الكاتب : نجوى شعبان الكتاب : نوة الكرم عرض : د. مارى تريز عبد المسيح .
تصاعدت عملية التنقيب فى الذاكرة الثقافية فى الكتابات العربية الجديدة ، وقد يرجع ذلك إما الى محاولة لإيجاد خطاب مضاد "للتحديث " الغربى الذى أوقع البلدان العربية فى شرك العولمة الاقتصادية ، أو لفضح زيف الماضى الأسطورى الذى يروج له الخطاب القومى المتشدد ، وهو خطاب أفضى الى نشوب أزمة فى تعريف الهوية هلى المستويين الفردى والجمعى. ولا يمكن إغفال تاريخ المكان عند تشييد مفهوم جديد للمواطنة يتجاوز الاختلاف العرقى والعقائدى والجنسى.
غدا التنقيب فى الذاكرة آلية من آليات البقاء تعمل على تنشيط ذاكرة المكان عبر مراحل تشكله المتعاقبة بفعل المتغيرات . وفى رواية "نوة الكرم" لنجوى شعبان ، سعت الكاتبة الى إعادة كتابة تاريخ المكان/دمياط بالاستعانة بالذاكرة الثقافية المغايرة للثقافة المهيمنة لتجاوز سياجها ، ولنقض التأريخ الكولونيالى ومرجعيته الغربية بتتبع حركات التحديث المتنوعة التى تشكلت فى أماكن أخرى عبر التاريخ . بات من المتعارف عليه تزامن "الحداثة" مع تشكل المدن ، لتفاعل جماعات تنتمى الى ثقافات محلية متغايرة فى مكان مشترك ، تفاعل يفضى الى تشييد ثقافة مشتركة تتميز بالحداثة.
فى استدعاء الذاكرة تنشيط للعقل وحراك دائم للخيال بين الأزمنة والأمكنة ، فتنقلنا رواية "نوة الكرم" الى مدينة دمياط ملتقى نهر النيل بالبحر المتوسط ، وملتقى الشمال بالجنوب ، مدينة تختلط فيها الأجناس والديانات ، وتتغير المدينة بتغير الأدوار والمواقع والعلاقات . تدور الأحداث فى القرن السادس عشر أثناء الاحتلال العثمانى ، حيث تتولد أدوار اجتماعية جديدة تبرز المسكوت عنه فى تنظيم المجتمع المحلى والعالمى ، ولا يقتصر الحراك الاجتماعى على الرجال دون النساء ، فالهجرة والشتات يسريان على الأفراد جميعا. ومن ثم يبرز دور للمرأة خارج الحرم المنزلى. وحضور المرأة لا يشكل بديلا عن الثقافة الذكورية السائدة ، فهو ليس خطاب ذكورى معكوس بل وجود متمم للكيان الاجتماعى ودلالته، حضور يلمس الجماعة ككل.
ويخاطب القارئ المعاصر فى مقدمة الرواية بوصفه "الغريب" الذى يطأ دمياط ويستفسر عن موقع فيها. يأتى الرد مراوغا حيث توصف المواقع فى دمياط بالإحالة الى مركزها الرئيسى مسجد المطراوى ، وهو فى حد ذاته موقعا تبدلت أسماءه بتغير أدوار ومواقع سكان المدينة. فقد كان فيما سبق، قصر المطراوى، أحد المحاربين القادمين مع الجيش العثمانى ، تعود أصوله الى أوربا الشرقية ، اسمه كان ماتياس سابقا. فمنذ البداية يشهد القارئ الحراك بين موقع ماتياس ومطراوى ، بين القصر والمسجد ، أى المسكن الخاص ومكان العبادة العام ، حراك يعمل على تقويض السرديات الكبرى التى تذهب بالهوية الأصلية وما تستند إليه من أنساق معمارية تدعمها المعرفة الشرعية.
