الكاتب : نجوى شعبان الكتاب : نوة الكرم عرض : غادة نبيل
َوّة الكرْم، رواية نجوى شعبان الثانية ، الموسوعية، البديعة. من أية زاوية تسعى لمناقشة هذا العمل فأنت مضطر للتعامل مع التعدد والخصوبة والليونة وأنت تستقبل كل هذا الكم من المعلومات والمشاعر التى تنقلك إليها الكاتبة بسلاسة وخفة و… دعونا ننطقها – بثقة . وهنا طموح كبير شارف التحدى والإلحاح معاً ، الأول لم تخنه الكاتبة والثانى استجابت له.
لن أتكلم هنا عن الرواية التاريخية رغم أننى درست الرواية التاريخية والرواية الحديثة ورواية ما بعد الحداثة والرواية النسوية . سأختار أن أسجل إعجابي عبر إشارات ولأنها ستبقى دون الإحاطة ، ذلك الطموح الذى يبدو أنه حرك عملاً كبيراً مثل نوّة نجوى شعبان الروائية.
محاولة الرصد – رصد الجمال دائماً خائبة . وسأحاول مع هذا ألا أخيب . لكنى هنا لا أكتب دراسة.
إن معنى الثورة المكنون فى رواية تدين بقيمتها وتوجهها الأول لثنائية الاستمتاع (لدى الكاتبة) والإمتاع (لدينا) نجده ماثلاً بل متحركا فى رمزية فعل الترجمان وشخصية ليل وشخصية بيسى الراقصة اليهودية المتحدية عوضاً عن كل المنظومة النقدية الهجائية ضد ممارسات عسكر العثمانلية ورموز السلطة وأيضاً ضد معتقدات العامة التى تسمح بالظلم والاستغلال .. وكلها موزعة بعدالة كما أرى على شخوص الرواية ، كل من خلال عكسه أو تقديمه لأزمة أو محنة ما.
ونلحظ فى هذا العمل الكبير حجماً (إذ تبلغ صفحاتها مائتى وخمس وتسعين صفحة ) وقدراً حيلاً من الصعب حصرها فى تقنيات التخييل الروائى وأجسر أن أقول فى فنية الإمتاع ، ليس من أقلها حرص الكاتبة على ملاطفة القارئ عبر تفريعات ذكية هى ذاتها من صميم نسيجها أو بنية الأحداث ودراما العلاقات بين شخوصها للإبانة عن روح عصر ، أو روح إنسان ثم نفاجأ بأن ما حسبناه على سبيل الملاطفة المنحرفة عن سير الأحداث لا يتماس معها فقط وإنما – بانحرافه- يقدم خدمة جليلة وربما مزدوجة لرواية حيث نرتاح كقراء من الجيشان والتلاحق والتوازى الحدثى والانفعالي بما يسهل عملية المتابعة واستئناف القراءة لعمل هكذا طويل نوعاً ومن ناحية نجد أن صلب وقائع الانحراف والابتعاد (الظاهرى) تلك تعود لتمدنا بمغزى ورابطة منطقية محكمة فى علاقات الشخوص وممارساتهم وتطور تقديمهم الى القارئ.
ومن بين ما نلاحظه فى " َنوّة الكَرْم " استخدام كلمة ربما ليست عربية أما معناها بالعربية وذلك على الرغم من اختلاف الزمن ( زمننا مقارنة بزمن أحداث الرواية ) على استخدامها اللغوى مثلما نلحظ فى إشارة واضحة فى صفحة 75 على هامش المخطوط نجد فيا:
"… كانت سنانية أخت ليل الكحكية أول من تقوم بعرض أزياء / ديفيليه"
فى مواضع أخرى تعطل الكاتبة الحكم بتوزيع دلالية المعنى حين تلجأ الى هذه الطريقة فى كتابة المفردة ومرادفها .. أى أن هذا التعطيل العمدى للمعنى بإعطاء أكثر من مفردة يكون هدفه أحياناً فى نظرى إشاعة تعددية ما ، إشراكنا – ربما – فى التأويل أو تذكيرنا بذلك الحق ، حين تكتب "بعد تسحبه / فراره " أو تومئ الى الاختلاف المستمر حتى وقتنا الحالى بشأن أحداث تاريخية حين تكتب :" إلا بعد مائتى عام من ذاك الوقت مع الغزو / الفتح!! الفرنساوى النابليونى لمصر ".
