تحتفي الأوساط الثقافية بذكرى رحيل الشاعر سيد حجاب الذي فارقنا في 25 يناير 2017. برز حجاب في الساحة الأدبية في وقت لمع فيه في القاهرة صوتان صاعدان: الأبنودي بعالم الصعيد الجواني، وأمل دنقل بدنيا المدينة القاسية. ظهر حجاب لأول مرة عندما قدمه صلاح جاهين في مجلة صباح الخير يوليو عام 1961، وحينذاك كتب جاهين يقدمه قائلا: " تذكروا هذا الاسم". وتذكر القراء الاسم طويلا حتى نشر حجاب ديوانه الأول " صياد وجنية" عام 1966 فاستقبلته الحركة الثقافية بدهشة وفرح، صوتا قادما من عالم آخر، بنغم آخر، ليس الصعيد الجواني ولا المدينة الحجرية. أشعل حجاب حكايات جديدة من بحيرة المنزلة والصيادين والنهر، وظلت عالقة في الأذهان قصيدته: " بلدنا بحيرة ومدنة .. وآلام عددنا "، وغيرها من قصائد حجاب. رافقته في الستينيات أحلام جيل واجه معضلة الانتماء للتجربة الناصرية والتمرد عليها في الوقت نفسه، الشعور بالانتصار مع حدس باطني بالانكسار. كان سيد يتجول ويزور الأصدقاء بمفرده، ويتردد على شقة الأبنودي في باب اللوق وحده، إلى أن جاء ذات يوم بصحبته سيدة رشيقة مهذبة لا يفارق الود ملامحها. كان سعيدا وهو يقدمها إلينا قائلا: " إيفلين". بدا علينا بوضوح أن ملامحها الأجنبية استرعت انتباهنا، فأردف ضاحكا: " سويسرية " !
جاءت إيفيلين من سويسرا إلى مصر عام 1965، وعشقت مصر وبقيت فيها إلى أن تعرفت إلى سيد حجاب فأورقت بينهما قصة حب جميلة. والرجل – ما بالك بالشاعر - حين يختار امرأة فإنه يختار نفسه ويستقر على صورته وحقيقته في شكل آخر، لأن امرأة الرجل هي الرجل ذاته، وكانت إيفيلين الوجه الآخر لسيد حجاب، الوجه الآخر لأحلام ذلك الجيل بالعدل والنماء والتطور، وقد حققت تلك السيدة المهذبة الكثير من أحلام الشاعر في قرية تونس النائية بالفيوم، وقضت هناك نحو نصف قرن بين الفلاحين البسطاء تعلم أبناء الفلاحين بدأب وحب كيف يحولون الطين إلى تحف وكيف يصنعون من الخزف أشكالا ساحرة. حسب وصيتها دفنت ايفلين في القرية نفسها حيث عاشت. في قصة ايفيلين كنت أرى سيد حجاب، وأطالع بحيرة المنزلة، وأحلام الصيادين. في أكتوبر 1966 حصدت واحدة من حملات الاعتقال مجموعة من أبرز المثقفين من بينهم صلاح عيسى، وابراهيم فتحي، والأبنودي، وجمال الغيطاني، ويحيي الطاهر عبد الله وكذلك سيد حجاب. كان سيد رهين المعتقل لكن نصفه الآخر، أي ايفلين، كانت حرة تلتقي بنا وتدعو لعمل شيء للافراج عن المحبوسين. تصادف بعد نحو ستة أشهر أن جاء الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إلى مصر بدعوة من جريدة الأهرام مارس 1967، وخطر لإيفلين أن تسلمه رسالة تنقل له قصة الاعتقال، وراهنت إيفلين على أن أجهزة الأمن التي ستطوق مؤتمر سارتر لن تنتبه إليها وهي تسلم الرسالة لسارتر لأنها أجنبية شكلا وحكيا. وقامت بذلك. بعدها استقبل جمال عبد الناصر الفيلسوف الشهير وحدثه سارتر في الموضوع، فاتخذ ناصر قرارا بالإفراج عنهم. في ما بعد نسبت السيدة عطيات الأبنودي( عوض) تسليم الرسالة لسارتر إلى نفسها، كذبا، وكان ذلك مستحيلا لأن الرقابة التي فرضت على مؤتمر سارتر لم تكن لتسمح لأي مصري بالاقتراب منه.
في قصة إيفيلن وحياتها التي وهبتها للفلاحين، كنت أرى الشاعر سيد حجاب، مرة وهو مقيد داخل المعتقل، ومرة وهو حر يتحرك خارجها في هيئة إيفلين. أتذكر سيد حجاب وعيون إيفلين، أتذكره بوجهيه، الشاعر والوردة، بحيرة المنزلة وقرية تونس، وأجده حاضرا وأكاد أسمع صوته وهو يردد من شعره : " الشمس فاكهة الشتا .. الحب فاكهة الربيع .. مين يشترى حكمة حياتي الميتة.. ويردني رضيع؟ ".