة/ فقتلاهم هنا كثيرون /ثم إننى كلما رفعت عينى /لأنظر إليهم/أبصرت آثار دمائى/على أطراف/ أصابعم "ص7 ، أما نص الغريب فهو يشير إلى الغربة أيضا ولكنها غربة الحبيب الذى تنتظره الذات الشاعرة "لينام على صدرها/ كطفل صغير/ هدَّه التعب/ هدَّه الحنين" ص16
غير أن بالنص الأخير (جولات خاسرة) بعد أن أمضت الذات الشاعرة أكثر من عشرين عاما فى جولات خاسرة تلوح بعض النسمات الروحية والإيمانية "سأنتظر الله كل صباح بجوار الشرفة لأنفض شيئا من هذه الكآبة عن حياتى "ص65 ، كما يلوح نوع من التسامح تجاه أمها "ربما أتلصص من بعيد بعاطفة شاحبة وشحيحة على ما تبقى منها، لم يتبق منها سوى حطام قليل، وسأقنع نفسى بأننى مازلت أقدر على التسامح مع أنينها المفرط والممتد عمرا كاملا "، وبالنص أيضا إشارة إلى أشباح أبيها "بعدما تكالبت علىَّ أشباح أبى ..لا أعرف ماذا يريدون منى بعد كل هذه السنوات " وربما أرادت الإشارة إلى أعدائه أوخصومه وبالنص أصداء لهاملت رائعة شكسبير وتساؤلاته وشكوكه ولأشباح أبيه التى تظهر له كل ليلة ، كذلك بهذا النص إشارة إلى عذاب أبيها وتشبيهه بعذاب السيد المسيح "أتذكر أبى مصلوبا بيأسه فى غرفته، ويصر على وضع صورة السيد المسيح فى البيت، لتمنحه القدرة على تحمل آلامه فى صمت"ص66
كانت الموسيقى والفن هما طوق النجاة للذات الشاعرة والضوء فى نهاية النفق المعتم فى حياتها فى نص(تلك الموسيقى التى تتسلل كالضوء) يحمل عنوان النص صورة شعرية عالية المقام تقول "الموسيقى/ التى أشرقت كالشمس/فى روحى /وبدت كالضوء المسموع /الذى يتخلل جسدى / فبثت فيه الحياة ثانية / وأشاعت السلام / فى الكون كله. ص26،كما كانت الشاعرة والمغنية الأمريكية هيذر توماس روح مشرقة وضوء للذات الشاعرة فى ظلمة حياتها حتى أنها اتخذتها قرينة لها فى نص القرينة: صوتها مثل لؤلؤة/تضئ فى العتمة/كأنها قرينتى من العالم/ الآخر/.. لسنا بحاجة إلى لغة /حتى نتحدث معا/ فالروح ترسل إشاراتها/ وتتكفل بكل شئ" ص32
اتسمت لغة الديوان وأسلوبه بالبساطة والإبتعاد عن التعقيد غير أنها كانت البساطة التى تتسم بالعمق وطرح الأفكار العميقة فى لغة بسيطة كما يطلق عليها (السهل الممتنع ) وسادت ظاهرة الإلتفات وتنوع الضمائر فى النص الواحد من المتكلم إلى المخاطب وإلى الغائب : "يقولون إنك لا تشبه أبى/فى شئ/حتى أُفتن بك/لكننى بك فُتنت/فلا تصوب عينيك/هكذا باتجاهى".مما جعلت اللغة أكثر جاذبية وحيوية وأبعدت الملل عن النصوص، كذلك توفرت تقنية تراسل الحواس مثل صوت الجرح ص60 ، الضوء المسموع ص26 كما توافرت تقنية الإسترجاع (الفلاش باك) وتقنية الإستباق كما فى نص (فى سن السادسة والستين ) "فى سن السادسة والستين/ستلهو بما تبقى لديك/من الزمن/ وستسمى أيامك القادمة/ ب الوقت الضائع"ص57 كما اتسمت كثير من النصوص بالمشهدية .
ربما كان نص شارع محمد محمود يبتعد قليلا عن باقى نصوص الديوان من حيث موضوعه إذ يتناول ثورة 25 يناير إلا أنه –فيما أرى- يلتقى مع ثيمة الديوان الرئيسية وهو الاب بمدلوله الرمزى والسياسى، فالثورة قامت لمقاومة البطريرك(الأب الرئيس) ولمحاولة إنهاء حكمه الذى طال والذى كان يريد تمديده إلى ابنه ، وقد قام جنود الأب بمجابهة هؤلاء الثوار بالقوة الغاشمة بالرصاص والقنابل المسيلة للدموع وقنص العيون "من أين يأتى الغاز إذن ؟/ومن سمح لقناصة العيون / أن تعتلى النوافذ /من قال للجنود أن يعبروا.../منتشين برائحة الموت/ وبالفرجة على جثث مكومة /قرب صناديق القمامة"ص39 . وقد آلت الثورة إلى فشل وخذلان على المستوى القومى متقاطعة مع الخذلان على مستوى الذات الشاعرة فى باقى نصوص الديوان .
اتسم ديوان الوقت ..خارج الوحدة بالإيجاز والكثافة اللغوية والتعبير عن قضايا وجودية عميقة رغم بساطة لغته وأسلوبه ، كما اتسم بالإنفتاح على الثقافة والإعمال الأدبية العالمية مثل الطريق والشحاذ لنجيب محفوظ وهاملت لشكسبير وتساؤلاته الوجودية وأشباح أبيه وإلى السيد المسيح وعذاباته وهيلين بإلياذة هوميروس والمسخ لكافكا مما جعل الديوان نصا شعريا عميقا مكثفا فى حاجة إلى قراءات متعددة حتى يستطيع القارئ الوصول إلى دلالات عميقة ومعان متعددة، وسيخرج القارئ بمعان جديدة وبمدلولات أخرى غير التى فى القراءة الأولى مما يدل على ثراء نصوصه وقوته التعبيرية الفائقة .


حول الندوة والديوان :
1-قرأتُ هذه القراءة (مختصرة) بندوة مناقشة الديوان بدار نشر المرايا يوم الأربعاء الموافق 15/5/2024 ، وكان للمداخلات النقدية من كل من الأستاذ نبيل عبد الفتاح ود عادل ضرغام ود محمود عبد البارى إضاءات نقدية قيمة ، كما كانت لتعليق الشاعرة د نجاة على ، إضاءات فى غاية الأهمية إذ قررت بأن الديوان تأخر ظهوره عشر سنوات لتعرضها لحادث أليم أدى لإصابتها وضياع جزء كبير من نصوص الديوان ، كما أضافت أن مفهوم الأب لديها قد تطور وتوسع عن نصوصها السابقة إلى المعنى الرمزى للأب ولم يقتصر على الأب البيلوجى ومن ثم لم تقف عند حدود عقدة اليكترا بل تجاوزتها إلى مدلولات أخرى .
2-توسعتُ قليلا فى ذكر بعض نصوص الديوان لعلمى أن كثيرا من القراء الكرام ليس لديهم الديوان فحاولت بقدر الإمكان أن أنقل أجواء وأسلوب ولغة الديوان .