ويتغير شاغلى المركز فى دمياط، فقد يكون الحاكم العثمانى ، أو المطراوى ، أو المفتش العام ، فيما يتسلل خطاب السلطة عبر شبكة من العلاقات المتغيرة بين المجموعات ، مع وجود مقاومة دائمة تتعدى نواهى السلطات. وتتنقل أجزاء الكتاب بين الأحداث العامة والخاصة فى ما يخص جماعات مختلفة تنتمى الى ديانات وأجناس متغايرة تتغير مواقعها. والاختلافات الطائفية أو العرقية لا تشكل أية عراقيل اجتماعية ولكنها تستغل من قبل السلطات لتحجيم المقاومة الشعبية. والصراعات بين الجماعات لا تدوم لتبدل هويتها الدائم، وتتغير ألقابها بتغير المواقع الاجتماعية فى المكان ، وتتبدل المكانة بتغير الموقع من السلطة، وبالتالى تتشكل الجماعات وتتغير بتغير أوضاع المدينة أو المكان.
تلجأ الكاتبة إلى أن تحصى الأحداث المتكررة في هذه الفترة حيث نهاية الحكم الملوكي وبداية الاحتلال العثماني، فالحياة الخاصة للأفراد والحياة العامة للمجتمع ككل يتعرضان لنوعين من التهديد، خطر الغزو الخارجي علاوة على سلطة تراتبية قمعية في الداخل، فيمارس كل منهما سلطته على الشعب متعللا بخطر داهم يجسده الآخر، ومن ثم يتوسلان بتدابير حمائية على المستوى السياسي والاقتصادي لا تخلو من الخطأ.
لا تتمحور السردية حول عائلة بعينها ، بل تتناول عددا من الجماعات المتداخلة تتغير مواضعها داخل وخارج المسكن . كما تتغير الألقاب لتتواءم مع التغيرات فى الأدوار العامة التى تتدخل بدورها فى العلاقات الأسرية. فالأخوان التوأمان غياث الدين وليث الدين يتغيران بتحول انتماءاتهما لجموع القراصنة المتنافسة على سيادة البحر المتوسط. فالجرأة تصنع منهما ذواتا فاعلة أو ذواتا خاضعة ، ففى حالة ليث الدين لا تعوقه أو تضعف قدرته على الإدراك الحدسى مما يعزز أدواره الاجتماعية ، أما غياث الدين ففى جرأته رعونة ذكورية تدفعه الى التمسك بالحكام القاطعة فينحرف عن المجتمعى.
الأخت الصغرى سنانية تعرضها علاقاتها الملتبسة مع الرجال الى الخضوع كامرأة فتبحث عن بديل لوضعها بالقيام بأدوار اجتماعية عامة . أما ليل الأخت الكبرى فتحملها للمسؤولية شجعها على اقتحام الحياة العامة ، والخوض فى المواضيع المحرمة على النساء ، فانطلقت بالنكات الجنسية فى أحاديثها وبتصوير المشاهد الجنسية على كعكها ،وهى أفعال أكسبتها ذواتا متعددة تتحدى الصورة التقليدية للمرأة ككيان ثابت.
والبنية الدائرية تربط مشاهد البداية والنهاية، وتتمحور حول رحلة غياث الدين عبر المتوسط ذهابا وإيابا ، رحلة يكاد يفقد فيها حياته حيث ضربت سفينته نوة الكرم. والتنقل عبر البحر المتوسط يمثل التبادل الاقتصادى والثقافى بين الشمال والجنوب ، وهى علاقة تظل ملتبسة حيث تبرز إشكالية كيفية التمييز بين التبادل والاستغلال، واتساق العلاقات واختلالها. فتناقل المعرفة تتعدد وسائطه فقد يكون عبر التجارة أو القرصنة ، والتمييز بين النشاطين يشوبه الالتباس خاصة فى ما يخص الاتجار بالموميات المصرية للأكاديميات الغربية. الى جانب ذلك فالرحلة عبر المتوسط قد تكون مهربا أو بحثا ، وفى حالة غياث الدين فهى تجمع المطلبين . فهو هارب من جريمة قتل المطراوى التى لم يتممها ، وهو باحث عن نور الدين ابن أخته ليكتشف فقدانه ، فالنسبة لغياث الدين تعد رحلته خاسرة على الأصعدة كافة.
