نشرت في نزوى العمانية العدد 69 - 8-2-2012
إن عملية إدراك الحرية ووعيها, هي الخطوة الأولى والأساسية في الأخلاقية السارترية, وسارتر نفسه يقول «العدم يسكن الوجود كما تسكن الدودة قلب التفاحة» وأيضا تقوم فلسفة «مابعد الحداثة» على نقد كل ماهو حديث, بهدف استعادة ما هو غائب، ولكن هل محاولة الاستعادة من جانب «ما بعد الحداثة» تتعارض مع الوجود والعدم, الذي أشار إليه سارتر،أم أن الأمر بين الفلسفتين يلخص المحاولة للبحث عن كل ما هو إنساني, والإتيان منه بقيمة عليا, تفوق كون الفرد مجرد كائن حي. بهذا المدخل المتناقض والمتوافق في آن, يغوص بنا الشاعر «عزمى عبد الوهاب» - في ديوانه الجديد «شخص جدير بالكراهية» الصادر عن «دار النهضة العربية» 2011 - عبر تسع قصائد, تمثل متتالية عدمية, بهدف صنع وجود عصي على التحقق، والديوان في هذا الإطار ملغز وحاد ومربك, بداية من الافتتاحية المنقولة عن «دستويفسكي»: «الحياة فوق الأربعين أمر بالغ الحرج» وانتهاء بهذا الرصد لسيرة إنسان, قبل كونه شاعرا, من خلال علاقة بامرأة, تنضج على مهل, بدءا من القصيدة الأولى في الديوان, وصولا إلى القصيدة التاسعة. تتضمن تلك العلاقة حالة من العبثية والواقعية, وفي الوقت ذاته تتمثل لحظة الوجود فى عدمية الشاعر/الإنسان المطلقة، إنها علاقة أشبه بـ«الفلاش» الطويل بلغة السينما، تبدأ من لحظة التلاقي والحذف وصولا إلى لحظة الاتحاد, التي تجعل كلا منهما قادرا على استرجاع ذاتيته وإنسانيته, ومن ثم وجوده فى ظل مجتمع يحيط الشاعر بقيود ومتغيرات, مجتمع كما يقول : «البلاد التي انسحبت من البهجة ضيعت سكة الرجوع». الديوان رحلة رجل وامرأة في غياهب سنوات مضت, كان كل واحد منهما يبحث عن الآخر, أو عن شبيه له حتى وجده, وهو سيرة ذاتيه لشاعر تجاوز الأربعين, ووقع في دوائر الحرج، كما لخصت حالته جملة «دستويفسكي» التي تصدرت الديوان, رجل له عمل ومنزل، وله أيضا حبيبة, هي الخلاص من كل ما يحيط به من روتين أزلي, جعله ترسا في آلة, عليه إكمال دائرة الحركة فيها, دون التركيز أو مجرد التفكير فيما يحب أو يكره, دون التفكير في وجوده أو عدمه, ودون البحث عن إنسانيته المعطلة. يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة عنوانها «تنام الأشياء كما تركناها بالأمس», ويقدمها كـ«الماستر سين» فهي قصيدة بها عقدة الديوان, وبها تتفرع كل المشاهد/القصائد الأخرى، قصيدة بها بذور ستنبت فى القصائد التالية، فنجد التكرار المقصود, الذي سيتضح بصورة أكبر في «سيرة ذاتية لشخص جدير بالكراهية» تكرار- برغم وضوح عنوان القصيدة - يؤكد أن اليوم كما الأمس، تكرار يزحف على حافة العدمية بخبث, من أجل الوصول إلى وجودية الشاعر المربكة. ونجد أيضا الخيانة, التي يؤكد عليها الشاعر حين يقول: «لكن الخيانة لا تأتي من الغرباء» ثم بلعبة التكرار ذاتها يؤكد في مقطع آخر: «الغرباء طيبون تأتيهم الخيانة من حائط استندت ظهورهم إليه