أحمد الواصل الرياض - قبراير 2007
اغتيال رومانسية موسيقى القرن العشرين!
إن كتابة سيرة شخصية فنية هي كتابة سيرة مجتمع، وقبل ذلك فإن أيَّ كتابة عن شخصية في فن الغناء والموسيقى لهي كتابة عن مجموعة تكون مجتمعاً صغيراً: الشاعر، والحنجرة، والملحن، فريق العمل من موزعين ومنفذين وعازفين، ومن ثم هي كتابة عن مجتمع كبير.
وما حاولت أن تقدمه رتيبة الحفني في كتابها الجديد عن محمد القصبجي ( 1892- 1966) الذي وضعته: محمد القصبجي الموسيقي العاشق، دار الشروق - 2006، كان أشبه بعملية تزوير لهذه السيرة الاجتماعية، دون أن نغفل الجانب المدرسي في التأليف، وهذا ما سنكشفه عندما نتحدث في هذه المقالة التي تكشف في الكتاب تحركه عبر عدَّة محاور :
1- إعادة تدوير أو سرقة كتابات سابقة عن محمد القصبجي سواء من كتب أو مقالات .
2- الانطلاق من أفكار مسبقة حول أبرز ملامح التجربة الغنائية والموسيقية للقصبجي .
3- إغفال التحليل الاجتماعي للدور الثقافي الذي تركه القصبجي .
عموماً، يحتوي الكتاب على أحد عشر فصلاً: أولها نشأة محمد القصبجي، وثانيها بداية حياته الفنية، وثالثها ألحان القصبجي للمسرح الغنائي، ورابعها لقاء القصبجي مع أم كلثوم، وخامسها ألحان القصبجي في القوالب الغنائية، وسادسها القصبجي وصوت أسمهان، وسابعها أسلوب القصبجي في التلحين، وثامنها لقاء القصبجي والشاعر أحمد رامي، وتاسعها حياة القصبجي الأسرية، وعاشرها قالوا عن القصبجي، وأخيرها أعمال القصبجي الغنائية .
وضعت المؤلفة مقدمة لتتحدَّث بها عن علاقة والدها محمود الحفني (رائد التربية الموسيقية في مصر) بمحمد القصبجي وتخلص منها إلى تعلمها على يده العزف على العود وتلقيها دراسة نظامية في المعهد العالي لمعلمات الموسيقى (كلية التربية الموسيقية، حالياً)، وإلى مشاركة القصبجي والدها الحفني ووالدتها الألمانية هواية استماع الموسيقى الأوروبية، وإشارتها إلى أن ذلك كان سبباً في ولادة لحن: يا طيور، الذي سجلته أسمهان 1939، والذي يعد تحولاً في المنتج الغنائي العربي خصوصاً، وربما الغناء المشرقي عموماً، وترى أن سبب تأليفها الكتاب شعورها بأنه لم يأخذ حقه من الإعلام، لا في حياته ولا في وفاته (وهذا ما فكرت في تحليله اجتماعياً)، واضعة مسبباً وسبباً ساذجين لأنه لم يغنِّ لكونه لم يملك صوتاً جميلاً (على أنه غنى عدة مرات في السينما والمسرح)، والسؤال: ما معيار الجمال الصوتي وتنتهي إلى أنه أيء: القصبجي، مدرسة شامخة استحدثت ثورة في عالم النغم تخرجت فيها أجيال من أهل الفن، وسنرى كيف كان الكتاب نفسه أول من يغمط هذه المدرسة حقها .