والموقف من الديانات الأخرى يختلف بين الجماعات ، فينتحب المسلمون لوفاة الراهبة المسيحية المطببة والترجمان الذى لم تعرف انتماءاته الدينية ، والمفزوع ، ويتحول مسكنهم الى أثر باق ، مزار عام يغدو مستودع معمارى يحفظ ذاكرة المكان. كما تحفظ سنانية التاريخ المدون بإنقاذ مخطوطات الترجمان من عمليات السلب العثمانية ، وهى الوثائق التى سوف تستخدمها حفيدة الترجمان – الراوية الحالية- فى ما بعد لكتابة سردية. وتهرب سنانية لحفظها عند قبيلة الفور فى السودان ، مما له دلالته حيث حافظت تلك الجماعة على مبادئ المساواة فى العلاقات ، مما يطرح بديلا للاقتصاد الإمبريالى النفعى ، وينقض نظرية التطور التاريخى، فالقيم الاجتماعية التى تولدت مع الدولة الحديثة ، ليست بالضرورة أفضل من الأعراف المتبعة.
والموقف التاريخى يدفع الشخصيات إما للخديعة أو الهرب من أجل البقاء ، وهو لا يتجسد فى البنية السردية التى تلتف بمدارات نوة الكرم فحسب ، بل يتجسد فى معمار المكان. فالبناء المعمارى لقصر المطراوى متاهة تخفى المكائد لتظل حياة المطراوى ومماته يكتنفهما الغموض. كما تظل علاقته بأهالى دمياط ملتبسة يتنازع فيها الحب والكراهية ، فهو يمثل المستعمر والمستعمر ( بضم الميم وفتحها ) والواهب والناهب فى آن ، والسيناريو المزدوج لسردية موته يطمس الخط الفاصل بين التاريخ والأسطورة ، ويظل هذا الالتباس متمثلا حتى فى البناء الذى كان مسكنا وصار مسجدا ، فالالتباس أحد علامات المكان.
الرواية تنطوي على توجه يمس جماعات مختلفة في مصر، مما يتطلب تعددية في المنظور التاريخي ومواقف تبرز الحالات المختلفة للموضوع، ونجوى شعبان في كتابتها تقوض بعض مفاهيم السياسات النسوية التي تفترض وجود ثنائية في الهوية: النوع والجنس (رجل/امرأة)، وعلى ذلك كان الراوية الأساسي غير محدد الهوية بالإضافة إلى رواة آخرين من شأنهم إبعاد صبغة ذاتية الكاتبة في النص.. فتحولت من شكل البطولة المتعارف عليه إلى حياة الناس العادية وهذا يعني تحولا عن سيطرة الأفكار المفاهيمية للأبطال -كما يحدث في الروايات الأخرى عادة – إلى صور حسية للحياة اليومية للناس .. وتم إدراك الوعي بالاختلاف والتعدد بين رؤى الناس وشخصياتهم عبر بنية الحكى، قدمت فيها الكاتبة أشكالا جديدة من المعرفة والخبرة على نحو غير مباشر، فاتحة فضاء أوسع من أجل فهم صيرورة التاريخ
تدور الرواية فى مرحلة انتقالية تشهدها المنطقة حيث تشكلت الحداثة المصرية والعربية بالتفاعل مع الآخر فى سياق كونيالى وما بعد كونيالى فى آن ، حيث تناوبت الغزوات على مصر ،وبدءا من العصور الوسطى تلاحقت عمليات التلقيح والتهجين فى المجتمعات المصرية والعربية وفى سياق الحراك الاجتماعى المستديم يصعب تصنيف الأوضاع السياسية وفقا للمعايير الغربية. واللغة المستخدمة فى الرواية تمزج اللهجات المصرية القديمة والحديثة إضافة الى ما استعارته من الثقافات الأخرى التى احتكت بها. واعتماد الكاتبة على العامية والفصحى يقوض فكرة أحادية اللغة أو وحدتها ، بل يكشف التفاعل بين العامية والفصحى ، وبين اللغة الدارجة واللغات الأجنبية ، والاستعارة المتبادلة بينهما.