أعرف مقدما ، أننى لن أفيه حقه ، وأشعر بالفشل قبل أن أبدأ . من المؤلم جدا ، أن تمتلئ قلوبنا بالامتنان ، ونعجز عن تقديم كلمات " الشكر " المناسبة ، وأفعال تكفى وتكون على قدر " الشعور بالمعروف والجميل ".
لولا هذا الرجل ، كنت قد انقرضت فى هذه الأزمنة الباردة ، الجافة ، شحيحة
المطر ، بخيلة الدفء ، حجرية المشاعر ، صحراوية العواطف ، رملية الطباع ، الغادرة .
أحتاج إلى قوة هائلة، لأكتب عن رجل، هو نقطة ضعفى. أحتاج إلى فنجان آخر من القهوة، لأعدل مزاجى، إلى منتهاه، لأكتب عنه، وأنا فى ذروة «الروقان». وأحتاج إلى موسيقاه الساكنة وجدانى، تنصت إلى إيقاع كلماتى، وهى تعبر عن امتنانها، لأنه «موجود»، «متاح»، فى زمنى.
كيف تضبط نغماته، وموسيقاه، كيمياء مخى، المتعفرتة من نقص «السيروتونين»، ونقص العدالة فى العالم، وزيادة ميكروفونات «النشاز» المحاصرة بيتى، وإيقاع حركاتى؟. لماذا فورا «يروق» مزاجى، عندما يبدأ فى الغِناء، وأراه بحركة ذراعه اليسرى الشهيرة، تنثنى إلى الوراء، والتى أصبحت معلمًا تاريخيًا وفنيًا فى حد ذاتها، يجب دراستها، وفهم مغزاها، ودلالتها؟.
قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، كان جالسا على السرير فى احدى مستشفيات
" بيروت " ، بجانبه المرأة التى أراد الارتباط بها ، وهو المضرب عن الزواج ، فقد قال : " لا أتزوج لأننى تزوجت الموسيقى ولا أؤمن بتعدد الزوجات " . بعد لحظات ، أعلنت اذاعة الأردن فى الراديو ، أنها ستذيع أغنيته المتفردة " أول همسة " تأليف مأمون الشِناوى .
" زى النهاردة كان حبك .. كان أحلى همسة لأحلى وردة فاكرها لسه زى النهاردة " . وكأن القدر يقول له على ألحانه : " زى النهاردة يا فريد الرحيل ".
«فريد» رجل «عنيد»، لا يعطينى فرصة، هو طوال السنة «حاضر» فى دمى، مقيم فى وجدانى، ملتف حول خلايا الذاكرة.. ألم يكن معروفًا بالكرم النادر؟!.
يخطئ أيضًا، منْ يتصور، أننى سوف أحكى، عن «فريد»، أو أكشف خباياه، وأتلصص على سيرته الذاتية، أو أسرد حقائق عن نبوغ واستثنائية موهبته المرموقة، هذه ليست مهمتى، هناك الكثير، والمتنوع، من المطبوعات، والمؤلفات، التى شرفت بهذا الدور.
كما أن «فريد»، وهذا جزء من تفرده، لا يمكن أن تسجنه صفحات الكتب، وشاشات الإنترنت. هل هناك «بحر» يمكن أن يُسجن؟!.
مهمتى أنا أصعب، أحاول أن أفك الشفرات التى تربطنى بـ«فريد»، منذ طفولتى . أحاول اكتشاف لماذا إذا فات يوم، دون أن أستمع إليه، لا أحسبه من عمرى ؟؟.
ولماذا تتآمر ضدى عائلة «الأطرش»، فتأتى أخته «أسمهان» فتنهى ما بدأه الأخ، وتكمل على بقيتى، بالشجن اللذيذ الذى يبكينى، البكاء الذى أنتظره منذ ألف عام.
أنا، التى لا تنام إلا على وسادة السكون، وإيقاعات الصمت، يأتينى النوم، سلسًا، حنونًا، ناعمًا، إذ يغنى «فريد»: «تصبح على خير يا حبيبى أنت من الدنيا نصيبى»، وتكفينى أغنيته «يا مالكة القلب فى إيدك ده عيد الدنيا يوم عيدك»، تأليف صالح جودت، لتكون رفيقتى الحميمة الوحيدة فى يوم ميلادى، صباحًا، وفى المساء تحفته البديعة «عدت يا يوم مولدى»، تأليف كامل الشناوى، تختم ليلة ميلادى. وكان لابد أن يكون مثلى من مواليد شهر أبريل ، الذى ينتمى الى برج
الحمل ، ويتحكم فيه كوكب المريخ ، ذو اللون الأحمر ، لون الشغف ، والحياة على حافة المغامرة والمخاطرة ، والتحدى الضرورى كالماء والهواء .