القصبجي السيرة المنتحلة
وإذا كنا قد قلنا السيرة الخاصة بمحمد القصبجي، فهي معروفة منذ أن وضع محمود كامل أحد أصدقائه كتاباً عنه نهاية الستينيات الميلادية من القرن الماضي، وصدر عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر (1971م) بعنوان: محمد القصبجي حياته وأعماله، وبما أن ذلك الكتاب كان سيرةً لحياته وأعماله، على أنه زخر بمعلومات حول علاقة محمد القصبجي مع بعض معاصريه من خلال مناظرات موسيقية، مثل: سيد درويش وزكريا أحمد إلا أنه روَّج تفسيراً مضلاً حول أمرين: توقف محمد القصبجي عن التلحين بعد عمله: رق الحبيب - 1940(وهذا كذب مكشوف) حيث استمر إلى ما قبل وفاته (1966م)، فقد كان يعد لحناً جديداً لفايزة أحمد بعد أن سجل لحناً دينياً لوردة: إياك نعبد ما حيينا، من شعر أحمد مخيمر، والأمر الثاني: أن علاقة عاطفية كانت سبب بقائه عواداً في فرقة أم كلثوم أو (وراء أم كلثوم) كما هو التعبير الدارج .
وإذا كان هناك من توقف، وهذا ما لم يكن بالأصل، فلا أعتقد أن سببه المباشر لا رفض أم كلثوم أعماله ولا سدنتها، ولا ذلك الرأي الجديد الذي طلع به أحد المحللين النفسيين ممن يرون سبب التوقف هو حال اكتئابه لفشل زيجاته الأربع وعقمه، ولا أبخِّر لرأي - ربما يداعب انحيازي وعصبيتي - بأنه تضامنٌ مع أسمهان، ولكن أسبابه متعددة سنكشفها لاحقاً .
وأما الأمر الآخر فإنني أشكِّك أن سبب بقائه عوَّاداً في فرقة أم كلثوم لعلاقة عاطفية تجمعه بأم كلثوم من طرفه وتتجاهلها، أولاً: لفارق العمر، وثانياً: عدم خلط الشأن الخاص بالعام، وثالثاً: زواج أم كلثوم من شريف باشا صبري وإنجابها (خال الملك فاروق وشقيق الملكة نظلي)، ورابعاً: السبب الذي لا يريد أن يجهر به أحد، وهو ذات السبب الذي يريد الكثيرون أن يحفظوه لسيرة عبد الحليم حافظ كي تبقى الذاكرة مشعة بالمعجبات هو السبب ذاته لتبقى سيرة أم كلثوم معمية بالمعجبين، ولكن لن يطول ذلك، فليس في الأمر فضيحة أو تشهير، ولكن ربما الصدمة يفيق منها السادرون والسادرات!
وما غاب عند محمود كامل، هو ما لا توقعناه منه، وإنما حاول القيام به بعض الباحثين والباحثات، لتحليل الدور الثقافي الكبير لفن محمد القصبجي، وهذا ما حاول أن يقدمه المايسترو سليم سحاب في مناسبة مرور تسعين عاماً على ولادته مقالة مجزأة نشرها في مجلة المصباح عنوانها: محمد القصبجي المجدد الخطير في الموسيقى العربية (1)، وتحدَّث فيها عن الأسلوب التلحيني ممثلاً بنماذج محللة موسيقياً، واجترح مصطلحاً نقدياً رائداً باعتباره مؤسس (السرد الموسيقي) من خلال تلحينه قالب المناجاة(2)، والكاتب والناقد اللبناني إلياس سحاب في مقالات قدمها منذ السبعينيات الميلادية حتى الآن، خاصة مقالته في الذكرى الثلاثين لوفاته: محمد القصبجي أستاذ محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان(3)، وضع فيها تلميحاً إلى عقلية التخلف الموسيقي عند أم كلثوم في عدم قبولها المغامرة الموسيقية والشوفينية المصرية بكره الأجانب سواء عرباً كانوا أو من غير العرب حيث ورد أن أم كلثوم تستخدم صفة تحقير للمطربات غير المصريات فيذكر عنها عبارة: البنت الشامية!