”الرواية فن شعبي طوال تاريخها، وهي ضد الأرستقراطية رغم كونها ابنة للبورجوازية، لكنها في مصر ابنة شرعية للسيرة الشعبية التي دربتنا على الإنصات ومتابعة الحكاية.“ جاء هذا الرأي على لسان الروائي القدير خيري شلبي في مقابلة صحفية أجريت معه مؤخرا.
ويمكن القول بأن وجهة النظر هذه هي التي صدرت عنها معظم أعمال خيري شلبي وأحدثها رواية زهرة الخشخاش (زهرة الخشخاش، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005). يؤكد وجهة النظر هذه أمران، يتعلق أولهما بالموضوع والثاني بلغة السرد. فمن حيث الموضوع تشكل البيئة الشعبية القاعدة التي تنطلق منها شخصيات خيري شلبي الروائية والتي تتجلى حتى في عناوين رواياته من قبيل ”عدل المسامير“، و”وكالة عطية“، و ”صالح هيصة“، و ثلاثية ”أولنا ولد، وثانينا الكومي، وثالثنا الورق“، و ”منامات عم أحمد السماك“ (دون ترتيب زمني لصدور هذه الأعمال).
وتعني ”البيئة الشعبية“ هنا العناصر النابعة من الأوساط الشعبية العادية وتفاعلاتها سواء فيما بينها أو مع عناصر أخرى، ربما تكون هي أيضا عناصر شعبية نابعة من نفس التراب الوطني لكنها انتقلت، نتيجة دوافع أو أسباب ذاتية أو اجتماعية، إلى مراتب مختلفة، فبدت منفصلة عن شخصية ابن البلد البسيط في مظهره وجوهره، لكنها تنطوي على المكونات التي تميز هذه الشخصية من انتماء فطري أصيل لبلدها ومن إلمام ببعض جوانب الثقافة التي تميز هذه الشخصية من معرفة بتاريخها الماضي والحاضر، وهي أيضا ثقافة تضم خليطا من الأفكار الموروثة والتقليدية والحكايات الشعبية والأمثال والأغاني. وأتصور أن شخصية ابن البلد هذه هي الشخصية الرئيسية في الشكل الروائي الذي يدعو إليه خيري شلبي في الاقتباس المشار إليه أعلاه.
يقودنا ذلك إلى الحديث عن الأمر الثاني وهو لغة السرد التي يتطلبها تصوير مثل هذه الشخصيات تصويرا واقعيا يعبر عن ثقافة هذه الشخصيات وأبعادها المختلفة وينقلها إلى القارئ في أجلى صورها. وأحسب أن خيري شلبي، من فرط تعامله مع هذه الشخصيات، بل لكونها أصبحت تشكل الخامة الأساسية، أو القماشة الأصلية (إذا استخدمنا تعبيره الشخصي في الحديث المشار إليه) التي يبدع منها أعماله، قد أنشأ متنا لغويا خاصا تنهل منها شخصياته في التعبير عن مكنون نفسها وعن مواقفها، ويشكل هذا المتن لغة خاصة لا أقول إنه تغلُب عليها بساطة القول أو عاميته، ولكنها تنقل ”القول كما هو“ وكما تنطق به شخصياته سواء في بساطتها أو في تعقدها.
