مدينتي تسكن على حافة القلوب ، تزدحم بكل التعاسات ، والأفراح ، وحالات العشق ، والفتن ، والأفكار. بكل هذا الجحيم ، ولا ينبعث صوت البحر الهادئ الصافي ؛ إنه صافِ لأنه يحتضن كل الكوارث بأمواج متدفقة. تاركًا للشاطئ ذاكراته العطرة. أما الناس في بلدي ؛ فهم يعشقون حكاوي المصائب ، وGrass (المخدرات) ، والنساء. التي يتهامسون بها في الصباح ؛ حيث تنسكب ككوب الماء مع الإفطار ، ورشفات الشاي ، ودخان السجائر. أما في المساء يلوكون فراغهم واكتئابهم على القهاوي والنواصي . إنها تمارين للعيش من أجل التكيف مع الحياة بأية طريقة. حتى لو كان عمدًا مع سبق الإصرار والترصد .
إذا ركبت طائرة ، ومر جناحها سهوًا على مدينتي ، ونظرت عن غير قصد . أول شئ سيجول بخاطرك أن تطلق عليها اسم " عابر سبيل " ، لقربها الشديد من القاهرة. تتركز حيويتها في شارعين : الرياضي ، والبحر ...
عند الساعات الأولى من النهار يتجمع الرجال على قهاوي : عمال مصر، والزجاج ، والعهد القديم. خاصة العمال الذين يعملون باليومية ، في انتظار عربة تنقلهم لمناطق العمل ، وتحتويني لغة التأمل عند محطة القطار. أروع ما أنتمي إليه بجسدي وروحي ، إنه المكان الوحيد في نظري ؛ الذي يمنحني بعض التعاطف لهذه البلدة المسكينة.
في فترة الصباح الممتدة إلى الرابعة عصرًا ، تعج المحطة بالطلبة الآتون من المراكز ، والقرى ، والنجوع. للذهاب إلى مختلف المدارس من : الثانوي العام ، والصناعية ، والتجارية ، والجامعة. أغلب قاطني بندر المحافظة يعملون في مهنة التدريس أو الوظائف الإدارية ، لانتشار المصالح الحكومية ، والمدارس ، ولا يوجد بها مصانع كثيرة ، ولا مسرح دائم ، ولا سينما ، غير سينما درجة ثالثة لأعمار الصغار ، أما التجار، وأصحاب الشركات أصولهم ليست من هذه المدينة ، إنما من الصعيد الجواني ، فالمدينة خليط من الصعايدة والفلاحين ، ويتفاخر الصعيدي منهم بهذا أثناء حواره محذرًا :
ـ خلي بالك أنا من قنا ...
ـ خلي بالك أنا من أسيوط ...
إذا أمعنت النظر لدقائق ، وأدرت رأسك يمينًا وشمالاً ستجد أن البلدة يغلقها ويفتحها خمس مداخل أساسية : الطريق السريع ، والصحرواي ، والزراعي، ويوجد آخرين يمر القطار من خلالهما على شريط السكة الحديد الممتد باتجاهين قبلي وبحري ، وإذا توقف فجأة ، وخاصة قطار البضائع ، يشل حركة المرور والناس تمامًا .. وأحيانا لا تقف فيها بعض القطارات بعينها ، ويبقى سؤال لراكب متطفل فضولي ألح على مخيلته .
ـ بلد ايه دي ؟!
أرد بروح ابنتها البريئة من ذنبها :
ـ مدينة بني سويف... التي هي كعابر سبيل .
تقول ساعة المحطة ، أن الساعة الحادية عشرة مساءً. متوسط كسر الانتعاش والضوضاء في ليالي الشتاء القاسية، ويسيطر صمت يُمزق القلوب . عندئذ ألجا للتمشية على الكوبري لأرى مجرى النيل _ أكبر اتساع له في تلك البلدة العابرة _ المسمى مجازًا شارع البحر. أراه معتمًا ، حزينًا ، رافضًا ورد النيل ؛ الذي يعوق جريانه ، ويُعاديه بنباتات شيطانية . كنت أفعل هذا بشغف لكي استحم به من كل غباءات العالم حولي ؛ حتى يهدأ عقلي ، ويمنحني تلذذ خاص عندما أقوم بحك تفاريك تعاريج جسدي المشتاقة إلى مياء بحر حقيقي. وأشعر داخله أنني امرأة متوحشة قادرة على فعل كل شئ.
فجأة أنتعش في إحدى صباحاتي الباهتة. أضحك ، وأتحدث ، وأكل ببلاهة ، وتكون نيراني خامدة ، وتياراتي مكبوحة ، لذلك رأيت أن يجب أن أدرب نفسي على اكتساب ميزة الانفصال عن عالم الضجيج ، ويصبح هو طبيب نفسي المتعبة ، لأدرك به أن التعب مع الوقت سيصبح مجرد زيف ، وسراب ، وسيتبخر مع إجراءات تبديده بمدى صمتي وقوتي ، ويصبح بوسعه أن يتخذ الإجراءات اللازمة ليتلاشى هذا الحزن والألم .
وليكن ما سأفعله الآن ؛ أن أضغط على زر تشغيل الكاسيت ( الوكمان ). لأنصت لضجيجي الخاص.