أوقاتا أخرى هذه الصيغة توظف لتوكيد معنى معروف أكثر من إعطائها معنى لكلمة فتقول الكاتبة مثلا " كان أرزقيا / يعمل بمهن صغيرة كثيرة " وهناك أوقات توحى لقارئ بالحكم ، بالمعنى الأوحد الذى تريد له أن يستقبل به ما تقوله، عندما تكتب " كما لا يثير هذا البيت / السجن ريبة العامة ".
إن جسد النص ( ولدينا في " نَوّة الكَرْم " أصوات عديدة فنحن بصدد بوليفونية ثرة وحقيقية عوضا عن النصين اللذين يحملان القص والسرد على أجنحتهما ) يتضامن شكليا وأسلوبيا مع مسعى وطموح ما ، الانحياز مضمر فى شكل تعامل الرواية مع الشخوص والبنية التى توزع انحيازات مستحقة – بعدالة – على من تريد الكاتبة أن تقدم ما هو أكثر تجذرا من التماهى معه ، ذلك التماهى الذى يشحن القص فى " نَوّة الكَرْم " بكل ذلك الفهم والتعاطف الذكى.
هناك اختيار حدى دائماً .. وتلاعبنا الكاتبة فى لحظات لا حصر لها ولا أقصد الدفق المعلوماتى شعبياً وتاريخياً ولغوياً ، المضفور فى السرد وفى لغة الحوار بل على مستوى بلاغة ذكية تحترم ذهن قارئها.
أكاد أهجس بتوحد صوت الكاتبة مع الترجمان كما أسلفت فى مواقف شتى مثل أزمته حين لا يستطيع العثور على بعض أوراقه التى كتب فيها ، وبوحها المكتوم –بالكاد – حين تعير (كما نشتبه) صوتها للترجمان كاتبة :" عجب إذ يجدر به أن يشعر بنشوة (حزر-فزر) التى يشاغب بها قارئه المفترض". فمن هنا الى يشاغب من ؟.
وقول حفيدة الترجمان تتشكى وتتحسر :" فأنّى لرجل من العصور الوسطى أن يثق بعقل امرأة جاءت بعده بخمسة قرون ، حتى لو عرفت القراءة والكتابة مثلى".
ومرة أخرى يأتينا وصف مرض المطراوى " عشر ساعات فى عشرين عاما يتلقى ما تصدره هذه الحجارة من إشعاعات ضارة ، أصابت المطراوى بأمراض خطيرة ، لم تحدد أسماءها فى ذلك القرن ، إلا أنها ناجمة عن التدهور التدريجى لجهاز المناعة فى جسده ".
فى ذلك القرن و" جهاز المناعة " إنه العصر الحديث أو زمننا الحالى يقتحم عام الرب 1557.
أخال الكاتبة تفعل ذلك بوعى تام وعلى نحو مقصود ، بل أجزم بهذا بحكم تكرار هذه الأمثلة مثلما تقول قرب نهاية الرواية عن اجتماع ممثلى أسباط إسرائيل " أو ربما يخططون بأن يتحكم اليهود فى العالم عبر شبكاتهم التجارية الواسعة ".
فلو حسبنا إشارة الكاتبة الى عام الرب1557 الذى تستهل به هذا الجزء لتبين لنا رغبتها الواضحة فى قصدية الإيحاء بالتوحد مع حفيدة الترجمان وعلى التحليق هوناً فوق أسوار المرحلة التاريخية والتى تقع فيها أحداث الرواية دونما انتقاص من تأثير السياق التاريخى النفسى الذى تفجره طوال السرد والحوارات عبر أدق التفاصيل بما يتيح لها حرية على مستوى الحراك النفسى داخل الرواية تضمن بها طوال الوقت بل حتى وهى تبيح هذا الحراك النفسى من خلال ومضات زمانية حديثة أن تؤّمن كيمياء زمانية محددة المعالم لنصها دون أن تحرم نفسها من اختراقاتها ونزواتها الواعية فى تعاملها مع تلك الكيمياء.
