عندما دخلت هندسة القاهرة عام 60 كان أحد مدرسينا هو الدكتور حسن فهمي، وكان مدرساً قديراً متفتحاً منيراً مستنيراً، كان معروفاً بكل هذه الصفات، ولكنه أيضاً كان معروفاً بأنه "أبو فريدة فهمي" وكانت هي راقصة فرقة رضا بل راقصة مصر الأولي - في فن الرقص الشعبي وليس الرقص البلدي الذي كانت سيدته في تلك الفترة هي سامية جمال وتحية كاريوكا، وهما فنانتان محترمتان أيضاً لا أقلل من شأنهما إطلاقاً.
المهم أننا ونحن طلبة في كلية الهندسة كانت لدينا بعض الدهشة وبعض الإعجاب بهذا الدكتور الذي ليس فقط لا يعترض علي كون ابنته راقصة ولكن كان هو من أكبر مؤيديها، يعطيك هذا فكرة عن فترة نهايات الخمسينات وسطوع شمس الستينات، فقد كانت فترة تحولات ثقافية وإجتماعية هائلة بكل المقاييس في مصر، أشعلتها روح حركة يوليو التي بدأت كانقلاب عسكري ثم تحولت إلي ثورة تغيير إجتماعي ثقافي سياسي مزلزل لا أعتقد أن مصر شاهدته في تاريخها سوي مرات قليلة جداً آخرها قبل يوليو كانت فترة محمد علي، أما أول تلك الثورات أو التحولات الكبري فكانت فترة اخناتون، وهي الفترة المذهلة التي أعيشها منذ عامين وأنا اكتب روايتي "في مخدع الملك، في مذبح الإله" التي أكملت ثلثيها ثم أصابني الوهن لكني سأواصل في 2022.
لا تتخيل مقدار المتعة التي بعثتها فينا، نحن شباب تلك الفترة الذهبية من تاريخ مصر المعاصر، فترة الإنتقال من فكر الخلافة والخديوي والرؤية الإقطاعية الدينية الرجعية إلي فكر الحداثة والمعاصرة والعلوم والفنون والعالمية والعلمانية. كانت فرقة رضا هي إحدي تجليات تلك المتعة الشبابية المتوثبة التي واكبتها تجليات أخري كثيرة جداً في مجالات الفنون المتعددة والإبداع الخلاق في كافة مناحيه الفردية والشعبية الجماعية والقومية الوطنية.
كانت فريدة فهمي تمثل المرأة المصرية الجديدة الصاعدة الواعدة، وكانت الفتاة المصرية قد دخلت معنا كلية الهندسة في أعداد راحت تتزايد بسرعة كل عام بشكل يكاد أن يكون تلقائياً وطبيعياً، وهو أمرٌ لو تعلمون عظيم، وكانت الفتيات في الستينات يرتدين الفساتين القصيرة، الميني جيب ثم الميكرو جيب، يتخايلن بهذه الفساتين كالفراشات الملونة، بينما تتطاير ضفائر شعرهن كالعصافير، فكانت الفتيات يضفين علي الجامعة والشارع وكل مكان نفحة ربانية من الجمال والرقة والجاذبية تخفق لها قلوب البشر فيزداد تقديرهم للجمال وحبهم للحياة، بينما تصدح من راديوهات المحلات التجارية في الشوارع والمقاهي أغاني حليم ونجاة وفايزة أحمد تحرض كلها علي المفاهيم والسلوكيات الجديدة للشباب، فغنت نجاة أغنيتها الرائدة لنزار قباني ولحن عبد الوهاب "أيظن أني لعبةٌ في يديه"،، وغنت فايزة يا أما القمر ع الباب، نور قناديله، يا ما أرد الباب، ولا أناديله؟ وغني عبد الحليم "أبو عيون جريئة"، و-"نار يا حبيبي نار" وغير هذه مئات الأغنيات التي راحت تتدفق كل يوم من الراديو ثم التلفزيون فتحرر مخيلة الشباب من سلاسل التقاليد الثقيلة لينطلق محلقاً في فضاء الحرية والإبداع والمتعة والجمال.
ولكن هذه كلها لم تأت من فراغ، فقد كانت مواكبة طبيعية لحركة التحرر الإجتماعي الهائلة التي اشتعلت في تلك الفترة، لم تحدث بقرارات من أحد، ولكن دفعت بها روح شبابية عصرية جديدة تماماً اشعلتها حركة يوليو هي بلا شك إحدي انجازاتها الكبري، وأقول دائماً أن الكثيرين لا يرون في يوليو سوي حركة عسكرية سياسية فقط، غافلين عن طبيعتها الأهم في تقديري، وهي أنها كانت أيضاً ثورة ثقافية فكرية فنية إجتماعية هائلة، ولذلك كانت التحولات الإجتماعية التي واكبتها سريعة ومثيرة وباهرة، وغير مسبوقة في تاريخ ما بعد الحضارة المصرية القديمة.
كل التحية والتقدير لفرقة رضا التي احتفلت منذ عامين بمرور ستين عاماً علي تأسيسها في 1959، وتحية لكل من شارك فيها، فهي إحدي أجمل ما قدمت مصر من إبداع فني في الستينات ولفترة مديدة بعدها.