تخيلوا كاتبا مغمورا في ورطة.. يود أن يكتب قصة قصيرة لا تفوح منها أية رائحة، ولو رائحة جواربه ، بعد أن يندس في فراشه دون أن يخلع حذاءه ، ويهاتف خراب دواخله صوت صديقه الخمسيني : تزوج .. ستموت كالبغل الذي لا يخلف سوى حبلا مشدودا إلى وتد صدئ .
***
صديقنا الكاتب لا يريد أن يكتب عن صراخ صامت في نظرات ناعسة ،وهو يداعب حلمة ثدي عاهرة أربعيينة ، وبصوت منكسر تهمس : " لا تعض" ! ولا أن يكتب عن تلك الفتاة التي تبصق على الأرض مزدرية محاولاته التودد إليها ... ولا أن يغرق سطوره في دموع طفله اليتيم .. قلبه !!
***
هل تكتب عن استيقاظك المبكر ، والشارع الخالي إلا من قطط تعبث بأكياس القمامة؟! هل تكتب عن ذهابك إلى العمل - صباحا - تحت جنح الظلام ، وعودتك إلى البيت مساء متلفعا بعباءة الظلام .. بوجه متجهم ولا تستعيد مرحك إلا بعد أن تسطع الشمس في كبد السماء ؟!
ألا يكفي أنك تكتب لأن علاقتك بالحياة – وبالنحو أيضا – ليست على مايرام ...؟!
***
يناير ...
موحشة لياليه ، قارس بردها ، وأمي تردد دوما أني على شفا الحمق ..لأني أهمل – بسبب البرد ربما - حلاقة شوك لحيتي ، و كالأطفال لا أبالي باتساخ ثيابي ، وتنهرني بنبرة رثاء مضمر:
- انقص من ذاك الموسطاج .. هو بحال ديال الستاتي*
في ظلمة زقاق ألمح قططا تتبادل وشوشات صامتة . وأهتف لنفسي:" طوبى لك أيتها القطط الضالة موسم تزاوجك ، كل يناير وأنتم في شبق " . يقترب ظلي من القطة ، تبتعد ماشية أمامي ، وهي تلتفت إلى عشاقها ، ويتمطط جرحي النازف في أعماقي الهشة .
***
أجدني أميا في فن مص رحيق الشفاه ...
- أين تعلمت .. ؟!
- من أفلام روتانا سينما .. !!
أعرف أنها قناة فضائية محظور مشاهدتها بالبيت إلا في غياب رب البيت المتدين في العمل .
يجن جنوني ، ألعن ذاكرتي البائسة : كيف لم أنتبه إلى أن (ع) زميلها الذي تحدثني عنه كثيرا باعتباره زميلها في العمل .. هو من تقدم لخطبتها ، فرفضه أخوها .. لأنه سكير وحشاش .. كما علم من أولاد الحلال .
" ياه ..! كل هذه المدة ولازالت ... ؟ !ألا يمكن أن تكون قد أغرمت به .. لا سيما، وأن حبنا لم يكن وليد النظرة الأولى ... كما في الأفلام الرومانسية ؟ !" .
***
أية تعاسة أن تطلب منك من تحب أن تنساها ... ؟ ! وقد ضاقت بنبشك المتواصل في قبر ماضيها .. !!
عزيز... قريبك الوحيد الذي تثق فيه ، ويعرف بعض تفاصيل علاقتكما الغرامية يؤكد لك أنه يستحيل أن تجد امرأة لم يضاجعها أحد .. كلنا نضاجع نساء بعضنا البعض قبل الزواج !!
هي تقسم بالملح والطعام أن (ع) لم يلمسها .. ونزعتي الشرقية جدا ترفض الارتباط الشرعي بامرأة لمسها رجل آخر !
و الأب الحاج الذي لا تفوته صلاة الفجر ذبح قلبك ، وهو يقسم ألا تدخل بيتكم أية (خانزة)**
***
أيمكن أن تتخلى عني فقط لأني أنفعل بسرعة ، وأتفوه بكلام نابي ؟ !
تبا!! حتى الحبوب المهدئة التي لا يمكن ابتياعها من الصيدلية إلا بعد التأكد من اسم وتوقيع الطبيب النفسي - لأن مثل هذه الأدوية تباع في السوق السوداء كأقراص للهلوسة - ألقيتها في سلة المهملات ، بعد أن صرت شبه مخدر بعد ثلاثة أسابيع وليس ثلاثة أشهر.. مدة العلاج.
***
في ظهيرة ذلك الصيف اللافح الذي لا ينسى ، أغرق في شرودي ، وانطوائي ، وصمتي الحزين مبللا بمطرالذكريات ..
رفاتي تحت صفيح البراكة ، وعقلي وقلبي هناك .. وحده " سعيد ولد الحوات " ينكئ جرحا نازفا بأغنيته: (خلاتني مريض وقاطع لكلام) ، وأصدقائي يضحكون مع مراهقات قرويات يأتين لجلب الماء من الأوراش القريبة .. أقف أمام باب البراكة ، تلوح لي عمارات حي النجد الذي لا يفصلنا عنه غير خلاء قائظ لمطار مهجورصار مرعى لقطعان مواشي قاطني الدواوير المجاورة ، بيد أن ديار المحبوبة صارت نائية جدا.. جدا ...
أتوجع وأخبئ دموعي لوحداتي المسائية .
***
القطة تلتفت إلى عشاقها في حنان آسر . تداهم ذاكرتي المتعبة قطة جيران ورش البناء بإحدى الحدائق الخلفية للفيلات المتقابلة بحي الجوهرة ، يأتينا مواء القطط الغزلي شبيها ببكاء رضيع ملحنا .. بعيدا عن الأعين .. طبعا .
ونسمع صوت امرأة ،وهي تنهر قطتها بسبب ضجتها الشبقية : " انتي مالكي مصداعانا" ..!!
تلعلع قهقهاتنا.. متخيلين أنها تغار منها .
***
تموء قطة ذلك المواء الشهواني المستغيث حين ...
نتبادل نظرات ذات معنى ..
الباطرون يحث العياشي أن يتحرك ، وهو يحمل قطع الوردي..
- تا تصب ***
- صافي ، بقاوليك غير لمشاش .
ونداري ضحكنا ..
***
يرى مصطفى قط الجار الأبكم ، يمشي بالقرب منا ، يرميه بحجر ، ينهاه أحدنا ألا يضرب القطط :
- أولاد الحرام ! لا يدعوني أنام ليلا .. أحدهم تسلل من تحت باب البراكة و باسني في الليل .
ألقي نظرة أخيرة على القطة ، وأنا أبتعد .. ورغم أنف حزني المغتصب طفولة القلب ، يندفع من أعماقي سيل من الضحكات ممزقة سكون الليل .
الجديدة – 28يناير 2007
هامش :
*: مغني مغربي شعبي معروف بشاربه الكث .
**: كريهة الرائحة . وهذه صفة ذات حمولة أخلاقية .
*** : تقال للقط لكي يبتعد . .