، وأكد بكثير من الرهافة أن سبب توقف أم كلثوم عن الغناء لألحان القصبجي عقليته الحداثية ونجاحه المدوي مع أسمهان وليلى مراد ونور الهدى، والكاتب والناقد السوري صميم الشريف في كتابين: الأغنية العربية (1981م)، والسنباطي وجيل العمالقة (1988م)، قدم مقالتين في الكتاب الأول تضمنت الأولى التي بعنوان: القصبجي والمونولوج والغناء العربي الكلاسيكي، تحليلاً عن الابتكار الغنائي المهم في اجتراح فن المناجاة في تراث الموسيقى العربية وأثره على تطور أساليب الأداء الغنائية، والمقالة الثانية التي وضعها بعنوان: القصبجي وأسمهان والأصوات الجميلة، وتحدث فيها عن الدور الكبير الذي لعبه في حياة أسمهان والعكس كذلك من خلال مجمل أعمال، ولو كانت قليلة نسبياً إلا أن قيمتها الثقافية عالية في مستواها ودورها، وقدَّم في كتابه الثاني فصلاً عن حالة الغناء في الأربعينيات الميلادية مشيراً فيها إلى دور هام لعبه القصبجي وذاكراً دور أساتذته الموسيقيين، غير والده، كميل شمبير وجميل عويس السوريين اللذين كانا وراء تذليل مصاعب إدماج العلوم والتقنيات الموسيقية التي سعى القصبجي لوضعها في موسيقاه لأثرها اللاحق على الموسيقى العربية كذلك ما قدمه المؤرخ اللبناني فيكتور سحاب من خلال كتابه: السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة (1987م)، حيث احتوى على فصل كامل عن القصبجي لكونه أحد السبعة الكبار، وفيه مرور حول أبرز القضايا ومنها دوره في تحديث الموسيقى والغناء العربي، وأستاذيته لكثير من الملحنين (محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش) والحناجر (أسمهان وليلى مراد ونور الهدى)، وعلاقته بآلة العود أستاذاً وعازفاً سواء في عزف الأغاني أو التقاسيم، وهناك فصل: مع القصبجي، وضعته الباحثة والناقدة سهير عبد الفتاح في كتاب: حياة صوت أم كلثوم (1994م) عن محمد القصبجي وأشارت محللة تجربته الموسيقية التي تجاوزت الوسط المصري إلى حدود عربية، وربما أبعد من ذلك، وعززت هذا ما بين السطور بأن ألحانه لأم كلثوم كانت تفوق صوتها وتجاوزها، خاصة، إلى دوره الهام مع أسمهان حيث استطاعا معاً هز الأوساط الموسيقية المصرية بما قدماه .
وهم الداء الكلثومي
ومما يؤخذ على كثير من تلك الكتابات، باستثناء سليم سحاب والشريف وعبد الفتاح، هو الخوض في سبب توقف القصبجي عن التلحين منذ مطلع الأربعينيات، وإرجاع السبب إلى رفض أم كلثوم ألحانه، وتفسير سبب بقائه عواداً في فرقتها بأنه سبب عاطفي لحبه إياها!، ولكن تجنب الوقوع في مثل هذه المشكلة السهل تفنيدها هو ورود معطيات كثيرة يغفل عنها بسبب الوقوع تحت ضغط الفكرة الجاهزة والمسبقة التي تشل التفكير العلمي والتحليلي، وهي ما انشغل به لكتاب مشترك بين محمد القصبجي وأسمهان لعلني أنجزه قريباً .
ولكي لا أكون مجحفاً بحق ما عملته رتيبة الحفني سأمثل للمحاور التي سارت عليها عملية كتابة هذا الكتاب، وتلك المحاور نذكرها: إعادة تدوير كتابات سابقة (أو سرقتها دون إحالة هامشية)، والانطلاق من أفكار جاهزة (أو مسبقة رددها سابقون)، وإغفال التحليل الاجتماعي (أو غياب التاريخي والثقافي) .