إن خمسة قرون بعد التاريخ السابق 1557 تردنا الى عصرنا ، أو تضع الكاتبة معنا فى العصر الحديث وجملة " فى ذلك القرن " تقول الكثير عن زمان تناوشنا الكاتبة بأنها المالكة لنصاب وحق الحركة فيه سواء أكانت الى الأمام أو الى الخلف ويستمر هذا ويتدعم حيث نسمع على لسان حفيدة الترجمان عن نفسها " أن تتعلم تحقيق مخطوط ، فلا أقل من أربع سنين جامعية ، نافذة الصبر هى". ولكن حيلة كشف الكتابة بالحبر السرى المعتمدة على عصير البصل والحليب والرماد البارد وإشعال قطع خشب صغيرة فى منقد للبخور ، كلها تعيدنا عبر الزمن الى " عام الرب " حيث الإنكشارية وطقس الدوسة والقراصنة والجوارى وطومان باى.
ومرة أخرى تفعل هذا أو تكرره عمداً عند حديثها لاحقا عن الأجساد الراقصة قبل الحلول المتوقع للقيامة عندما تكتب ( ثمة أجساد لم تكن بحاجة الى تسميات لبقة ومرائية "ذوى الاحتياجات الخاصة / المعوقون" أو " عينه كريمة أو بصير /كفيف".. الخ
لا يبلغ الأمر حد تداخل الأزمنة بمعنى الحركية التاريخية لكن هذا فقط لأن الكاتبة لا تريده أن يحدث. ويتكرر الإيحاء بالخروج من الزمن الإنكشاري الى زمننا مرات أخرى مقصودة تحمّل القص كثافة – وهذه مفارقة عميقة – زمنية أكبر عندما تكتب على لسان حفيدة الترجمان :" لماذا لم يفتح جدى هذا الخطاب ، أتكون قارئته الأولى بعد ما يربو على خمسمائة عام ؟"
إشارة أخرى الى هذا الإنزياح الزمنى تطفو أمامنا لدى اكتشاف حفيدة الترجمان الذى يرتبط بحلم ومسعى الشاهد والمدون للتاريخ غير الرسمى ، أن الرسالة المغلقة التى لم يقرأها أحد وتركها جدها كتبت بالتاريخ الهجرى بما يقابل أواخر القرن السادس عشر الميلادى وتتناول مثل الرواية التى بين أيدينا " حكايات الحياة اليومية للمصريين فى ذلك الوقت " ولكن بالعامية القبطية . أما نحن فنقرأ تلك الحكايات ولكن باللغة العربية ، أقصد الرواية التى كتبتها الكاتبة.
لكن ليست هذه برواية أو كتاب عن كتاب أو عن الكتابة . وهنا غواية القص وقرار الإفلات من غواية التكنيك والتمارين الفنية.
كحافظ ومسل للتاريخ المُغْفل ( الحقيقى والمروع لأنه كذلك ) يبدو الترجمان من ثم مجسداً لفكرة والتر بنجامين عما أسماه هذا الأخير "النوستالجيا الثورية " بمعنى " قوة التذكر الإيجابى من حيث كونها استدعاء وتوظيف طقوس لتقاليد المقموعين فى مجرة عنيفة ضد الراهن السياسى " ( فى شرح تيرى ايجلتوف المفكر اليسارى).. وهو ما يجعل بنجامين وهنا تحديدا يقف على طرفى نقيض مع مفهوم "النسيان الإيجابي active forgetting النيتشوى للتاريخ حيث يرى نيتشة – على العكس أننا يجب أن نتمعن فى فكرة أو إمكان أن نحيا ونعانى الحياة على نحو غير تاريخى بوصف ذلك من وجهة نظر أكثر التجارب أهمية والأساس الذى يمكن أن تنبنى عليه (!!) العظمة والصحة ، والحق ! (كل علامات التعجب من عندى).
ربما يتحتم أن نتفق مع نيتشه أن الحيوان يعيش بلا تاريخ وأن ذلك يفرض على الحيوان أن يكون صادقا طوال الوقت! ولكن حتى الحيوان لا يمكن أن نقول أنه بلا تاريخ تماما وإلا ما معنى أن ترسل قطتك بعيدا عن البيت لتتخلص منها فتجدها تعود إليك فى كل مرة ؟
هل أسخر من نيتشة بتبسيط مخل ؟ كل ما أعرفه أن علاقة الحيوان بتاريخه ليست كعلاقتنا بتواريخنا بالطبع ، لكن كيف يؤدى هذا الامتصاص خارج الحالة التاريخية أو الوعى بها ، كيف يؤدى هذا التجريد من التاريخية الى علاقة أكثر صفاء وصدقاً مع الحياة فأنا لا أفهمه . وبقول آخر ما هى القيمة ( الأخلاقية أم أنها كلمة كريهة تماما لدى نيتشه؟ ) لهكذا صفاء ولهكذا صدق ؟.