ذات ليلة حمقاء فسقطوا قبل الوصول إلى شباك امرأة» ثم نجد الضياع مسيطرا على القصيدة, ومن ثم على قصائد الديوان, وكأنه «الثيمة» الرئيسية لشخص جدير بالكراهية, فعبر أكثر من قصيدة, وبلعبة التكرار التي أشرنا إليها يقول الشاعر: «كان نداء غامض، يسحبه من البيت القديم، أشجار الحديقة لا تمنح الرجل السكينة» وفي موضع آخر : «تلك هي المأساة أن تنام الأشياء كما تركناها بالأمس» وفي قصائد أخرى : «إنه بائس, لاجديد لديه» و: «سيظل يبكي أربعين عاما من الحروب الصغيرة» و: «رجل يحصي خيباته الدائمة, بالجدية التي يحصي بها أعمدة الكهرباء، وهي تمرق من نافذة قطار، فيخطئ فى العد». وهناك أيضا بالديوان حالة الترمل، تلك الحالة التي نطلقها على من فقد زوجته, أو من فقدت زوجها، لكن الشاعر هنا يحيلنا على ترمل من نوع آخر, هو ترمل الكتابة ذاتها وترمل ذات الشاعر، عبر فقدها لعلاقتها الطبيعية مع ذوات أخرى, كالتحقق والحب والتجديد، وحالة الترمل هذه كانت بالوضوح المعلن في قصيدته «بيت تسكنه امرأة وحيدة» فيقول : تذكر «زوربا» في حديثه عن أرملة القرية, وشتائمه للرجال الذين تركوا سريرها باردا» و«رجل فقير، امرأة وحيدة، هكذا كتب عليهما, أن يعيدا أسطورة الخلق الأول، من غير أن يلتقيا» كما أن هذه الحالة تجسدت بين السطور في قصائد الديوان على سبيل المثال قصيدة «حبيبتي تزوجت أمس» حيث يقول : «ويا أيها الشاعر الحداثي قصائدك لن توقف المجاعة التي تغتال الفقراء فى العشوائيات». ولعل الاحتفاء بعلاقة الرجل بالمرأة فى قصيدة «حتى تري آثار زفرتك الأخيرة» جاء نقيضا لقصيدة «حوار لم يكتمل», غير أن هاتين القصيدتين تمثلان الخلاص لذات الشاعر، برغم رصده صعوبات تلك العلاقة, ومحاولة جعلها الحبل السري, الذي يصله بالوجود, سعيا للخلاص من العدم : «ما الفرق بين العالم داخل الحديقة والعالم خارج الحديقة؟» وتكون الإجابة غير المتوقعة: «تماما كالفارق بين يدى فى يدك ويدك في جيبك» أو : «امنحيني امرأتي التي تخبئينها في الملابس السوداء» ثم بعودة للعبة التكرار يقول أيضا: «حتى أعود بريئا، فقط أريد أن تمنحيني امرأة تخبئينها في الملابس السوداء». ديوان «شخص جدير بالكراهية» لعزمي عبد الوهاب هو رحلة في ماضي, ممتد عبر أربعة عقود, هي عمر الشاعر تقريبا, ومن خلال علاقة بين رجل وامرأة, رجل: «يصحو يوميا فى الظهيرة يمسح عن وجهه ست ساعات من النوم المتقطع ثم يبقى على طرف السرير مغمض العينين يخطو نحو المرآة لا يرى أحدا على سطحها المصقول» وامرأة تقول في الديوان : «لو كنت امرأة داهية لما ناقشتك في هذا لكنني طفلة من مصلحة الجسد ألا نتناقش من مصلحة الحب أن يحتدم النقاش». «شخص جدير بالكراهية» ديوان يتجاوز بنية النص, ليشرح أزمة الذات, إنه ديوان أشبه بجملة واحدة هي : «تنام الأشياء كما تركناها بالأمس» ثم يعاد شرحها غير مرة, من خلال تسع قصائد هي مجموع ديوان «شخص جدير بالكراهية» لعزمي عبد الوهاب.