فإذا أمعنا النظر في الفصل السادس الذي وضعته بعنوان: القصبجي وصوت أسمهان، (ص: 123- 129) سنرى تحققاً للمحور الأول الذي أدارت به كتابة هذا الفصل نموذجاً عن إدارة الكتاب جميعه، وهو إعادة تدوير أو سرقة كتابات سابقة (4) في تناول هذه المسألة العلاقة الثقافية بين ألحان محمد القصبجي وحنجرة أسمهان، وعندما نقلِّب السبع صفحات التي وضعتها في هذا الفصل سنرى أصواتا صارخة لنقاد وكتاب وباحثين سابقين، مثل: كمال النجمي، وصميم الشريف، وسعد الله آغا القلعة، وفيكتور سحاب .
ففي أول صفحة (ص: 123) من هذا الفصل تورد نصاً كاملاً من المقالة التاريخية التي اعترف كمال النجمي بحنجرة أسمهان متفوقة على أم كلثوم بل على علي محمود نفسه، وهي مقالة: أسمهان والصوت الثاني نشرها في كتابه: الغناء المصري مطربون ومستمعون (1993م)، حيث يصفها باعتبارها حاجزاً صوتياً لم تستطع مطربات عصرنا اجتيازه حتى الآن (ص: 123)، وفي الصفحتين التاليتين (ص: 124، 125) تورد إعادة كتابة لما كتبه الناقد صميم الشريف في مقالة: عاشق الأصوات الجميلة، من كتابه: الأغنية العربية حين الكلام عمن اكتشف أسمهان، ومن علمها، وهذا ما لم تذكره الحفني، وساء نقلاً!، ثم تنتقل إلى ذكر بقايا تحليل د. سعد الله آغا القلعة لأغنية يا طيور في برنامجه: أسمهان الصوت الخالد - 1997، الذي طالعناه في محطة دبي الفضائية، وأعيد مراراً في محطات فضائية عربية أخرى، وتنتقل في الصفحة التالية (ص: 127) إلى النقل الفج من الفصل الذي وضعه فيكتور سحَّاب عن محمد القصبجي من كتابه :السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة حول استخدامه العلوم والتقنيات الموسيقية، وما قدمه من جديد في أغنية: يا طيور على صعيد القالب الموسيقي، واللحن بجمله ولوازمه، والتوزيع والعزف الأوركسترالي، وتنتقل من جديد لعمل كولاج بارع، في الصفحة التالية (ص: 128) بين استعادة كلام صميم الشريف من فصله الذي ذكرناه حول خطوة القطيعة مع مرحلة النهضة الثقافية في كلاسيكيتها المستحدثة دخولاً في مرحلة الرومانسية وتبشيراً بالحداثة الثقافية، وبين كلام فيكتور سحاب في الصفحة الأخيرة من فصل كتاب الحفني (ص: 129) في الفصل الخاص عن أسمهان، في كتابه الذي ذكرناه سابقاً أيضاً .
كيف ينضب عقل يبتكر للموسيقى مقاماً غير مسبوق؟!