من أجمل أغنياته: قسمة، حكاية غرامى، نجوم الليل، لحن الخلود، القلب قلبى، حبيب العمر، يا ريتنى طير ، أحبابنا يا عين، يا قلبى يا مجروح، سألنى الليل، كفاية يا عين، يا زهرة فى خيالى، أول همسة، ودعت حبك، إنت اللى كنت بادور عليه، يفيد بإيه الأنين، أنا كنت فاكرك ملاك، لو تسمعنى لآخر مرة، مقدرش أقول آه مقدرش أقول لأ، عذاب عذاب، قدام عينيا وبعيد عليا، مخاصمك يا قلبى، يا حبيبى طال غيابك، أضنيتنى بالهجر، ياللا سوا، أيامى الحلوة، لو تسمعنى لآخر مرة، لا وعينيك، وحدانى هاعيش، صدقينى، بقى عايز تنسانى، حبيبى فين، إرحمنى وطمنى، وحياة عينيكى، قالتلى بكره . حتى ألحانه الرشيقة المرحة، سهلة ممتنعة، ووجبة دسمة، مثل: وياك وياك ، ما قللى وقلتله، سافر مع السلامة، حبيته لكن مباقولشى، مرة يهنينى ومرة يبكينى، دايما معاك، نورا، جميل جمال، الحب لحن جميل،أنا وإنت والحب كفاية علينا، أنا وأنت حسدونا فى حبنا، تقول لأ، إرحمنى وطمنى، يا حليوة، آخر كدبة، يا جميل يا جميل ، غنى غنى ، ملكش حق، مع المطربة نورالهدى.
والأغنية التى أعشقها، ولا مثيل لها فى موسيقانا العربية، لحن «يا فرحة الميه».. لحن عبقرى، ملحمى، مبتكر، بسيط جدا، ومعقد جدا، معبر جدا عن وصف غريب، رقيق: «يا فرحة الميه».
هذه بعض من الجواهر التى تركها «فريد» . ولا نغفل ريادته فى تقديم الأوبريتات ، مثل الشرق والغرب ، وأغنياته الوطنية ، مثل وردة من دمنا ، والمقطوعات الموسيقية البحتة مثل توتة ، ورقصة الجمال ، ورقصة النار .
ومع كل أغنيات الأفراح ، تظل أغنيته " دقوا المزاهر " المتربعة على العرش ، ولا تكتمل الفرحة الا بغنائها .
حتى الأغنيات الكوميدية ، تشهد له بالبراعة والمهارة ، مثل " ياما فى الدولاب مظاليم " ، " يا سلام على حبى وحبك ".
وكان يحرص على أداء صوت نسائى معه ، مثلما فعل فى أغنيات " قسمة مكتوب" ، " غنى غنى " ، " تقول لأ " ، " الحب لحن جميل " .
فى فيلم " آخر كدبة " مع سامية جمال ، 1950 ، قدم " فريد " أغنية " أنا واللى باحبه " وشاركته الأداء كاميليا . وعندما سمع عبد الوهاب الأغنية ، اتصل بفريد ، وهو المعروف بصعوبة أن يعجبه لحن ، وقال له مباشرة وصراحة " ازاى لحنت الغنوة دى ؟؟ .. أنا مستعد أتنازل عن نص عمرى الفنى مقابل انى آخد الغنوة دى ". كان اللحن جديدا ، ومبتكرا ، ومختلفا على الأذن الموسيقية العربية ، بايقاعات أجنبية رشيقة ، مع تشبعها بالروح الشرقية المميزة لكل ألحان فريد .
من أسرار «فريد»، أنه كان يعيش لحظات الفرح، بكثافة، وشغف، وإخلاص، كما يعيش لحظات الحزن والأسى.
«فريد» الوحيد الذى غنى للسابحات الفاتنات، المستمتعات بالماء. فأنا سباحة ماهرة، وأمارسها يوميًا لمدة طويلة، على مدار العام. كلما منحت جسمى للماء، يأتينى صوت «فريد» بلحن متموج كالماء، ليس له مثيل، ومن كلمات عبدالعزيز سلام: " يا فرحة المية بالحسن والخفة لأجل العيون ديا سلمت أنا الدفة ".
