هي قعدات الشموس الشاحبة حين يطيل تموز ضمورها، قبل أن تخرّ ميتة وراء بيوت اللاجئين، وتستبين ببطء مصابيح السماء فيقوم أبو تيسير، وقد أملّه قعود الحكي، ليعمّر نفساً من تمباك عجمي، ملفوحاً بنَفَس جَمعَة شباب وختيارية، بساط الحكي يشرّق بهم ويغرّب، جمرٌ وبرّاد شاي تجلبه أم تيسير، يوقد أسئلة ألهبتها أعمار الحنين والأسى، يرمي الشباب تحتها العيدان، يقصف باسل عوداً ناشفاً يرميه بين الجدّ والتندر.
- أما زلتم تتفيأون كراماته ....؟
* * *
وهو، من يعنيه باسل، محل جدال ومناكفة بين الشباب والختيارية، جلال البلد واسمها المقدر، لا يعرفون له بدءاً ولا انتهاء، مقصد المنكوب ومغيث المحروم، سيد الإيغال في الأيام ممعنة البعد التي لم يخبرها أحد من اختيارية اليوم أو جدودهم.
… لصق الجامع، غرفة حجرية صغيرة داخلها ارتفاع مجلّل بالأخضر .. بئر ماء ... مكان صلاتهم والتقاضي،... يحفّه الجائع والظمآن وطالب الدرب الأخضر،... يتفيأون ظل انتصابها أمامه عالية لا يصل بلحها أحد،... الذي يعرفون به ويجهدون ليعرف بهم، فكيف يجرؤ، أولاد اليوم على المحاججة...؟
- سيدنا أبو يحيى قتل في بلادنا ...
نشروا الشجرة التي آوته...فصارت وصار شطرين ...
- وعلى قبره أقام جدودنا المقام..
ولكن الشباب نبشوا المصادر وقرأوا في موسوعة (الدباغ) عن (بلادنا فلسطين): انعدام العلاقة بين نبي الله: زكريا واسم بلدهم التي أصبحت بعيدة.
- قولوا لنا إذاً، يا فالحين ... فطاحل زمانكم ،...
- كيف شلّت يد أبي محمود لحلفانه زوراً في الحضرة العطرة ...؟
- وماذا عن انطفاء عين أبي عدوي ...؟
ولا تنسوا ذهبات محيسن …!
ألم يظفر، أولاد اليوم بخبر العربيد الأسود الذي إذا تلّوى على الخصر قطم الرجل الطويل العريض نصفين ؟ وذكر زحفه على (أبي محمود) ليلاً،.. وقومته مفزوعاً لا تطاوعه يده على الحركة وقد مسها العربيد السابح…،… ولولا استفاقته السريعة؛ من كان سيحزر فعل العربيد به ...؟؟
انتظر أبو محمود أسبوعاً ولم تشف يده ،.. فقصد دار أخيه وسوّى موضوع الأرض الخلاف بينهما،.. هي إرادة من حلف في مقامه ضد حقّ أخيه،... وحمده، من لا يحمد على مكروه سواه، بأنه لم يصبه ما أصاب عدوي الدرويش ..، إذ عاد إلى البلد من عسكريّة الأتراك، شوباناً .. يسحّ العرق من مسامات جسده مرّاً. بوادي الصمت ... أطفأ الظمأ ورشق وجهه بماء الوادي البارد ..، وما أن وصل البلد إلا وإحدى عينيه قد انطفأت .. وأغمضت أختها بكرور الأيام ...
ومن يومها أعلنها دروشة، للحبيب (أبي يحيى) نبي الله زكريا المحراب، وأحباب الحبيب، بعد أن سكنه هاجس: ذلك لم يكن إلاّ خطيّة معذّبي عربدته وأذيته: نساء .. يتامى ... جيران ... صحبة ... والناس الذين لهم شأن عند نبي الله الحبيب أبي الحبيب.
