د. عدنان الظاهر صوت العراق ابريل 2016
وصلني كتاب الأستاذ حكيم نديم الداوودي وأنا في أسوا حال وأتعس ظرف. كنت فيه ولم أزل أجد صعوبة بالغة في الجلوس للكتابة وكيف أكتب ما لم أقرأ ؟ وعليه فأنا مُحرج أمامه وأمام صديقنا المشترك الدكتور زُهدي خورشيد الداوودي فبضله وصلني هذا الديوان. قصائد الأستاذ الشاعر والمحامي والفنان حكيم نديم تمثل عالماً خاصاً لا يفهمها كائنٌ من كان بل ويعجز أمامها من هم مثلي وأمثالي. بلى، سبق وأنْ تصديت لبعض كتب قصائد الشعر المنثور وكتبت نقداً عنها لكنها كانت مختلفة عن قصائد حكيم. بل ومختلفة جذرياً أعني كنت ـ على غرابتها وجدّيتها وكثرة ما فيها من ألغاز ـ قادراً على الخوض في غمارها وفك الكثير من رموزها والعويص من مفاتيحها. لذا كان في مقدوري فهم الكثير من معانيها وكشف المستور منها وتحليل ما تيسّر لي من مقدرة على الغوص وفحص ما بين وما وراء السطور والغايات. الآن أجد نفسي بإزاء مهمة أخرى مغايرة في المضامين والتفاصيل وأمام أشكال جديدة عليَّ من فنون وآليات قول الشعر والتفنن في صياغاته. نعم، أجد نفس أمام تجربة جديدة بالنسبة لي وأرى فيها تحديّاً لكل ما أعرف وكل ما عندي من قدرات على فهم ونقد وتحليل الشعر. هل أشعر لذلك بالعجز فأستسلم وأرفع الرايات البيض على سطح داري وأعتذر من الأستاذ حكيم نديم ؟ هل أجرّب حظي وأقبل المغامرة والسباحة في البحار المظلمة وهل ستحقق هذه المغامرة ولو الحد الأدنى من النجاح ؟ من يدري. فلأشمّر عن ساعدي كما وصف المتنبي " الخارجي " الذي أسرَ أبا وائل تغلب بن حمدان العِدوي عام 337 للهجرة ساخراً : يُشمِّرُ لِلُجِّ عن ساقه ويغمرهُ الموجُ في الساحلِ هذا هو واقع حالي اليوم لا حولَ عندي ولا قوّة ولا خيول ولا سيوف ولا قدرة على الجلوس الطويل أمام الكومبيوتر فما أفعل بي وبباقي عمري وكيف أواجه الأصدقاء والأحباب وقرّاء نصوصي ؟ لكني ها قد شمّرتُ للُج عن يدي ويراعي فهل يرحم الكومبيوتر فيتعاون معي ويُيسر أمري وأنا بمسيس الحاجة لمن يقف معي ويشد من أزري و ( يحلل عقدةً من لساني ). عزيزي الأستاذ حكيم : لمن أشكو حالي إذا لم أتوجه بشكواي لحضرة جنابكم ؟ أتوجه إليك محامياً تدافع عني وتدفع الضرر عني وتكشف ما أنا فيه من ضنى وشَجَن وليعاونك في ذلك أخونا دكتور زهدي. هل تسمح لي بالتصريح أني لا أستطيع نقد شعر لا أفهمه وأعجز عن سبر أغواره وخفاياه. فكيف أغامر وأحاول معالجة ما يشبه المستحيل ؟ أنا كما يعلم الجميع لستُ " دون كيخوت " صاحب السيف الخشبي يقاتل به طواحين الهواء. وعلى من يريد فهم شعرك أنْ يدوزنَ ذبذبات روحه لتنسجمَ مع ذبذبات روحك أو تتوافق معها أو تقع عليها عندذاك فقط تنفتحُ على قارئك وينفتح هذا عليك فيفك الألغاز الشعرية ويفهم المجازات ويرتاح لرفقتك عزيزي الأستاذ حكيم. أجل أستاذ حكيم، قرأت ما في كتابك من أشعار ووضعت علامات وإشارات وتعليقات لكني لم أجدها كافية للولوج في عالمك الشعري ولم أجدْ فيها ما يكفي من ضوء للدخول في دهاليز وسراديب الكتاب " زمن الجوى ". سأترك محاولات دخول هذا العالم المعقد والعويص وأحاول بدلاً من ذلك رصد ما في الكتاب من ملامح وظواهر لفتت نظري. لفتت نظري سلامة عربية الشاعر رغم أنه يجيد لغتين هما التركمانية والعربية بحكم الأصل والنشأة والتربية. فكيف تأتّى له ذلك ؟ ثم ميله لتوظيف مفردات نادرة أجاد اختيارها وصقلها وأعاد لها الحياة. كما لفت نظري ميل الشاعر الواضح لتوظيف السجع الرنيني وتلك موهبة لا يتمكن منها كل من ابتغاها. وقد طالما تمنيتُ لو جاءت تخطيطات ولوحات الديوان بالألوان بدل الأبيض والأسود فاللون يكشف سرائر الشاعر. ثمَّ جاءت القصائد خلواً من تواريخ كتابتها لذا يتعسر على القارئ متابعة خط ومسارات الشاعر للوقوف على مراحل تطور الفن الشعري لدى هذا الشاعر. لكن يبقى أمر واحد يُثير انتباه القارئ أعني سيطرة أجواء وطقوس الحزن والتغرب والوحدانية فبم نُفسر ذلك والشاعر يقيم في الدنمارك محاطاً بثلّة من الأصدقاء والمحبين ؟ أخيراً أثار تساؤلاتي أمر آخر هو خلو الكتاب من أي أثر للرومانس ومسائل الحب والغرام فهل وُلد الشاعر بدون قلب أم انتزعه ورماه للقطط السائبة ؟ نماذج من شعر الحزن والتشاؤم وبعض السوداوية والشعور الممض بالغربة والتوحد : نجودُ بماء الوجهِ النقي بالبسمة الحانية بمكنتنا نحتضن اليقينَ سيّان أنْ يكونَ عابرَ سبيل لا سريرَ لا أهلٌ لا عشير وقَدَرٌ بلا مصير .. لاحظ التسجيع الرنيني : لا سرير ... لا عشير .. بلا مصير. ثم يذكرني هذا المقطع بقوة بما قال المتنبي : بمَ التعلّلُ لا أهلٌ ولا وطنٌ ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سَكَنُ هناك " سرير " وهنا " سَكَن " وكلاهما يرمزان للزوجة التي يسكن الرجل إليها فتمنحه السكينة والأمان. ثم ورود اسم والد حكيم المرحوم " نديم " في شعر المتنبي فالشعراء يجاملون بعضهم البعض الآخر.... هيّا حكيم فردَّ للمتنبي جميله واذكره في شعرك القادم. ( من قصيدة ماء الصفحة 76 ) ومن قصيدة هلوسة / الصفحة 95 : في البريّة، وحيداً يتقاذفني التشرّد، ملاذي عُريي، وكتابٌ ما قرأته أبداً، نافذتي مُطلّة على جدب جنون، وشُفرة مِقصلة، وحزمة قصب، وكِسرة خبز يابس، ونغمة بكاء نشاز. وقال الشاعر في قصيدة " غُربة " الصفحة 102 : ما زلتُ أمسكُ بريشتي، لأرسمَ بدمِ غربتك ودمعك شططَ عويلي يقطع مسارَ شقائي من بدئهِ حتى آخر الشوط. قبل اختتام قراءتي لكتاب الأستاذ حكيم أود أنْ أقدمَ للقارئ الكريم نموذجاً آخرَ مغايراً وجدتُ فيه البهجة والأمل وبعض المسرّة والمفتاح السحري هو الوطن. من قصيدة " سيل " في الصفحة 44 : جدْ صبابتك درْ مع من تُحبُ في أقاصي الفرح إنك الآن في الوطن تحت رائحته ولك أهلٌ ودارٌ وأمل ووظيفة وهوايات وغدٌ أرقُّ من الحرير ...