خانتنى " أمى " وتركتنى مع هواتف " ذكية " وبشر " أغبياء "

 بقلم د. منى نوال حلمي

أكتب هذه السطور ، وأجندة الزمان تخبرنى ،  أن اليوم الجمعة 21 مارس 2025 . الناس من حولى يحتفلون بعيد الأم ، وبدء موسم الربيع ، عيد ميلاد " نزار " ، واليوم العالمى للشِعر .
         اليوم الجمعة 21 مارس ، أربع سنوات  على اليوم الذى انتزع أمى ،
"  نوال " ، من سريرها الدافئ ، وأوراقها ، وأشيائها الحميمة ، شدها من أحضان ابنتها ، وابنها ، ولا همه عيد الأم ، ولا الربيع ، ولا ميلاد " نزار " ، ولا الشِعر .
         لم أكن أريد فى الأصل ، التورط فى هذا العالم ، بأى شكل من الأشكال .  
 عالم يبيع ويشترى ، أى شئ ، وكل شئ .   فى أى وقت ، وفى كل الوقت . " سوق سوداء " كبيرة ، تبدأ بالخبز والماء ، والخُردة ، والعواطف والوطن . سوق " حُرة " ، تستعبدنا فى نظام عالمى يجدد الأقنعة ، عابرة الحدود .  
       عالم نملك فيه كل الأشياء ، الممكنة والمستحيلة . ولا نملك أنفسنا . قيمة البشر ، فى فلوسهم . وقيمة فلوسهم من سرعة تراكمها .  
    حضارة معطوبة العقل ، فى قلبها داء موروث ، كيف أئتمنها وهى تعطينى الدواء ؟.        نساء ورجال ، يتكاثرون ، حتى لا يغضب " الجين " الأنانى ، الطامح الى الخلود .  
    كيف أصادق امرأة ، ترى أن أعز ما تملك ، هو " حِتة " غشاء فى النصف الأسفل من      
      الجسد ؟.
   كيف أحاور رجلا ، يؤمن بأن الحياة ، ليست الا سجادة صلاة ، وسريرا للنكاح؟.
ماذا يفيدنى عالم مهووس بانتاج الهواتف الذكية ، وتصنيع البشر الأغبياء ؟.  
   وبقيت فعلا خارج هذا " السيرك " ، أو الدنيا كما يسمونه ، حتى تمت الموافقة على شروطى .  
      " رحم " تلك المرأة ، من بين كل أرحام النساء ، كان شرطى الوحيد ، للمجئ على كوكب الأرض . لا يهمنى منْ يكون الأب . فأى رجل كفيل بتكملة المهمة . المهم " هى " .
   لم أكن أرضى سوى " نوال " ، لكى تأوينى ، وتطعمنى ، وتسقينى ، التسعة شهور الأولى من وجودى . راقبتها طويلا ، قبل أن أتأكد أنها " الأم " التى أحلم بها .
      لم أتعود على حياة ، ليست فيها أمى .
لا أعرف كيف أعيش ، بدون عينيها السوداوان ، وشعرها الأبيض ، وضحكتها الطفولية تنبئنى بالحادث السعيد : " خلصت المقال يا نوونا ... هابعته دلوقتى .. ياللا نتعشى ".  
    مضى بيننا  العمر ، ولا أعرف النوم ، الا بعد أن أغطيها بيدى ، أغرقها بقبلاتى ، وأدلك قدميها بماء الورد .  
    " خانتنى " أمى ، وتركتنى . وأنا أخونها كل يوم ، أعيشه بدونها . أصبحنا متعادلين .  
    فى مايو 2024 ، بعد عامين من رحيل أمى " نوال " ، صدرت الطبعة الثانية من المجلد العالمى " كُتاب غيروا التاريخ " دار نشر DK  تابع Penguin Random House  نيويورك 2018 . واختيرت أمى ، واحدة من هؤلاء الكُتاب ، منذ العصور الوسطى ، وحتى القرن الواحد والعشرين . على الغلاف الملون ، تظهر صورة أمى ، بالجاكت البنفسجى ، وسط ويليام شيكسبير ، فرجينيا وولف ، مارك توين ، صموئيل  بيكيت .
    أتأمل أمى ، تضئ الغلاف بشعرها الفضى ، أهنئها : " مبروك يا ماما .. انه الانجاز العالمى الأعظم الذى يليق بكِ ".
      منذ الأحد 21 مارس 2021 ، الثانية عشرة ظهرا ، وأنا بلا أم .
" حقيقة " سأظل أصارعها ، بكل ما أوتيت من أسلحة . وان هزمتنى ، يكفينى نبل المحاولة .    
       منذ الأحد 21 مارس 2021 ، الثانية عشرة ظهرا ، وأنا أنام فى غرفتها ، وعلى فراشها ، أرتدى معطفها الأزرق ، الذى أصبح باهت اللون ، عندما أزاحوه عن جسمها ، يوم الرحيل .

            **********************************************************
    أنا التى تلعب بثمانية وعشرين حرفا ، من الأبجدية  ، كما تلعب طفلة وحيدة بطائرة من ورق ، أكون لعبة لثلاثة حروف ... ف ر ح ؟.
        " الفرح " ، كم أتعبنى هذا الرجل . لا هو فى أعماق البحر ، ولا على قمة الجبال . ليس ثمرة مختبئة بأغصان الشجر ، ليس برقا أو رعدا ، أو قطرة هاربة من قطرات المطر . فتشت فى الأدراج السِرية ، على الشِفاه المرتجفة ، والحكايات المنسية . أسمعه يهمس لى :
   " أيتها المرأة التى تحب الحكمة ، ولا تسترشد بها .. نقشت على يديها الحِناء ، استحمت بماء الياسمين  ،  ألا زلت تنتظرين " ليلة الدُخلة " ، تزفك على " الرجل " ، الذى لم ينصف أبدا بينك وبين النساء .. لم يعتمد ملامحكِ وقوامكِ وشعركِ الأبيض ، فى الجريدة الرسمية لتعريف " الأنوثة "......  سنوات والباب " الموارب " ، لا يدخله الا اللصوص ، والذباب ، نظرات الجيران ، فواتير واجبة الدفع والسداد ، اعلانات عن تخفيضات غشاء البكارة ، صنع فى الصين .......... لماذا لا تفهمين ؟..... لماذا تبحثين دائما فى العنوان الخطأ ؟........  
   " ابحثى فى  الداخل " ، فالكون كله موجود فى قلبك . لا تنكرى ذاتك ، ابقها مُعززة ، مُكرمة ، لأنها عند تهدم العش ، ستكون أجنحتك الى العلياء . لا تسمعى لمنْ يكسر مجاديفك ، يقلل من مكانتك ، يرخص من مبادئك ، يتجاهل انجازاتك . لا تصدقى كلامهم ، أن  أجمل القطارات خلاص فاتت ،  وأن بضاعتك  منتهية الصلاحية ، من 3000 سنة قبل الميلاد ......  
  قولى لهم جميعا ، ولكل منْ يهمه الأمر : أنأ لست قطرة فى البحر ..... أنا البحر ".