وأما المحور الثاني: الفكرة الجاهزة (أو المسبقة)، سنلقى تحققه فيما قالته بالفصل الرابع: لقاء القصبجي مع أم كلثوم (ص: 69-88) حيث تحدثت في الفصل نفسه عن العلاقة الفنية بينهما معتمدة على ما ييسره من معلومات كتاب محمود كامل: محمد القصبجي حياته وأعماله، حول هذا الموضوع، ولكن عند الحديث عن انقطاع التعاون الفني بينهما حيث أخذت هذه المسألة ثلثي هذا الفصل (ص: 77- 88)، وبعد أن استعرضت كلاماً عن المحاولات الفاشلة في عودة العمل بينهما، ويرجع الفشل دائماً إلى القصبجي لا أم كلثوم، فإن في مقولات محمود كامل ما يناقض السبب التفسيري لسبب الانقطاع، أولاً بأن القصبجي لم يصب ب: "نضوب الإلهام" (ص: 78)، ولاحظوا المصطلح الرومانسي في جذوة شاعريته!، بدليل عدم توقفه عن العمل مع سواها، وثانياً أن تبديل الألحان للنصوص التي كانت بحوزته: للصبر حدود، وسهران لوحدي، تكشف أن المشكلة هي اختيار أم كلثوم، والدليل القوي أنه ابتكر مقاماً موسيقياً (أي: سلم درجات نغمية) جديداً أسماه: ماوراء النهرين، وهذا ما يؤكد استمرار بحثه عن غير المألوف والمهجور من المقامات الموسيقية العربية والمشرقية، وإعادة تأهيلها عصرياً، وهذا ما حدث مع أغنية: يا ما ناديت، بمقام الماهور، والشك يحيي الغرام، بمقام الأثر كرد، وثالثاً: غياب مسألة تحليلية مقارنة بين نجاح أعماله مع أسمهان وليلى مراد في الأغنية السينمائية، ولعلنا نتذكر -على سبيل المثال - تانغو: امتى ح تعرف امتى؟- 1944لأسمهان، وفالس: قلبي دليلي - 1947لليلى مراد، ولكن لماذا لم يتساءل عن (فشل أو سقوط) أم كلثوم في تمثيلها السينمائي، وفي غنائها لأوبرا عايدة، غير جريمة حرقها الفصل الأول لأنه من ألحان القصبجي (5)، وغيرتها من تفوق فتحية أحمد حيث شاركتها وإبراهيم حمودة العمل نفسه، وكذلك فشل تعاونها مع فريد غصن، وإهمالها ملحنين مهمين: فريد الأطرش ومحمود الشريف؟، ولماذا لم يفكر في تزييفها لصورة المرأة العربية التي أعادتها لذهنية الحريم بطريقة مستحدثة؟.
أم كلثوم والسحر الأسود
على أي حال، وبعد أن تورد تعليل محمود كامل تورد أيضاً تعليلاً آخر لفيكتور سحَّاب (ص: 80) الذي اعتمد على دفاع نشر في الصحف من محمد القصبجي حول أهمية ألحانه التي تفوق أعمال السنباطي، وقال بأنه أثار غضب أم كلثوم مما دفعه لإنكاره، ولم يورد سحاب أي دليل لا على هذا ولا ذاك، وتأخذه الحفني تعليلاً، وساء دليلاً!، وهناك رأي شفوي أخذته من الملحن كمال الطويل، وهو من الملحنين الذين يعدون القصبجي أستاذاً لهم مثل: بليغ حمدي ومحمد الموجي، فقد نقلت عنه مقولة تدعم الفكر الخرافي عند الطويل والحفني بقول القصبجي -كما ينسب الطويل إليه-: "مش عارف يا كمال كل ما أنوي أعمل لحن، ألقى عفاريت بتطلع" (ص: 81)، أليس لنا ضمن ذهنية الفكر الخرافي أن نكتشف أمراً عزَّ على الحفني نفسها، بأن أم كلثوم وضعت سحراً أسود لمحمد القصبجي ما إن ينوي التلحين لها، وربما كلما مسك العود كما سيدغدغ الكثير ممن يلهجون بهذا التفسير الأحمق، أوليس عبارة مثل هذه تكشف سراً خطيرا عن دهاءٍ خارقٍ عند القصبجي الذي لم ينقطع عن التلحين لأم كلثوم لرفضها ألحانه، بل لامتناعه التلحين لها، وكفه عن اعتبارها مشروعاً أساسياً له، ومثل هذه المقولة تفتح باب التكهنات الإيهامية،وهي مثار سخرية القصبجي نفسه، وإنما تغذي ذهنية التأليه والتبخير العربية-المصرية للرموز الطوطمية التي منها طوطمية أم كلثوم، واعتبارها طوطم استقطاب لكل ما يغذي اليتم الوطني و الحَيءرة الجنوسية (6)!