ومحيسن ..،.. آه محيسن والعبد علي،…قادت هندة رجلها الضرير لبلد الصخرة والحرم .. لمستشفى العيون .. وتركت البيت المسكون بالبقر والدواب والبني آدميين .. لعائشة ...، وابنتها عائشة ما زالت صغيرة،...إلى الان صغيرة، تجاوزت السبعين وعقلها لم يغادر البلد والفلاحة والأحلام الذاوية.
تشمّم العبد علي بأنفه الذئبي ذلك النهار،…فقاده .. للبنت التي تركتها أمها وراحت للقدس البعيدة،… حفر برأسه ومخالبه طاقة في الدار،... ودور زمان ليست كدور اليوم: أسمنت وطوب وعقد، نطّ في الدار التي أغلقتها عائشة وجلست أمامها تحرسها بالعينين والعقل الشارد.
غابت شمس النهار،..عادت هندة تجر رجلها الضرير في الليل،… يسري في أوصالها الذي تحسّه ولا تعرفه،…وكمثل صاحب القلب الدليل أسرعت لصندوق الذهب،.. ذهبها .. وذهب الأم .. وأم الأم،… وصرخة انطلقت في سكون البلد والليل،…والقلب الدليل يجهر: لا يفعلها إلا العبد... العبد علي.
وقال من تجمع، جيران وناس وأهل الله: بينكم وبين العبد حلفان اليمين في النبي .. زكريا
ضرب العبد على صدره ... لأجل خاطر الوجوه الطيبة:
- أحلف في المكان الذي تريدونه ... ولو مشيت له بلاد.
في الصباح صلّى العبد علي في المقام وحلف أمام خلق الله .. وعلى الباب، بعد لحيظات، وهو خارج ، وقع .. كيف .. لا يذكر أحد … لم ينتبه أحد .... كُسرت رجله..
نادى على هندة ورجلها الضرير محيسن، وباس على راس محيسن ويد هندة.…واعترف بسبع ذهبات..
ولكن أولاد اليوم القاطنين في المخيم ولم يعيشوا البلد،…لا يصدقون..
ويستذكر الخيتارية الحفريات في المقام وقت مرور قائمقام من عائلة عبد الهادي النابلسية،.. لا يعرفون من دعاه، أو كيف جاء ؟ هل أتى بلدهم على وجه الخصوص أو كان ماراً بها،.. المهم أن نصيبه جاء به،.. شمّر عن ذراعيه وأخذ معه رجال البلد، وقال:
- احفروا هنا.
أبانوا عن مغارة ... فيها سراج ولحد قديم، ولمن سيكون .. إن لم يكن لنبي الله ، .. نبيهم الذي لم يخذلهم وصمد مقامه إلى الان، صحيح بأنه اصبح مربطاً لخيول اليهود، لكنهم حين حاولوا هدمه لم يستطيعوا،... ضربته الجرافة مثنى وثلاث وفي الرابعة أصابها العطب، فقالوا لأنفسهم ما لنا وماله، من أتاه ولد وكانت امرأته عاقراً، وقد وهن عظمه واشتعل شعره شيباً وبلغ من العمر عتيّاً ... وتذكّروا بأنهم عندما قتلوه ابقوا يده، محنطة، يرفعونها لربهم يستجدون المطر في زمن المحل..،.. يد نبي عمر 120 سنة..
أما مقامات البلد الأخرى فحالها اختلف ..
* * *
ومعها اختلف ختيارية البلد، فتراهم ينجرّون أحياناً كثيرة، دلالة عدم إصابتهم بلوثة البدع وانتفاء التحيّز الأعمى لنبيهم، من علامات البلد الأخرى:... من الشيخ حسن القائم وسط البلد ... غرفة صغيرة وقبّة تناسب صغرها بجانبها زرع أهل البلد قبور أعزائهم.
لمقام فاطمة ابنة الرسول له السلام وله البركات .. تقصدها نساء البلد ويسمّينها السائحة،.. تنذر الواحدة منهن وتشعل سراج الزيت الفخاري في المغارة المعتمة شرق البلد،…الشجر أمامها يصدم الوجوه . لم يكن زحيفاً ولا ميرمية،.. إنما عذق يفرش ويجلل السائحة في ارض الله الواسعة حزناً على اشرف الخلق...
