عاطف محمد عبد المجيد القدس العربي سبتمبر 2013
يبدو طبيعياً أن يتناول مبدع سيرته الذاتية ممتطياً ظهر رواية يلعب فيها الحكي / السرد النثري الذي لا يعترض مجراه أي شيء دورَ البطل..غير أن الجديد ـ حسب رؤيتي ـ هو أن يكتب شاعر سيرته الذاتية / نفسه هو في عدة قصائد تُكوِّن معاً ديواناً شعرياً / ذاتياً. هذا ـ بالضبط ـ ما فعله عزمي عبد الوهاب في ديوانه الذي جعل اسمه: (شخص جدير بالكراهية)..والذي صدر عن دار النهضة العربية ببيروت..ويضم بين غلافيه تسع قصائد طويلة يلعب السرد الذاتي فيها بطلاً محورياً ـ من دون أن يسقط الشاعراً في هوة تداعي السرد أو سرد التداعي..حتى أنه لا يمكن حذف سطر شعري أو حتى كلمة من سطر من دون أن تُخِلَّ بالمعنى على الرغم من طول القصائد ـ متخذاً من تقنية الراوي العليم متكئاً لها. ومن اللافت أن الشاعر ـ في ديوانه هذا ـ يفيد من النص القرآني وكذلك الشعراء الكبار السابقين على غير عادة شعراء قصيدة النثر الذين يحلو لهم قطع الصلة بكل ما هو سابق عليهم. يستهل عبد الوهاب ديوانه بمقولة لديستويفسكي يقول نَصُّها:الحياة فوق الأربعين أمر بالغ الحرج.وكذلك تبدو الكتابة عن شخص يكتب نفسه أمراً بالغ الحرج..لكنني سأحاول من خلال ما تمتلكه ذائقتي من أدوات متواضعة أن أغوص إلى أعماق هذه الكتابة علني أعثر على تأويل لها وإن اقترب من تخومها من بعيد. لا يكتب عزمي عبد الوهاب نفسه في قصيدته (سيرة ذاتية لشخص جدير بالكراهية) والتي أخذ الديوان ثلاثة أخماس اسمها اسما له..بل هو يبعثر روحه وجثته التي ما زالت تنبض بالحياة على بقية قصائد الديوان..ربما ـ فلنقل ـ بالتساوي. في قصيدته (تنام الأشياء كما تركناها بالأمس) يقول الشاعر: انظري الصورة ناقصة فيها رجل ابيض شعره في الظلام فترك السرير وعانق البرد… هنا يرى الشاعر نفسه وقد ابيض شعره وابيضاض الشعر يوحي إليه بالكِبَر وربما بالدنو من حاجز الحياة الأخير..وقد يكون هذا هو الجزء الناقص من الصورة التي لم تكتمل أو هو الظلام الذي يسدل أغطيته على ضوء الحياة وعنفوانها. كذلك يلفت الشاعر نظرنا في قصيدته هذه باستخدامه لمفردات وتراكيب تحمل ـ من قريب ومن بعيد ـ معنى الموت / الرحيل مشيرة إلى حياة أخرى يكتنفها الغموض والالتباس:غيمة..سماء سوداء..النفس الأخير..ضيعت سكة الرجوع..المأساة..سماء تبكي..الأقدام الغليظة..ناديت على من ماتوا..روحاً بيضاء. أما في قصيدته (حتى ترى آثار زفرتك الأخيرة)..فيفضح الشاعر نفسه مُقصياً جموع الرقباء ـ داخلياً وخارجياً ـ بغية أن يمارس في هدوء فعل البوح والفضفضة حتى يزيح عن صدره جبلاً ثقيلاً من الوجع العشقي..هنا يرفع الستار عن احتياجه لامرأة / أخرى تأخذه إلى صدرها عارية إلا منه حتى يصيرا واحداً ولا يقبلان القسمة على غيرهما.إنه يكشف عن حاجته لأنثى تكمله في ليلة حمراء تليق بشاعر صعلوك وبامرأة صورها الله في أحسن تقويم.