الروائى جمال الغيطانى أفاد مرة بأنه لا يوجد ( فى الرواية التاريخية ) ما يسمى بالتاريخ ، إنما فقط إحساس بالزمن وإعادة إنتاج اللحظة.
أتصور أن التاريخ لدى نجوى شعبان – هنا بالتحديد – اتى معه بحمولته من الغواية بالحرية وارتياد لمنطقة خصيبة غير مجرفة فى تناولها الروائى ، لتستر الشخصيات وهى تكشفها من أجل إجتراح علاقة جديدة مع عالمها الروائى . بهذا المعنى لا تفارق الكتابة حلم المغامرة.
ثم أنى أكاد أرى وأضع يدى على هذه النوستالجيا الثورية بالمعنى الذى شرحها به إيجلتون لدى إصرار آمونيت الراهبة على تدوين الترجمان العامية القبطية ونقل هذه الى العامية العربية (إذ لا تكتفى بقبطية الكنائس النخبوية الآفلة علامة الطائفة ) على لسان آخر سيدة تجيد القبطى "العامى" فى الصعيد حيث اللغة الدارجة علامة هوية لا طائفة ، ويمثل الحفاظ عليها الحرص على إرادة وفاعلية التذكر الإيجابي الذى يوظف تقاليد المهمشين بإزاء راهنية ثقافية سياسية ما . ثم هنالك ذلك المعنى الذى يتفتح فى النص عبر الحوار الذى يدور بين آمونيت والمفزوع والترجمان عقب عودتهم من هذه المهمة التى تستنقذ الانتماء من الصعيد كأصدقاء ، واسم آمونيت المثير للجدل كما تكشف الصفحات فى تعليق الراهبات ذاتهن عليه وعلاقتها هى بإرثها ( احتفاظها وحرصها على سرقة تماثيل لإلهات فرعونيات من بيت المطراوى وهو ما يسهل كل الاتهامات إليها فى محكمة التفتيش بأنها ساحرة ).. هنالك رغبة فى الإفلات بما يتعرض للقمع طوال الوقت ، وتقريبا، لدى كل شخصية تقدمها إلينا فى هذا العمل نجوى شعبان.
إن إصرار بيسى على الرقص يوم السبت وهى اليهودية رغم الخرق الواضح لتعاليم دينها وارتداء ليل ملابس الغلمان تنكرا ولو بغرض نبيل يسهل قبوله اجتماعيا وهو السعى للرزق للإنفاق على اخوتها الأيتام وعدم تقليدية الخزّاف أو ليث الدين شقيق ليل الذى لا يمانع بأن تجلس أخته مع زوج المستقبل المهتدى الجريكو لتتعرف عليه وسنانية الموصوفة ب"سيدة التجاريب" التى يتجه تمردها صوب نفسها جسداً وروحاً حين تفضل أن تبقى عبدة أو جارية لعوب تنتقل من بيت لآخر وسيد لآخر على تقشير وبيع فول السودانى .. كل هؤلاء كيانات إنسانية تملك طاقة عالية من التمرد على الواقع ولو أن ثوريتهم ليست فى كل الأحوال سياسية إلا أن الكثير منها موجه ضد الظرف السياسى والاجتماعى الذى يعيشون فيه.