أما الشيخ إبراهيم ،.. فمغره تشعبات صغيرة شمال البلد في ارض وعرة كلها حصى لعائلة (الشمارخة)،...عندما يمر بها الناس يتعثرون.... فيسرعون شروداً من غضب الشيخ إبراهيم الدائم.
وعندما تغيب الشمس تسقط في فضائها اللانهائي .. تخشى النساء من المرور بجانب مغارة سيدي العمري وتينته السبيل قاصدات بئر الصرار ارتعاداً من منظر الحجارة الكبيرة التي تحيط بالمغارة ويعيش بها العمري ليلاً حين يقوم من نومة السنين التي بلا عدد..
مقام السائحة نسفه اليهود،.. ولم يبق من الشيخ إبراهيم والشيخ حسن وسيدي العمري .. ولا حتى ذبابة زرقاء تدل على المكان وتسبح بحمد ربها أما مقام زكريا أبي يحيى ... أبي يوحنا المعمدان صامد، لا تهزّه ريح، عجزوا عنه، الذين عجزوا الأنبياء..
* * *
فكيف يعجز عن حرامية الجمال والحلال؟؟؟،.. وعن قوّالي السوء في أعراض البنات،.. مدعي مواطئ الأقدام في أراضي الغير، ومثيري مشاكل الإرث والنقود معمية الأبصار من سكان (عجور) و(بيت نتيف) و(بيت جبرين) والقرى المجاورة انتصاراً للقادمين إليه طمعاً في كسف من يحلف زوراً في حضرته.
* * *
تبقى الورقة غير المثقوبة، الأكثر تلويحاً في الأيدي المشققة، تلاك حكايا لا تملّ في أفواه ختيارية البلد،..عنه الذي وقت الزعل لا يعرف أخاه .. مهابا ... لا يقربه أحد ... يده طرشة كلوح الصبر الأخضر...العيبة على لسانه كالسلام عليكم.…عشيق بنت الكروم…حبها يجري في دمه... تخصص حزاني ... يشمّهن عن بعد ويفضل يحوس حول الواحدة منهن ولا يتعب حتى رقوده وهي في حضنه: عزباوات … دميمات ... جريحات الغادر،... ذلك هو الزمن الغادر في لغات الأرض وحكايا الحب والقدر والأمل المتبخر.
يأتي البلد، له فيها أصدقاء وأخت متزوجة،...عشري رغم عنتريته يعرفه الجميع لهم معه شذرات حكايا وطرق كلام،... ينزل عند أخته أو في حارات البلد ...
تلك الليلة نزل في حارة لدار محمد علي غرب البلد، حارة مشهورة يمرّ الشارع على بابها، القهوة فيها لا تنضب،… يكرم الضيف ... يتعشّى يحترم .. وينام،... ولكنه لم يكن كالضيوف، عابري السبيل ... نازلي البلد لغرض يقصدونه ويتوكلون قبل الفجر، مع النجمة.
أحاطه أصدقاء البلد،... يستمعون، كالعادة، لمغامراته . يحكي دون أن يصيب الجميع ملل، يشرق ...ويغرب،.. عن الجان والحيوان والبني آدميين والشجاعة والخوف وشرف الكلام ...، حتى قال:
- سبحانه ... جل بشأنه، كل بلد في نظر أهلها، كالقرد في عين أمه،.. وانتم أهل زكريا تحسبونه، عليه السلام ، مدفون عندكم ..
- طبعاً ...، وأين تريده أن يكون ...؟
- كيف عرفتم ... من قال لكم ...؟
- طيّب .. نوّرنا .. وهات دليلك ...
- الله ما شافوه .. بالعقل عرفوه، حكّوا عقولكم .. هل يرضى ربكم لنبيه أن تكون نهايته في بلد مثل هذه..!
- مالها بلدنا ... يا فهيم الزمان ... والأوان..!
- من يرحل كثيراً ... يَرَ اكثر ... ولو صدق المرء ناس القرى لوجد أن لكل نبي اكثر من عشرة قبور ...