وعموماً، كيلا نبعد عن التمثيل بالمحور نفسه عن: الفكرة الجاهزة (أو المسبقة)، فهي ستضيف لتلك التكهنات عن انقطاع التعاون الفني بينهما (أو امتناع القصبجي نفسه، وهذا ما لا يراد الاعتراف به)، فتقول: "بأنه نتيجة لرواسب قديمة تتعلَّق باهتمام القصبجي بصوت المطربة أسمهان، التي تعتبر منافسة لأم كلثوم في فترة ما، والتي خصها بالكثير من ألحانه" (ص: 82)، وهذا الرأي مأخوذ من مقالة إلياس سحاب التي أشرنا إليها سابقاً .
وأما المحور الثالث والأخير الذي وسمته بهذه الجملة: إغفال التحليل الاجتماعي للدور الثقافي الذي تركه القصبجي، وهو الدور الذي كان من المفترض أن يكون على كتاب مثل هذا، بدل رص المعلومات رصاً دون تحليل مدخلاتها ومخرجاتها، وتفكيك المقولات الثقافية اليابسة، واجتراح نتائج غير مسبوقة، ولو كان الأمر بإثارة تساؤلات ثقافية عميقة، العمر التاريخي لمدنية مجتمع القاهرة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولا يكفي ما قالته حول غناء فترة العشرينيات الموصومة بالعار الثقافي، وعن تنوع الإثنيات بأعراقها والطوائف الدينية ومذاهبها، وافتراض علاقة الآخر المثمرة التي تجمع المصري من أصول مختلفة بالآخر عربياً أو آسيوياً أو أوروبياً، ولاحظوا أن محمد القصبجي يعود إلى أصول شامية، وشمولية عملية التطور الثقافي بابتكار فن المناجاة يوازيه القصة القصيرة، ومساءلة إعادة تكوين التخت الموسيقي الشرقي إلى الفرقة الموسيقية ذات التعدد، وتطور تقنية صناعة العود و أساليب العزف والارتجال عليه، وتطور تقنيات الأداء الصوتي للحناجر العربية رجالية ونسائية، وأمور أخرى كثيرة.
وإذا كانت هذه المحاور التي تناولناها وفندناها بناء على كونها لا تطال كتاب الحفني عن القصبجي فقط بل معظم الكتابات النقدية السابقة ما بين حقوق مسلوبة، وبعض المغالطات المكرورة، والمأمول الذي خاب مع هذا الكتاب إلا أن في كتاب الحفني بعض ما يمكن اعتباره مزايا جديدة في معلومات قدمتها، وبعض الإشارة المنقوصة إلى قضايا نقدية حول نتاج ودور القصبجي ثقافياً في الحياة الاجتماعية، ومن ذلك: الأغنية السياسية، إعجاب داوود حسني بأعماله، ثقافته الموسيقية.