تقع أحداث ”زهرة الخشخاش“ في الفترة ما بين 2 يونيه 1945 (وهو التاريخ الذي يخطه مدرس اللغة العربية على سبورة الفصل في المدرسة الابتدائية الوحيدة ببلدة ”ميت الديبة“، إحدى قرى الريف المصري في قلب الدلتا)، ووقت ما في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وربما بدايات عام 1957. ويتمثل الخط الرئيسي للرواية في تطور شخصية بطلها الأساسي وراويها الذي أعطاه المؤلف اسم ”بهاء قاسم الراوي“ (وكان في بداية الرواية تلميذا في الشهادة الابتدائية بمدرسة بلدة ميت الديبة). وعلى مدى أكثر من عشرين عاما شهدت تطور هذه الشخصية من صبي مراهق في قريته الريفية المتواضعة إلى كاتب صحفي واعد في إحدى الصحف المحلية بمدينة الإسكندرية، يعرض المؤلف لفترة هامة وخصبة من التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي للوطن ملقيا الضوء على كثير من جوانب الحراك الاجتماعي والسياسي خلال هذه الفترة الهامة التي شملت في ما شملت حرب فلسطين وقيام إسرائيل وثورة يوليه (تموز) في مصر والعدوان الثلاثي ومؤامرات اليهود في مصر ونزوحهم منها إلى فلسطين بما أعطى للعمل قيمة معرفية خاصة لمسها القارئ في أعمال سابقة للمؤلف.
في ذلك اليوم من عام 1945، يحل على قرية ميت الديبة أعيان أسرة الشماشرجية هربا من الغارات والقلاقل التي كانت تتعرض لها الإسكندرية في الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية. والشماشرجية أسرة عريقة استمدت ثراءها وقوتها منذ وقت يعود إلى أيام محمد على باشا الذي استقطب جدهم الأكبر الحاج عبد الرؤوف البدوي، أحد كبار عربان الشرقية وأقطعه مساحات كبيرة من الأراضي، وامتد نفوذ الأسرة إلى عهد الخديوي إسماعيل الذي عين أحد أفرادها وهو عبد الحميد بك بدوي ”شماشرجيا“ للخديوي. وحسبما يصف المؤلف دور الشماشرجي، فهو الشخص ”الذي يرافق الخديوي كظله، يسافر معه من باريس إلى لندن وروما وبلاد تركب الأفيال. وهو المسئول الوحيد عن ذوق وفخامة أزياء الخديوي“. ومنذ ذلك الحين تغير اسم العائلة إلى عائلة الشماشرجي، وسرعان ما حظي عبد الحميد بك بلقب الباشوية. ومن هؤلاء الشماشرجية من كان شريكا لكبار الرأسماليين اليهود في مصر آنذاك.
يقول الراوي: ”الشماشرجية خلقوا في بلدتنا تطلعات طبقية دفعت الناس تلقائيا إلى تقليدهم في تعليم الأولاد في مدارس البندر، وفي لبس الحرير والكشمير، أو على الأقل البوبلين والجبردين ليظهروا بمظهر المحترمين. أصابوا كبار وصغار الملاك والتجارة والحرفيين بمرض الفشخرة الكذابة.“
ويقول الراوي أيضا: ”حضور الشماشرجية بات كثيفا في البلدة. أصبحت سياراتهم مصدر بهجة للناس في غدوها ورواحها، يجري وراءها الأطفال، يتشعبطون في مصداتها الخلفية. عيال الشماشرجية النواعم وبناتهم الشيكولاته غيروا منظر البلدة بألوان ثيابهم الزاهية وعطورهم الزاعقة ولعبهم وألعابهم التي يشركوننا فيها بأريحية جعلتنا نحبهم ونصاحبهم ونتسابق في خدمتهم وتلبية طلباتهم.“ ويضيف في مكان آخر: ”أصبح اللقب الاسم مصدر فخر للعائلة بل لأهل بلدتنا جميعا، حتى اسم بلدتنا تغير على الألسنة من خارجها إلى بلدة الشماشرجي.“
تبرز بقوة مع بداية الرواية هذه الثنائية الاجتماعية بين الشماشرجية والفلاحين، والثراء والفقر، والجاه والعوز، والنخبة والعامة في ما وصف بعد ثورة يوليه بمجتمع النصف في المائة. وتفرد الرواية فصولا طويلة وحكايات أشبه بوقائع ألف ليلة وليلة أو السير الشعبية عما حققته هذه الأسرة من ثراء وجاه وسلطان. هذه الوقائع يرويها بطل الرواية "بهاء الرواي" الذي ما أن حصل على الشهادة الابتدائية حتى انتقل إلى الإسكندرية ليكمل تعليمه الثانوي والجامعي، وحل ضيفا على أسرة الشماشرجي وفاء من أحد كبار أعيانها لوالد بهاء صديق الأسرة الذي انبهر جميع الشماشرجية بوعيه السياسي كعضو في الجمعية التأسيسية لحزب الوفد وبذاكرته الحديدية التي تحتفظ بالكثير مما لا يعرفه الكثيرون منهم عن تاريخ أجدادهم القدامى.