ودارت عجلة الحكي عن الأنبياء وزمنهم المبارك السحيق: اختلاط حقائق وأساطير،...وكل يرمي بدلوه ...وهو ما زال متعتعاً بنوبة هزء من معتقداتهم...
تقدم الليل، تحدث أحدهم عن الجان الذي يسكن مغارة البهلول، وكي يوفر على الجمع كلام صاحبهم الناري قال متحدياً:
- إذا كنت غير مقتنع بذلك ... أرينا مراجلك واذهب الان إلى المغارة.
- افعلها ولا أخاف ...
- طيب اذهب وتعال ... نحن بانتظارك...
تفعلها... افعلها ... اخزوا الشيطان يا وجوه البشر ... نريد أن نتثبت من رواحك بعلامة...، اخذ وتدا وانطلق إلى المغارة.
انتظروه حتى بان الخيط الأبيض من الأسود،.. ولم يعد،...طلعوا المغارة وعادوا بحكاية من راح خطية زكريا أبي يحيى، وأضحى مثلاً تضرب به العبر.
* * *
بساط الحكي يتأرجح من شد الأولاد والختيارية، ويكون أبو تيسير، صامتاً، على غير عادته بشيء يشبه المعجزة، تتخلّق أمامه عوالم توحّد نادر وانكشاف البوح،.. يرمي مبسم الارجيلة ويفلت الحكي، نحو أولاد اليوم:
"انتم أولاد اليوم، من جهلكم ، تنجرون لمناقشة هؤلاء المخرفين ،.. عمكم التحسيني أول من وصل المغارة، فجر اليوم التالي، ومن غير عمكم يجرؤ على ذلك،... الذي عاش لا يهاب أحدا ويقول للموت تعال .. بالحضن لنرى من يبطح الآخر،..والأشواك بطول الرجل تسد فم المغارة الصغير، سكون الوحشة يلف الفضاء بثقل وطأته،..وبقايا رائحة ليل كان جاثماً على المكان،… استغفرت وعزمت،... عليه التوكل من قبل ومن بعد،...جرحتني الأشواك وأدمت اليدين والقدمين .. عندما أصبحت داخل المغارة اصطدمت قدمي بشيء صلب وحين اكتشفت بان ذلك ادمي مثلي مثلكم ... أصابني الهلع،... الإنسان بعد كل شيء له قلب ويخاف،... بسملت وحوقلت،... ليس سهلاً أن تسهر مع أحد الليل بطوله ثم ترسله لحتفه،... أخذت عيناي تتعودان عتمة المغارة ... كان جسمه ممدداً نحو الباب،.. متيناً .. جملاً أناخته أنفة وتحدٍّ، ووجهه ما زال متورداً وفي ذيل ثوبه كان ذلك الشيء الذي لولاه ما كان الذي كان، ورائي جاء رجال البلد ينعون من راح خطية أبو يحيى وفي احسن الأحوال ضحية تهوره والجان والأشباح، ولكن خذوا من التحسيني واسندوا، المنطق يقول ، وأنا أقول .. وصل المسكين المغارة ودق الوتد، وحين هم بالمغادرة شعر بشيء يمسك ثوبه، يشده .. يسمّره في مكانه ... تراءت له في لحظة، اقل من لحظة ... في طرفة عين، حكايات البلد عن المغارة وساكنيها، دون أن يدري بأنه دق الوتد في ذيل ثوبه ... ماذا تحسبون البني آدم الذي يسير قائلاً يا ارض اشتدي، ضربة ويهوي .. ونقول كان فلان رجلاً... شهماً ... أو ناقصاً ... افضل منه الكلب.
أما اختيارية اليوم .. شباب زمان . أما انهم لم يروا ذلك ... أو كابروا مثلي أو ضربتهم غشاوة فشبه لهم"
فتابع باسل جذلاً بتحسسه بواطن استبصار جديدة، غامزاً نحو الختيارية الصامتين:
- لذا ترى واحدهم يحلف بأولاده وأمواته و 114 سورة بأنه شهد بعينيه، اللتين سيأكلهما الدود واقعة من خدش بعنتريته وقلة فهمه مألوفهم الغامض.