اسمع أغاني القصبجي
فقد درج عند الكثير غفلاً للجانب السياسي في أغنيات قدَّمها محمد القصبجي وسواه، تحت اعتبار سيد درويش صوت ثورة 1919، وهذا غير صحيح تماماً (7)، ونعرف أن القصبجي وضع ألحاناً كثيرة ذات بعد قومي وثوري ضمن إطار الأغنية السياسية (ص: 53)، وربما مورست عملية قتل بشعة لأعمال تلك المرحلة لأسباب مختلفة: تسجيلها بصوت منيرة المهدية الذي يعده الكثير تعبيراً عن صوت السرايا، وهذا غير صحيح، ووصم أسلوب غنائها بالأعجمي، وهذا غير صحيح أيضاً، وإقلاع القصبجي عن عمل أغنيات سياسية فيما بعد، ولكن السبب العائد لمنيرة المهدية هو سوء نقل التسجيلات من أسطوانات الحجر إلى تقنيات التسجيل المتاحة سواء كاسيت أو سيدي، ولكنها تسجيلات واضحة فلو استمعنا إلى أغنية: شال الحمام، من كلمات: محمد يونس القاضي، فهي وضعت لإغاظة جيش الاحتلال الإنجليزي بمصر رفعاً من شأن زعيم الثورة سعد زغلول 1919م:
"شال الحمام حط الحمام / من مصر للسودان
زغلول وقلبي مال إليه / أنده له لما أحتاج إليه"
وأدى ترديد هذه الأغنية، كما لو كانت نشيداً وطنياً، إلى استصدار قائد جيوش الاحتلال أمراً عسكرياً بسجن كل من يذكر اسم زعيم الثورة سعد زغلول، الذي تعنيه في كلمة: زغلول، ستة أشهر مع الشغل وجلده عشرين جلدة (ص:54).
ومن أغنيات القصبجي ذات الحس القومي التي غنتها منيرة المهدية أيضاً، أغنية بعنوان:أبونا توت عنخ آمون، وهناك أغنية خطيرة وضعها نفس الشاعر القاضي ولحنها القصبجي لمنيرة المهدية بعنوان: اسمع أغاني المهدية، التي يدين فيها حكومة الحرامية في مصر آنذاك!، وهذه الأغنية السياسية تخرج، في بعدها القومي والثوري، خارج الأغنية الوطنية المؤدلجة، التي سحبتها أم كلثوم إلى أرشيف التباكي (الغناء الرثائي) كمثل الذي قدمته عن جمال عبد الناصر.
وكذلك ورد في الكتاب ما يكشف موقف وعلاقة محمد القصبجي مع جيل سابق من الموسيقيين، على أنه لحن لبعض الحناجر الأكبر منه (زكي مراد وأمين حسنين) ما يستدعي اعترافاً ضمنياً بموهبته، وهو إعجاب داوود حسني، الذي يعد خليفة محمد عثمان أحد موسيقي عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر، الذي كشف في رد علو شأن القصبجي في اجتراحه قالباً غير مسبوق في تراث الموسيقى العربية، وهو فن المناجاة (المونولوج، كما يدرج) حيث رفض أن يلحن عليه والسبب بقوله: "إنه لا يجوز أن يلحن مونولوجاً ومحمد القصبجي موجود" (ص: 54).
وأما كامل الخلعي ملحن الموشحات الذي وضع كتاباً مهماً عنها: الموسيقى الشرقية 1904، فقد كتب مقالاً في طريقة عزفه العود وتعليمه وأثره على تلامذته أي: القصبجي نفسه:
القصبجي هو العود الساحر، والمتفنن الماهر، صاحب الطرق الرشيدة، والقواعد العديدة في تعليم المبتدئين، ووصولهم إلى طبقة الأستاذية، وهو ممن أعجب لحذقهم وأطرب لعزفهم.
درس القصبجي هذه الصناعة على من امتازوا فيها البراعة، فظهرت مواهبه الطبيعية مقرونة بمحاسنه الفنية. ولولا أن يظن بنا غلو، لزدنا في الحديث من استزاد (ص: 63).
ولكونه يغفل دور محمد القصبجي الذي وضع حداً بين موسيقى القرن التاسع عشر والقرن العشرين في المنهج العلمي الذي استدعاه في أعماله الموسيقية والغنائية أيضاً، فإن كشف معلومات عنه لتفي بإعادة النظر في مسيرة تطور الموسيقى العربية ومن وراء ذلك، فقد تعلم وأجاد علم التدوين الموسيقي وعلم النظريات الموسيقية، ويعرف أن والده علي القصبجي هو من علَّمه نظير أن يجتهد في دروسه، وبما أنه يحمل شهادة مدرسة المعلمين، إلا أنه واصل تعليمه وثقافته الموسيقيتين عبر اقتناء الكتب والمراجع في علم النظرية وسواها، ودراستها وشرحها مع متخصصين، وهذا ما كشف عن مفكر موسيقي عالج طول أوتار آلة العود وعدلها، ووضع طريقة لتوزيع طباقي وتوافقي لألحانه على مقامات أحادية الطابع، ونتج عن هذا معالجته مقامات مهجورة ومنسية، ووصل به إلى ابتكار مقام موسيقي.