ترك لنا «فريد» ٣١ فيلمًا سينمائيًا، بين الدراما، والاستعراضات الغنائية الفاخرة، والقصص المترجمة من الأدب العالمى. كلها يحترم العقل والعاطفة والمزاج الموسيقى الأصيل الذى يجرب ويجدد. وفى بعضها كوميديا راقية من الطراز الرفيع.
26 ديسمبر ٢٠٢1، ذكرى الرحيل الـ٤7، لا أملك إلا كلمات نزعتها من حنايا قلبى، أهديها إليك يا «فريد»، قبل بدايات عام جديد. أنت الوحيد الذى أئتمنه على الباقى من عمرى. وأشكر الأم الأميرة «علياء المنذر»، التى حملتك فى أحشائها، وفى حنجرتها الذهبية، وتكبدت المشاق للحفاظ عليك، وعلى أسمهان، أسطورتان من رحم واحد، تؤنسان وحدتى، وعواطفى اليائسة.
أكتب له، فى ذكرى رحيله ال 47 ، علنى أكشف السر الكبير، الذى يربطنى بصوته، وألحانه، وموسيقاه.
وبالنسبة إلى «فريد»، فإننى أغفر كل العيوب، لمجرد أن صاحبها يحب غِناء وألحان «فريد». وأنسى أروع المزايا لأن منْ يملكها لا يحب صوت وألحان «فريد». هكذا يعربد «فريد» كما يشاء، يظلم، ويعدل، يشكل طباعى، وأخلاقى، وحكمى على الناس. أتركه دون تدخل أو تذمر. هو العمر كله فيه كام «فريد»؟.
لست أستطيع الكلام عن الموسيقى والغناء دون التطرق إلى ذلك الرجل الاستثنائى غريب المزاج، نادر التواضع، فيلسوف الموسيقى، اسمه القصبجى ١٥ أبريل ١٨٩٢ – ٢٦ مارس ١٩٦٦، مع «القصبجى» أتألم من ذروة الانتشاء. مع «فريد» أنتشى إلى حد الألم. مع «القصبجى»، تتعفرت دقات قلبى. مع «فريد»، تهدأ دقات قلبى. مع «القصبجى»، أسافر. مع «فريد» أعود. مع «القصبجى» أنسى منْ أنا. مع «فريد»، أستعيد ذاكرتى.
يتألق «فريد»، فى جميع أعماله. لكنه يصل إلى الذروة، فى الأغنيات التى تثير الشجن، وتقطر ألما. وكأن رسالته هى مواساة القلوب الحزينة، ومداواة آهات الألم. وما أعظمها من رسالة فى عالم يدوس على قلوبنا ومشاعرنا، يعذبنا، ويعذب منْ نحب، بشراسة، وبدم بارد.
قلما يعبر الاسم عن صاحبه. لكن اسم «فريد» يتناغم مع شخصية «فريد». كان فريدًا فى موهبته، وفريدًا فى وحدته، وفريدًا فى أحزانه، وفريدًا فى كرمه، وفريدًا فى رهافة مشاعره وحساسيته، وفريدًا فى عزفه على العود، وفريدًا فى عزوفه عن الملذات الزائلة، وفريدًا فى إهمال صحته، وفريدًا فى علاقته بالنساء، وفريدًا فى عشقه للبحر، وفريدًا فى ملله السريع من الأشياء، وفريدًا فى تأثيره على قلبى، وفريدًا فى مرض قلبه، وفريدًا فى شعبيته، وحب الملايين له.
كل مساء، لا يأتينى النوم، إلا على صوت «فريد»، يشدو فى سكون الليل: «تصبح على خير يا حبيبى إنت من الدنيا نصيبى».
فلا أحتاج إلى وسادة الذكريات، أو إلى الحبة المنومة ، ويعجز العبث ، واللاجدوى من التنكر فى شكل الكوابيس والأشباح والعفاريت .
هذا سر آخر من أسرار «فريد» فى حياتى ، يبقى خافيا .
لكن سرا واحدا على الأقل ، قد تكشف لى . " فريد " هو " ملك العود " ، و" ملك قلبى " .
مع أننى متأكدة ، أنه بسؤال فريد عن لقب " ملك العود " ، كان سيعترض.
فهو من شدة حبه ، وعشقه للعود ، يكره أن يكون له " ملكا " . سيفضل " فريد "
لأنه ابن الأمراء ، سليل الكرم ، من نسل النبلاء ، ( مش ناقص مُلك ) أن يكون
" العود " هو الملك . ألم تكن وصيته أن يُدفن عوده ( رفيق عمره ) معه ؟؟؟.