الذى تشد الكاتبة وتره كغنيمة أو كنز تعرف كيف تغترف منه هو كرة التجارب وتشابكات العلاقات والشخوص والقراءات والأحداث . فتفتل مرة جديلة الموروث التى تظلل الرواية وتنسرب فى أعضائها من البداية للنهاية ، ومرة أو مرات جديلة التاريخ الذى أخذت منه ما تريد ومرة جديلة اليومى الفواح بالحياة الشعبية والعامية كلاماً وغناء ومرة بصوت شعرى فى الوصف أو السرد ومرة تطفح بحلم أو بأسطورة أو فانتازيا خالصة أو حالة حُلمية ومرة تضعنا أما رهبة التنجيم وذلك النص الآخر – المبرز ببونت أو خط داكن كبير على لسان غياث الدين وتتناوب عليه أصوات مثل ليل وسنانية أو يبدو كأنما هو بلا صوت أوقاتاً …ولماذا ؟
كل هذا لتفتح الكاتبة نوافذ الحكاية على أكثر من هواء لكى يدخل .. الى جانب أصوات الشخصيات الواضحة التى تعلن عن نفسها ولا تتقنع بهذه الباطنية التى كأنما تسحب نفسها من منطقة اللاوعى فى النص الداكن المتقاطع مع النص الآخر – المتن أو الذى أراه أصليا أو اخترته لكى يكون كذلك.
أمام منجم لهذا توفى الكاتبة تعشيقات الشخوص ملامحاً مستقاة من أناس حقيقيين وعلاقاتها بهم المقطرة بالقراءة والتحليل النفسى وخبرة الألم وحتى أحيانا بالفرجة سواء أكانت إكلينيكية ( ليس تماما كما أحسب طالما تملك القدرة على الحس ) أو المشمولة بموقف أى التى ينتج عنها بالضرورة موقف ورأى ، ولكن هذا ما لاتسمح له الكاتبة بتملك ناصية الحكى والتعليق بأكثر من درجة ما ، فشخوصها المنتقاة بعين الفن ، أى الفهم والفن قبل عين الرأفة .. هى ليست عين بالضرورة رؤوفة إنما قدرتها على الفهم تجعلها تبدو كذلك ، عين شبقة للرغبة فى استكشاف المزيد عن أغوار الآخر ، جس نبضات ذكرياته وتنهيداته ودوافعه.
تقول فى الرواية :" إن أتيح لها الاختيار فسوف تكون ذلك المخلوق الخرافى المحايد ، فقط يراقب ويشاهد ، لا يلحظه الناس ولا يمنحونه اهتماما"
ياللتفاؤل .
إن " نَوّة الكَرْم " تذكرنى بمصطلح أو مفهوم الكارما الهندوسى – البوذى رغماً عنى . وعموماً آمونيت كيوغية عظيمة تداوى بالأعشاب ولها خلاف ذلك طاقة روحية نصف سحرية كموهبة تجعلها لو مست رأس المصدوع تشفيه وينتقل الصداع إليها.
وثمة فى الرواية موحيات يوغية عديدة مثل تعلم آمونيت لأسرار التنفس (جوهر اليوجا) وفكرة العين الثالثة التى يتكئ عليها الفكر البوذى لدى الانخراط فى الرهبنة ولكن فى مقابل هذا الماوراء الخيّر أو ميتافيزيقا الخير ، هناك ميتافيزيقا الشر الموحى بها فى إشارات لشعوذات ( أم أن الكاتبة لا تراها كذلك ) صوفية يتم استغلالها لإحداث الشر الفيزيقى وليس الميتافيزيقى أثناء محاولة قتل الترجمان على ما أذكر الذى يفديه المفزوع أثناء طقس الدوسة و لا يموت المفزوع بل يجرح وهناك موقف محاكمة آمونيت الذى يبين عن فهم عميق من الكاتبة تدعمه قراءة واعية متخصصة فى تقاليد محاكم التفتيش والأساليب القروسطية فى إدانة الساحرات المفترضات والشر الذى يستقبل به العامة كلمة أو اسم " أمنا حواء " فى مقابل " أمنا مريم ".
مع هذا تَمْثُل الرواية بأقدار وأفعال شخصياتها المفضية لنهاياتهم بوصفها كذلك نوة الحياة أو نوة كل الأعمال التى نرتكبها فتحدد حياتنا بكل ما يصطخب فيها حتى الرمق الأخير . وهناك – كيف ننسى ؟ – أعاصير وزلازل وقرصنة وأحابيل من الحكى الشيق وتقدير أصيل لليومى.