ومما تذكره الحفني حول سعي لتطوير ثقافته الموسيقية: بأنه داوم حضور حفلات دار الأوبرا الملكية، يستمع إلى الفرق الأجنبية من أوركسترا سيمفوني، وفرق أوبرا، ومشاهدة عروض الباليه، كما كان ينتهز الفرص للتعرف على كبار الموسيقيين وقادة الأوركسترات الغربية، وتبادل المعلومات معهم (ص:59).
وبما أنها تكمل عملية إعادة تدوير أو سرقة أو نقل كتاب محمود كامل في الفصول الثلاثة الأخيرة التاسع والعاشر، ففي الحادي شعر تنقل قوائم أعماله الغنائية والموسيقية، فلم تبذل فيها جهداً يذكر، فقد نقلتها كما هي من كتاب محمود كامل عن القصبجي، وهي قوائم أعماله بأسماء شعرائها وحناجرها: القصائد، الموشح الوحيد، والأدوار، والمناجيات، والطقاطيق دون أن تضع تعريفاً ببعض المغنين والمغنيات الواردة أسماؤهم وأسماؤهن كذلك تواريخ الأغنيات!، وتنقل في نهاية القوائم مسردا بأغنياته في الأفلام السينمائية كما هي أيضاً.
ولفتني أنه لم يرد أي توثيق لحوار صحفي مكتوب مع محمد القصبجي على أنه سبق نشر بعض تعليقاته المهمة حول الموسيقى العربية أثناء مؤتمر الموسيقى العربية الذي أقيم بالقاهرة 1932، برعاية الملك فؤاد آنذاك، والكثير مما أثاره من قضايا تخص تاريخ الموسيقى واستخدام آلات موسيقية غير معتادة، وما إلى ذلك (8).
- - - - - -
1- مجلة المصباح، العدد: 37، 1أيار - مايو 1981، والمقالة الثانية: محمد القصبجي المجدد، العدد: 38، 8أيار - مايو
2.1981- المناجاة / ٌٍَُُُهِّم :الأغنية ذات المقاطع غير المتكررة ويراعى فيها الجانب التصويري في الموسيقى والدرامي في اللحن المغنى، وربما يتكرر مقطع للربط وليس للفصل والاستقلال، وهي ذروة الخطاب الغنائي الفردي، ولكنها أنتجت الغناء القصصي .
3- مجلة كل الأسرة، العدد: 131، 17نيسان - ابريل
4.1996- على أنها وضعت قائمة المراجع نهاية الكتاب، ولكن غير إهمالها الإحالة المباشرة ذكرت كتباً أخرى في المتن دون إشارة إليها في المراجع كذلك تعتمد على روايات شفوية لا تعيدها إلى أصحابها .
5-عادة ما يرجع السبب إلى حريق شب في استوديو مصر لتبرئة أم كلثوم.
6- اشتغل على ذلك، وربما في محاور أخرى، الكاتب حازم صاغية من خلال مؤلف مهم:
الهوى دون أهله، دار الجديد -
7.1991- مثلما يروَّج اعتبار محمد عبد الوهاب الموسيقي المجدد وحده، وهذا غير صحيح.
8- قد نشرت ندوات وأعمال المؤتمر وبعض التصاريح الصحفية في كتاب أنجزه فيكتور سحاب، عام 1997، والذي أهداه إلى رتيبة الحفني اعترافاً بفضله