ومن خلال إقامة بهاء الراوي في غرفة ملحقة بأحد قصور الشماشرجية حيث التحق بعمل مؤقت معهم إلى جانب دراسته، تكشفت له جوانب كثيرة من أسرار هذه العائلة من صفقات ومضاربات. وكان منهم الرجل الصالح الحاج مصطفى الشماشرجي الذي استضاف بهاء الراوي في قصره. وفي عملية تقييم سريعة لآل الشماشرجي يقول قاسم الرواي لولده بهاء: ”إن أصلح من في الشماشرجية السكندريين هما الحاج مصطفى وعنتر بك من الأعلام المشهورين، وأفسدهم بصورة محتملة هو هاني بك، أما أفسدهم عل الإطلاق فهو عمرو بك.“
ينخرط الراوي في أعمال تجارية مع حمادة الشماشرجي ابن هاني الشماشرجي من أم يهودية تدعى راشيل. ويتعرف الراوي على الكثير من أوجه الفساد التي نشأ فيها حمادة في رعاية أمه بما كانت تقوم به من إدارة لموائد القمار وجمع التبرعات لليهود المهاجرين إلى فلسطين والإلحاح على اليهود المصريين وإغرائهم بكل وسيلة على الهجرة إلى أرض الميعاد في فلسطين ”لكي ينصروا اخوتهم من أبناء الرب المجاهدين“. وتبلغ ذروة مناوراتها بتخزين أسلحة في شقة استأجرها الشماشرجية باسم الراوي توطئة لنقلها إلى اليهود في فلسطين.
في غضون ذلك، يكون الراوي قد تعرف على زوجة عمرو بك الشماشرجي بعدما أرسلته راشيل إلى منزلها لكي يوصل إليها عرضا يخص عمرو الشماشرجي الذي لم يبدِ أبدا أي مشاعر ود للراوي. زوجة عمرو الشماشرجي طالبة في قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب تزوجها كجزء من صفقاته ولا تكنُّ له أي حب أو احترام. وتنشأ قصة حب قوية بين الراوي و”لولية“ وهو اسم زوجة عمرو.
ومع تطور الأحداث وقيام الثورة يعيد الشماشرجية ترتيب أوراقهم وأولوياتهم، ويهرِّبون أموالهم إلى الخارج، وتنقطع صلة الراوي بلولية التي تكون قد سافرت إلى بور سعيد حيث تقيم أسرتها، إلى أن يجمعهما اللقاء مرة أخرى بعد انسحاب القوات الغازية والبدء في إعادة تعمير بور سعيد. ويكون الراوي آنذاك قد تخرج من كلية الآداب قسم الفلسفة والتحق بإحدى الصحف المحلية في الاسكندرية وبدأ نجمه في الظهور، أما لولية فتكون هي أيضا قد تخرجت من قسم اللغة الفرنسية وتزوره في مكتبه حيث يخططان للزواج بعد انفصالها عن عمرو الشماشرجي بعد أن ثبت ضلوعه في واقعة تخزين الأسلحة ومحاولة تهريبها إلى اليهود، ومع تطور الأحداث يصاب عمرو الشماشرجى بأزمة صحية تودي بحياته، وتنتهي الرواية بزواج الراوي من لولية.