كما نلاحظ أن محاكمة رموز الفساد تتوزع على الكثير من الشخوص فلا يحتكر أى صوت بمفرده فعل الإدانة أو فعل التمرد ، ويبقى المتمرد ، بطريق الإمتاع ، حالة يتم تسريبها الى القارئ عبر مواقف ومنمنمات إنسانية من الصعب حصرها ولعل فى تعدد مصادر الإدانة للظلم والاحتجاج على حراسه ما يقدم شهادة تتجاوز العصر الذى يفترض أن أحداث الرواية تقع فيه فمواقف المساومات أو الابتزاز الذى يمارسه المحتسب على ليل وحكاية ليث الدين عن عسكر العثمانلية الذى يقلبون سلع الباعة الصغار التى يصادرونها لحساب أنفسهم ( ألا نرى مثل هذا ما زلنا فى طرقت القاهرة ووسط البلد والأحياء التى يباع فيها الخضار؟) وخدر النفاق الدينى الشعبى والوعى الذى يتمتع به الترجمان الذى يقبل الاحتماء بصورة المعتوه وثورة طومان باى .. الحقائق لا تتغير .. ذلك يعنى أن ما هو صحيح نادرا ما يحدث لأن البشر ليسوا أصحاء – نفسيا واختلاف العصر لا علاقة كبيرة له بتغيير الطبيعة الإنسانية.
ثم هناك هذه اللغة الموزونة الحرة .. الموزون لها حريتها الظاهرة _ فى كل الاتجاهات التى نتجه إليها.. لغة عفية و حارة و سيالة تبقى القارىء فى اندهاش مستمر من الحالة المعرفية الواثقة التى تتمتع بها الكاتبة ونجد كلمات ساخنة بطبيعتها و حيويتها بعضها ما زال يستخدم مثل(الاضيش),(مرة شلق) ,(نسوان),(الارزقى) ونجد كلمات و تعبيرات حلوة نستخدمها مثل (انك تبعينا الهواء).
وهناك "معلومات" نتعرف عليها من هكذا كاتبة تقرأ بنهم مثل تعبير "رأس عشم الخير" الذى تورده بوصفه كان اسماً الرأس الرجاء الصالح وكلمات تشرح لنا جذورها فى الحوارات_بعفوية
Bena Esta وتفاصيل مرتبطة بالمخيال الشعبى (المشاهرة ، كلمة بدوح ، وضع الأرملة فى سيوة ) وأخرى ترتبط بالمخيال الميثولوجى (القنطور) وتحويل المعادن الى ذهب.
واللغة تتمدد وترتخى وتنقبض..عضوياً ، فنحن أمام نص أو بالأحرى رواية ذات " لياقة "عالية. اللغة تكتسب البطء عندما تقرر الكاتبة أن لا بديل عنه فى سطر أو جملة ما ثم تتواتر تبدو كأنما تنثرنا بمياه جوفية منعشة تسيل أو تحسم وتتوقف ، تؤخر أفعالها كيفما تشاء أو تؤخر الأوصاف وكلها تدعم التجديد فتجعل القص ينتقل بخفة وليونة ليس فقط على ألسنة الشخوص إنما كذلك فى صوت الراوى (الذى يتغير كما قلنا ) فى "قفلات" أو نهايات الفقرات وفصول الكتاب.
الليونة هى الإنجاز الأعظم لهذا العمل مع كل عناصر نجاحه الأخرى التى تملكها وتمنحنا إياها الكاتبة فى صورة قص مارسته بحب. وهناك تلك الرغبة المتحرقة الضارية فى عمق ليل ، عمق الكاتبة ، أعماق أكثرنا ، فى الصيرورة الى عدم . الكلمة محتفى بها فى الرواية ، تشوبها فرحة الأمانى المستحيلة . التوق لأن تكون غير مرئية " لكن بحضور رجل يحتويها وستقايض كل شئ بظمئها". فنعطش أكثر.