إنه يحلم بها واثقاً من عودتها حتى في غيابها: حتى وأنت غائبة كَفِّي تحدثني بأنك عائدة! كذلك تُعدّد الذات الشاعرة خيباتها التي لحقت بها وذلك في قصيدة (بيت تسكنه امرأة وحيدة): رجل يحصي خيباته الدائمة بالجدية التي يحصي بها أعمدة الكهرباء وهي تمرق من نافذة قطار فيخطىء في العد ليعود إلى البيت بخيبة جديدة. تُرى ما هو مصدر كل تلك الخيبات؟أهو الشاعر نفسه بما يمتلك من سمات؟أم أنها خيبات خارجية أصابته في مقتل دون أن تكون له يد فيها؟: له بيت لا يريد العودة إليه. قد يكون البيت هو مُصَدِّر تلك الخيبات وقد يكون هو لأنه فقط: لا يملك حكمة أن يدير حرباً على جبهتين. ثم تزداد حياة الشاعر مأساة ويظل يدور في فلك حرمانه ممن يحب..حرمانه من امرأة يود أن تقاسمه حياته إذ تكتب عليهما الأقدار ألا يلتقيا: رجل فقير امرأة وحيدة هكذا كتب عليهما أن يعيدا أسطورة الخلق الأولى من غير أن يلتقيا على جبل أو حتى في خلاء! وهل ثمة مأساة أخرى تتفوق أو تتعدى حدودها حدود مأساة عدم التقاء حبيبين. أما قصيدته (حبيبتي تزوجت أمس) فتحمل دعوة للوقوف دقيقة حداد..إذ يدعو الشاعر /رفاق المهنة..الأدباء الذين يشربون البيرة في مقهى الحرية ويحملون على أكتافهم القضايا الكبرى في زهرة البستان ويحبون أتيليه القاهرة يوم الثلاثاء.. يدعوهم ليقفوا دقيقة حداداً لأن حبيبته تزوجت أمس..وقد اكتملت بزواجها حالة الفقد: حبيبتي تزوجت اغتصبها زوجها أمس غير أن استعادة ما فُقد لابد وأن تتم بحدوث ثورة وهذا ما يشير إليه من بعيد قائلاً: حبيبتي تزوجت أمس وأنت مشغول بالثورة التي ستشعل ميدان التحرير؟! هل يجوز لناهنا أن نرى أن زواج حبيبته / ضياعها قد يكون أهم لديه من اندلاع ثورة أخرى تُحْدِثُ ما لا يُتوقع حدوثه!! ربما لأن ضياع الحبيبة وزواجها من غيره مسألة تمسه وحده..أما الثورة الأخرى..فما علاقته بها وما الذي سيجنيه منها. ثم يزداد الشاعر صراحة في قصيدته (محاولة للكتابة عن أرملة صغيرة) وبعد جلوسه أعلى كرسي الاعتراف بعد رسوبه في كل امتحانات الإناث تقريباً: من الواضح أنني إنسان فاشل لا يجيد التعامل مع النساء فيدافع عن نفسه ببراءة ذئب كأن يكتب عن تبدلات سيدة وحيدة غير أن هذا الذئب البريء الذي يبحث عن بدائل لقصيدة عن امرأة وحيدة: لا يزال يصنع الفخاخ لاصطياد أحلام باتت عصية على المجيء! وهكذا يظهر جلياً تعطش الذات الشاعرة ـ شعرياً وإنسانياً ـ إلى علاقة أنثوية تكون الأنثى فيها الفاعل الذي يفعل بمفعوله ما لم ولا ولن يفعله سواه من متع حسية وروحية تتوق الروح إليها ويعيش الجسد يحلم بها كل حين. وبعد أن يلملم الشاعر أشلاءه التي بعثرها في متون قصائده الأخرى وهوامشها يضخها مرة واحدة في قصيدته (سيرة ذاتية لشخص جدير بالكراهية)..وهي القصيدة التي يبث فيها الشاعر نفسه كاتباً إياها وراسماً صورتها كما هي من دون أية رتوش أو مساحيق تجميلية / تشويهة..إنه يكتب نفسه بكل تفاصيلها ما خفى منها وما ظهر..