هذه التفاصيل المتشابكة في أحداث ”زهرة الخشخاش“ لا تشكل سوى الحد الأدنى من التفاصيل التي يمكن إيرادها لبيان الخطين الرئيسيين اللذين انتظمت فيهما أحداث الرواية ذات الخمسمائة صفحة، وهما سيرة الشماشرجية، وسيرة حب الرواي. إلا أن هذا الإيجاز يحجب الكثير من جوانب الاستمتاع بهذه ”السيرة الشعبية“ التي يكمن الاستمتاع بها في الاستماع إليها، أو قراءتها، كاملة بكل تفاصيلها: اللقاءات الحميمية بين الراوي وحبيبته، نصائح والد الراوي له وهو على وشك أن يغادر قريته إلى المدينة ليعيش ضيفا على الشماشرجية، نقاشات الراوي مع عمه إسماعيل، رجل السياسة المثقف والمحنك بتجارب الحياة.
فساد الشماشرجية هو بيت القصيد في ”زهرة الخشخاش“، وهو ما يعطي الرواية قوتها وقدرتها التنبؤية إذا ما قرئت في ضوء الفساد الراهن الذي يضرب بأطنابه في أركان المجتمع على يد جماعات المصالح ومحتكري الثروات والمضاربات على حساب قوت الشعب ومستقبل أبنائه. وهاهو العم إسماعيل يقول كلمته، أو يدلي بتحذيره، عن آفة الشماشرجية التي ضربت جذورها في المجتمع: ”صدقني يا خليل أفندي، بعد عمر طويل سترى شجرة الشماشرجية الفاسدة هذه تسيطر على المجتمع المصري بشكل أو بآخر. إنها العائلة المستعدة دائما للتحالف مع الشيطان. اليوم ضربوا جذورهم في كل الحقول، منهم الطبيب والمهندس والمحامي والوزير والكاتب والفقيه والتاجر والمقاول، جميعهم في النهاية شماشرجية. إنهم كالجراثيم التي تكمن في الجسم حين تشتد عليها مقاومته، لكنها لابد أن تعود من جديد بعدما تكتسب مناعة ضد الأدوية. حتى وهم في الكمون لا يسكتون: في الخفاء تحت السطح يهبرون، يسلبون، يهربون، يخربون، يقتلون القتيل ويمشون في جنازته أكثر حزنا عليه وتأثرا برحيله من أهله. مع الأسف سيعودون ولو بأسماء جديدة لأنهم في قعر المجتمع خميرة معتقة تتعيش عليها كائنات كثيرة.“
كلمة أخيرة عن عنوان ”زهرة الخشخاش“ الذي يوحي للقارئ لأول وهلة بلوحة عباد الشمس الشهيرة لفان جوخ. ولأن المؤلف يستهل روايته باقتباس من أشعار فؤاد حداد يتحدث فيه عن ”موال العبَّادية“ فربما يخطر للقارئ أن المؤلف خلط بين الزهرتين. أم أنه يقصد زهرة الخشخاش التي يستخرج منها الأفيون، فهل قصد بذلك السحر المغوي لحبيبته ”لولية“ أو لهذه المادة المخدرة في حد ذاتها، وهي مادة ذات حضور دائم ومؤثر على كثير من أبطال رواياته؟ أم أنه استقى هذا العنوان من أبيات لبابلو نيرودا الذي ألمح في الرواية إلى تعلق الراوي بأشعاره، وفي هذه الأبيات يناجي الشاعر حبيبته السمراء التي تنطبق أوصافها على أوصاف حبيبة الراوي، قائلا: آه يا فراشتي السمراء، أنت قمح وشمس وماء وخشخاش؟ مجرد تساؤلات ربما تكون بعيدة كل البعد عما عناه المؤلف بإعطاء هذا العنوان للوحته البديعة ”زهرة الخشخاش“. .