هناك حس ملحمى ينضح ويرشح من مناطق وكهارب متنوعة طوال القص وذلك فى النص الداكن بالبونت العريض الذى يخترق النص الذى قلت أننى اخترت اعتباره الأصلى ، ليس قط بتداعيات غياث أحد اخوة ليل بل فى فجاءة التقاطع مع النص أو المتن الذى رأيت فيه نصا مركزيا ، وربما لتسرب معلومات أخرى فى النص الثانى " الهامش " ما يحقق هذا التكامل الصوتى والجمالى حتى يكون لانحراف الأسلوب أو بالأحرى لغة القص علامة فارقة فى الإيحاء بالتحول وفى الإيقاع السردى نفسه. وإن كان هناك من فائدة لهذا فهو بالحتم يؤمن النص ككل من الضجر ، يعطى تلوينات وتنويعات ، يدفع بحركية أخرى من الداخل تدعم حيوية النص الذى اعتبرته أنا الأصلى أو الأول ( ربما لأن المفتتح مكتوب بنفس الطريقة ) وتسربل هذا وذاك بذلك النبر الماركيزى ، بخرافية ما ، بشطحة خفيفة من اللامعقول الجذاب الذى تحرص الكاتبة على تقييده لأن هدفها ليس كتابة رواية عجائبية أو غرائبية بحسب تعريفات تودورف أو وفق صيغة إدجار آلان بو للمرعب مثلا.
نلمح هذه الروح التى يدعمها تشويق المفتتح منذ الطريقة التى يصوغ بها النص هروب ليل من غرفة جارية شيخ طائفة الكحكيين ، ولدى الكلام عن الخزاف زوج سنانية تنقلنا فجأة الى الجزء الداكن بالخط الكبير ، النص الآخر فتقول :" أعرف اسما لذلك الخزاف الشاب الذى ظل شاباً الى الأبد ، ففى المخطوط لم يمنحه الترجمان اسماً ".
كيف ظل شاباً الى الأبد ، لا بد أن نسأل أنفسنا .لعلها إلماحة كارثية ما . أم هو إغراء اللا معروف ولو بدون كارثة ؟
أمامنا صوت نذيرى أكبر من صوت راوٍ أو راوية هنا . إنه أكثر من مجرد صوت منزوع التسمية والتلبيس .. إنه أحيانا يكرس لغموض سردى أو لحالة نفسية تبدو وكأن هدفها أن تحشدنا لخوف أو رهبة أو توجس ما . لا يجب أن يفارقنا التوجس فى حضور ذلك الصوت وعدم تحديدنا للمتحدث – أحيانا- هو الذى فى سياق سردى معين يجعل الهدوء يفارقنا.
فيتلقفنا الواقع الذى تنسجه الكاتبة لنأخذ شهقة نَفَس ونرتاح ، لنسترد اطمئناننا . وهناك ما يدعم ذلك الحس الملحمى وهو صيغة استباق الزمن الذى يتناول حدث أو موقف يخص شخصية ما كأن يتم إعطاءنا لمحة عن شئ مخفى وشيك الحدوث ثم يحدث فعلا ، لكن ما بين التنويه الجزئى عنه أو الإيماء إليه وحدوثه أو وقوعه فعلاً نظل نحن أسرى نترقب الحالة التى يخلقها النص فينا – انتظار المجهول.
ولا تسمح الكاتبة لهذا بأن يصيب الرواية بشرود أسلوبى أو ب "أبوكاليبتيكية "معلقة إنما تفّعل طاقة الموروث الشعبى بتفاصيل اليوميات والمشاكسات النسوية ولو العابرة مع البائعات فى السوق أو فى الحوارات بين الأختين ليل وسنانية بما يسطع بالمزيد من المعلومات التى تمنحنا إياها فنأخذها بامتنان بعدما أوجدته من توازن يأتينا أوقاتا عبر مساحة من السخرية الهادئة تحيلنا على ضخامة لا تصدق – ضخامة ماركيزية- مثلما تقول :"فى الجهة الأخرى من الخرابة ، قامت كوديات الزار بطقوس سحرية أمام عدد من الخراف قبل نحرها ، وإعدادها شهية لآخر حفل شواء يشهده العالم".
بمثل هذا التبنى لقناعة من كانوا ينتظرون القيامة من شخصياتها نتسامح ونتقمص قناعاتهم ونكف عن أن نضحك عليهم.
ولعل الحس الملحمى هذا يتفرق كذلك عبر نبوءات صغيرة تزخر بها التوقعات فثمة ما هو ملحمى بالقطع فى لهجة ذلك الراهب ، قرب نهاية الرواية ، وهو يتحدث مع أهل آمونيت ( فى زمن مرن مفتوح على الماضى والمستقبل من نقطة الحاضر لكنه ينتهى بالحادثة التى تكاد تبدأ بها الرواية وهى مقتل المطراوى قبل واقعة مقتل الترجمان والمفزوع مثلا فى النهاية ) . وقتها يقول الراهب للأم :" ستنجبين النائحة ، الشافية ، المحبة ، الهائمة ،والعارفة". فلما تظن الأم أنها ستنجب خمس بنات لا يرد . يطلب إليها الاستجابة لتجلى العذراء ثم يقول كأنه طالب بركة لا مانح بركة :" قولى للنائحة أن تزورنا ".