فيها يذكر حروبه الصغيرة التي خاضها طيلة أربعين عاماً تحت نَيِّر الحياة الروتينية البحتة التي تولد كما هي من دون أي تغيير كل يوم حتى ليشعر أنه وكأنه على شفا موت مجاني: إنه بائس لا جديد لديه يصحو يومياً في الظهيرة إنه يبدو مكتفياً بذاته متصالحاً مع نفسه درجة أن يرى أن رأسه قد صارت عبئا على كتفيه.بعد كل هذا يتحرك بسأم نحو نهاية يزعجه التفكير فيها: يذهب إلى عمله بشكل آلي لا يفكر في شيء محدد ثم يصل الحال به إلى أن يوقن أنه لا معنى لما يفعله وأنه لا طموح لديه وظيفياً: اشتكى لصديقته إحساسه باللاجدوى فصرخت:إنها القصيدة… اكتبها واسترح لكن ماذا بعد هذا؟: إنه يصحو وينام..يتكلم ويصمت..يلتقي وجوهاً ويودع أخرى..يتذكر وينسى..ياكل ويشرب كواجب وظيفي.. سأم..سأم..سأم إنها حياة نظراً لاتسامها بالروتينية المعتادة والمملة إضافة إلى أنها جاءت على غير هوى الشاعر إذ يفعل ما لا يريد ويريد ما لا يستطيع أن يُقْدِمَ على فعله تحت وطأة ظروف خارجية أخرى قد تحولت إلى هذا السام المميت.هذا السأم الذي يأتي مصحوباً بالحزن يجعل الشاعر يتذكر ويذكر قول الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور: يا صاحبي إني حزين طلع الصباح فما ابتسمتُ ولم يُنرْ وجهي الصباح هكذا يصور عبد الصبور بسطوره هذي الحالة التي وصل إليها عبد الوهاب..فهل كانا على علاقة؟!! ثم بعد ذلك يستطرد عبد الوهاب ذاكراً في قصيدته هذه أنه: إنسان سلبي اعتاد حياة مملة على مدار أربعين عاماً لا يحب المفاجآت حتى لو كانت سارة لكن ترى ما هي أزمة الشاعر الحقيقية؟ أزمته الحقيقية تتمثل في الإقامة لا في الترحال كما ترى صديقته..إنها في إيقاع حياته الرتيبالذي حرمه من شجاعة أن يمد يديه إليها.غير أن بيت القصيد في هذه القصيدة / السيرة هو هذه الأسطر الشعرية التي أكسبها التكثيف روعتها: أحياناً يراه الواحد شخصاً جديراً بالرثاء وضعوا حياته بين يديه وقالوا له:كن كما تشاء لكنه لم يكن واكتفى بالبكاء على أربعين عاماً تولت لكن هل انتهت الرحلة عند هذه الحارة المسدودة أم أن ثمة فرصة أخرى يمكن له من خلالها أن يعيد تفاصيل حياته التي ولت بشكل مختلف عما آلت إليه؟ :أمامه فرصة أخيرة لو أنه يجرؤ على إتيانها! لكن ولأن الجبن يكتم على أنفاسه ويدوس على عنقه فهو لا يجيد التصرف في حياته كما يريد ولهذا فسوف يظل يبكي أربعين عاماً من الحروب الصغيرة التي دخلها ربما على غير رضى منه: وحبيبة ضيعها تحت ذرائع تافهة مثل تناقضاته الخفية وثقافة آبائه الذين لم يعيشوا الحياة أصلاً! هنا لا أملك إلا أن أصفق بكل ما لدي من حواس مبدياً إعجابي ودهشتي ومتعتي بما فعله عزمي عبد الوهاب في هذه القصيدة / الأنا الفعلية لا التخييلية والتي ربما تكون في حالة تماس مع حيوات أخرى لآخرين كُثُر قد يكونون قد عاشوا حياتهم كبرو’ة لحياة عزمي عبد الوهاب نفسها مع قليل من الاختلاف في نوعية التفاصيل ذاتها.