الوظيفة الأخرى التى يقوم بها هذا النص الثانى كما أسميته هى إمداد الرواية بروافد نفسية ، تشعبات على المصب وإذ تختار الكاتبة أن تكون وثيقة زواج ليل من المهتدى الجريكو ضمن هذا الجزء – كل الوثيقة بصيغتها - فإنها تقترح مصداقية تاريخية إضافية لأجواء الرواية ككل ، كما تضمن تفعيل طبقة داعمة من التحليل النفسى طوال الوقت – بجانب ما يحتويه المتن- لتفويت الإحساس بالتكتل كما قلنا أو بالترهل ، عبر تخليق قراءتين باستمرار وعلى نحو يدلك على تحكم الكاتبة فى أدواتها لتحقيق استجابة قارئها بل وحرصها على تشكيل تلك الاستجابة وصياغة عناصرها.
" من أجل خزف يهزم الأيام". أمنية الخزاف وطموح الكاتبة فى كتابة تثق فى عنفوانها ، الهاجس المكنون القديم إذن فى التعامل مع الهزيمة الحتمية لنا بالموت …أن تترك علامة ، أثراً ؟
ولم لا ؟..أمنية العدم لا تعنى أبداً أننا لا نتسق مع الخوف من الموت ، مع رفضه . إن عدم حدوثه-بعد- أو كل يوم يمر ونحن مازلنا أحياء لا يعنى سوى حالة مؤجلة نتغافل عنها بشيء نتمنى لو يصرح قاتلنا أو يجابهه.. فالحتمية ذاتها هزيمة مستمرة ، قبل البدء . ثم أن نكون محكومين بالزوال ونخترع لأنفسنا استئنافاً ربما بالإيمان.
لكن لأن الحياة هكذا ، فالعالم كما نعرف عن الترجمان سليم العينين ، الذى ربط إحداهما مع ذلك بعصابة "لا يستحق أن ينظر إليه بالعينين كليتهما"
الذى يجعل التعب سيداً كثرة الاهتمام . لذا يجرب الخزّاف" ألا يهتم " و يسوق النص شوق الفرق المختلفة لانتظار القيامة
وهناك الحكمة الهادئة دائما فى هذه الرواية التى تنتصر فيها الشخصيات لحقيقتها .مثل تأمل ليل لفكرة رفع طاجن البامية على الكانون و كيف أن البدن يفرض إشباع حاجاته من جوع أو عطش أو يستجيب لإلحاح التبول حتى والقيامة وشيكة .الفكرة مطروحة فى تساؤل لا تقرير
ثم.. ثم بنفس الهدوء (والرواية جياشة موّارة) تطرح نجوى شعبان مقارنة بكاد يكون مهموساً بها فى القص و المفزوع يروى جملتين بسيطتين لدايه ومغسّلة إذ تقول الداية " نأتى الى الدنيا بقبضات مغلقة، كأنما هو تحدى الغرير .وردت المغسّلة : نرحل عنها بأصابع مفرودة مستسلمة"
ثم تنتهى الرواية بدكنة الخط الكبير لذلك النص الآخر فى صوت أشبه بجوقة إغريقية على نحو يحسم تلك الملحمية والزمانية التى على الرواية منذ المفتتح "ولقرابة قرن من الزمان , ظل يتردد فى دمياط اسم المقدسة آمونيت التى لم تحج الى القدس أبداً…. وهناك فى العمق السودان "وفى مقابل ذلك نسمع فى المفتتح صوت الزمن " لكن ظل الناس يشيرون الى التبة بحذاء النهر حيث كانت أبواب قصر المطراوى..حتى نهاية القرن السادس عشر
استغرق الأمر مائتى عام..هكذا وبتسويف شديد امحى من الذاكرة الناس وببطء النسيان
اقتضى النسيان أجيالاً
فى المدينة العتيقة ذات الثغرين".
وهكذا نكون جاهزين لرفع الستار.