الشاعر المصري محمد سليمان: القصيدة العمودية لم تمت ولكنها بحاجة إلى شعراء موهوبين
تعريف الشعر يقتله وعندما يتخلى الشاعر عن دوره يتحول إلى أفاق
الشاعر محمد سليمان القاهرة: محمد أبو زيد
برز الشاعر محمد سليمان كأحد الشعراء المتميزين في موجة شعراء السبعينيات في مصر. وتبلور ذلك في الكثير من أعماله الشعرية ومنها «سليمان الملك» و«هواء قديم» و«بالأصابع التي كالمشط» وغيرها، والتي وظف فيها بشكل لافت روح التراث الشعبي سعيا لخلق أسطورة خاصة نابعة من هموم الواقع اليومي الحي. كما ان له تجربة في المسرح الشعري، وترجمت مختارات من شعره إلى الإنجليزية والفرنسية والاسبانية والهولندية. حول تجربته ورؤيته للمشهد الشعري في مصر هذا حوار معه. * تبدو العلاقة بالآخر هي الإشكالية الأساسية في ديوانك الأخير «تحت سماء أخرى» كيف ترى ذلك؟ ـ هذا صحيح، وهناك ديوان آخر تحت الطبع اسمه «اكتب لأحييك» تمثل العلاقة بالآخر محوره الأساسي والرئيسي، واعتقد أن الآخر بوجه عام في كل أعمالي بارز كمحور مضيء من محاور النصوص، ربما لأنني أظن أننا نخاف الآخر وأننا نغزل باستمرار الحواجز والسدود وأننا نتخلف لأننا لا نعرف أنفسنا جيدا، بسبب جهلنا بالآخر، وان تعرف الآخر هذا يعني انك بداية عرفت نفسك وذاتك، وكل ذلك يمثل بالنسبة لي هما شخصيا من هموم تجربتي الشعرية فنحن الآن تقريبا في صدام مع العالم، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وهذا الصدام في رأيي بسبب جهلنا بأنفسنا وبالآخر في الوقت نفسه وقد ينتج عنه سوء الفهم الكبير والخوف، والشك والعنف، لذلك كنت أرى أن علينا أن نبدأ من معرفة الذات، ومع معرفة لا تكتمل الا بمعرفة الدوائر التي تتحرك فيها هذه الذات وهنا سأصطدم حتما بالآخر. * هل لهذا علاقة أيضا بإصرارك على طرح سؤال الهوية في العديد من نصوصك؟ ـ المعرفة هي معرفة للهوية، وكل هذه القضايا هي قضايا كبرى وصغرى في الوقت نفسه فهي كبرى لأنها تحدد مصائر الأمم ومساراتها وصغرى لأنها تحدد للإنسان طاقاته وتوجهاته، بل وأحلامه وطموحه، المعرفة والهوية لا ينفصلان، فبالمعرفة نغترف من الهوية كل ما يتعلق بذاتنا والآخر أيضا. * وشعريا، ماذا يعني لك الآخر؟ ـ قد يتطرق إلى الذهن الآخر الغربي أو المعادي، لكن الآخر في الشعر كما افهمه هو الآخر بوجه عام، هو الآخر، والجار، والمواطن، والأجنبي هو كل الآخرين بخلاف ذاتي ولا تنسي إنني قرأت في الفلسفة الوجودية، وفي الأدب الوجودي وكانت هناك رواية مرفوعة هي (الآخرون هم الجحيم) وهذه العبارة استوقفتني كثيرا، ووجدت أنها تقود في النهاية الى عزلة، ووحشة، فالآخرون ليسوا جحيما، بل شركاء في الحياة، وهم يتنافسون معي من أجل الأفضل، اذن لكي أكون موجودا يجب أن يكون الآخر موجودا، وفي مواجهتي، ولا توجد ذات مغلقة بل هي دائما محاطة بالآخرين، وبالأمكنة وبالتالي بتراث معرفي وحضاري وعليها في الوقت نفسه أن تبحث عن أبواب للخروج من كل هذه المأزق وفي الديوان الأخير، ستكتشف أن الآخر هو الأجنبي، لان الديوان كما بينت كتبت معظم قصائده في شيكاغو وايوا لأنني كنت في رحلة لأميركا، وهذا الآخر هو الذي يراني بشكل خاطئ، فجوليا تظن أن الجاحظ فأس، وأبو العلاء سارق خيول، ولا تشبه نفرتيتي، كما انني أيضا، لا اعرف عنها الكثير، إذن الصدام مع الآخر هنا، جاء كنتيجة لتجربة حياتية عشتها هناك، ومحاولة للتعبير عن الهوة، وفي الوقت نفسه بناء جسر فوقها، فالآخر له تجليات متعددة. * جوليا، ونورا، وهالة، تبدو لي في أحيان كثيرة انك تسقط في غواية الأسماء؟ ـ ربما لأنني انطلق من آخر متجسد معروف لي، جزء من تجربتي الحياتية ومن تكويني لا اخترعه ولا اخترع أسماء بل هي أسماء لأشخاص حقيقيين، فالشخصيات من دم ولحم، في نورا كنت أحاول أن اخلق أسطورة من شخص عادي، على عكس ديوان «سليمان الملك»، الذي كانت فيه الشخصية مستمدة من التراث. * ألا يسقطك هذا في شرك الرومانسية؟ ـ لا أتصور انه عندما تكون هناك تجربة حب أن يكون هناك بالتالي جو رومانسي، ونحن اعتدنا للأسف أن نخاف من الرومانسية ومن الكلاسيكية ومن الرومانسية الجديدة، ونتوهم أن هذه المصطلحات تدل على القصور والتخلف، وهذا خطأ، وقابلت شاعرا في هولندا سنة 1994. كان اسمه يان كانوا يصنفونه في كل المدارس من الكلاسيكية الحديثة، إلى ما بعد الحداثة وكانوا في الوقت نفسه يتحدثون عنه كأنه شاعر هولندا، وهو من نفس جيلي اذن هذه المصطلحات قد تكون مديحا للشاعر وللشعر، فنحن حين نتحدث عن النص الكلاسيكي، نشير إلى انه نص أساسي للإبداع، واصبح في المتن. * تبدو أعمالك بداية من «سليمان الملك» وانتهاء بـ «تحت سماء أخرى» كأنها نص واحد طويل، كما أنها مفارقة لديوانيك الأولين «قصائد رمادية» و«أحاديث جانبية» في أكثر من منحى، ما رأيك؟ ـ تجربتي الأساسية تبدأ بديوان «سليمان الملك» وما قبله كانت القصائد الأولى التي يمكن للباحث أن يجد فيها البذور الأساسية للدواوين التالية، واعتقد ان كل ديوان لي هو نص واحد يتشكل تحت عناوين مختلفة، ولكن كل ديوان لي هو سياق شعري، تجربة واحدة، وربما لهذا السبب لم أصدر حتى الآن مختارات، لأنني لا أستطيع اختيار مقاطع من «بالأصابع التي كالمشط» او «سليمان الملك» لان كل ديوان هو مقاطع عديدة، ونغميات مختلفة، فهناك قصائد تعتمد على تفعيلة عادية، أو نغمية مختلفة، ويجب أن يقرأ على هذا الأساس، وهناك ثلاثة دواوين لي لم تنشر أيضا هي «مثل وحيد القرن» و«اكتب لأحييك» و« كتاب الرمل»، وكل منها يمكن اعتباره كذلك أيضا. * هل يفسر هذا ان كل دواوينك يمكن اعتبارها قصائد واحدة طويلة؟ ـ هذا صحيح، لأنني عادة خلال سنة الى ثلاث سنوات اكتب قصيدة واحدة، أكون منشغلا بها، ولأنني في هذه الفترة أعيش تجربة واحدة تنضج في النص من خلال التأمل الذي يغرس التجربة المحملة بخبرات حياتية. لذلك فأنا ازعم أنني اكتب قصيدة واحدة لعدة أعوام حتى تكون ديوانا، او أكثر من ديوان. * يصف البعض أعمالك الأولى بأنها قائمة على الإبهام والمفاجأة ما رأيك؟ ـ ازعم أن هذا إلى حد ما صحيح بالنسبة للقصائد الأولى، وكذلك معظم قصائد أبناء جيلي، ربما لأننا كنا مبهورين بالصورة الشعرية، وما يسمى بتراكم الصورة وازعم أن هذه التقنية أفسدت قصائد عديدة لشعراء السبعينيات، ودمرت عددا من الشعراء، ولم ينج منهم إلا من اكتشف هذه الآفة، التي كانت تتمثل في اللعب بالمضاف والمضاف إليه وكثرة النعوت وما يشكله ذلك من صور شعرية مجانية لا قيمة لها، ولا تضيف شيئا إلى النص وتسبب قدرا من الغموض كما كان هناك هوس التجريب، ورغبة الشعراء في قول كل شيء في القصيدة الواحدة، وهذا يدمر أي نص، ولا يمكن أن تدير ظهرك للنعوت، ولكن يجب التعامل معها بتفكير وحساب، ويجب على الشاعر أن يعرف أن النعت اذا لم يضف يضر. * هل تقوم بعض قصائدك على التداعي؟ ـ ليس التداعي، ولكن هناك بعض قصائد تعتمد على السرد الفني، والسرد لكي يتشكل مشهدا، يتألف بدوره من عدد من الصور، وقد يتصور البعض او يظن في نتاج هذه الصور نوعا من التداعي بينما هي تشكل مشهدا ما. * يرى البعض ان «هواء قديم» يتشابه كثيرا مع ديوان «بالأصابع التي كالمشط» مع«أعشاب صالحة للمضغ» في يتيمات الكتابة، وانه ليس ثمة تطور كبير حدث، ما رأيك؟ ـ لا يوجد ديوان يشبه الآخر لانه كما قلت لك عندي خمسة دواوين بداية من «سليمان الملك» هو تجربة يغلب عليها الطابع الميثافيزيقي والتراث الديني والأسطوري بينما في «بالأصابع..» حالة مخالفة حيث أحاول خلق أسطورة من الواقع، وهناك مسافة في التقنيات، وفي أساليب تكوين الصورة، وهناك نغميات مختلفة، وفي «أعشاب صالحة للمضغ» هناك تجربة العودة للطفولة وغزل هذه التجربة مع الواقع، وتحولات الواقع، فسنجد أوراق العائلة، والأشياء الأساسية التي لعبت دورا محوريا في تجربتي الشعرية والحياتية. وهناك تقارب بين هذا الديوان والديوان التالي «هواء قديم» رغم أن هواء قديما يميل إلى البساطة أكثر، والرغبة في الوصول الي القرية والالتحام بها، أما الديوان الأخير فهو تجربة تختلف عما سبق ربما لأنني رأيت الآخر مباشرة، ولم اقرأ عنه، ومن هناك أيضا رأيت ما نحن فيه من بؤس وانهيار وترد. * تعود في هواء قديم إلى قريتك، وأشيائك الأولى، هل تمثل الطفولة منجما لشاعريتك في اعتقادك؟ ـ الطفولة كنز لكل مبدع وأظن ان مرحلة القرية ذات تأثير بالغ الأهمية في تكويني الحياتي والثقافي، ولأنني ما زلت على علاقة حتى الآن بأسرتي وقريتي وصورتها قائمة وموجودة دائما. وكل ما هنالك يذكرني باستمرار بأحلام الطفولة، بما كنا وما صرنا إليه في الوقت نفسه، من تلك العلاقة. حتى في أعمالي الأخيرة، الذاكرة هي مجال نشرب منه طوال الوقت، وأتصور ان الشاعر قد وجد لكي يخدم الشعر، وكتابة الشعر نوع من العبادة، وعندما يتخلى الشاعر عن دوره يتحول الى أفاق. * تولي في قصائدك أهمية كبيرة بالمكان، بصيغه وأشكاله المتعددة إلام يعود ذلك برأيك؟ ـ أتصور أن الشاعر يعيش في مركز دائرتين، دائرة صغرى هي المكان بكل فنونه وتراثه الشعبي وأساطيره، ودائرة كبرى هي الثقافة بوجه عام، الصغرى دائرة المكان تمنح الشاعر ما يميزه، فالاتكاء على المكان يعني انك تتكئ على ذاتك، وعلى تجاربك الحياتية وعلى تراث وطنك، ومنجزاته الفكرية والثقافية، ثم تنطلق الى الثقافة العالمية، وانا استخدم كثيرا في قصائدي التراث الشعبي المصري، والأمثال وأجزاء من مواويل، واذا لم يكن الشاعر عارفا بتراثه الشعبي سيصطدم بالغموض والابهام، وعندما تقرأ في «هواء قديم» ستجد مقطعا يبدأ بـ «لم ينم البحر لاصبح مليونيرا»، وهو شكل من التناص مع أسطورة ان البحر ينام وان المحظوظ هو الذي يكون هناك عندما ينام البحر ومن هنا جاءت الاغنية الشعبية «البحر نايم نايم والله لاخذ غطسه وارمي عليك الشبك وأقوله يتوصى». فالتراث الشعبي يأتي من القرى والحقول والأحياء الشعبية، فالثقافة الشعبية هي التي تحرك الوطن، نحن نكتب للنخب منذ بداية الأزمنة، فإذا أهملنا هذه الثقافة الشعبية دمرنا كل شيء. *رغم انك تعود كثيرا إلى الماضي في قصائدك، وتجتاز المستقبل، إلا أن «المضارع» يظل مهيمنا، أريد أن تحدثني عن أهمية الزمن بالنسبة إليك؟ ـ اعتقد انه ما دام الشاعر يعتمد على توظيف الذاكرة فانه سينتقل كثيرا بين الأزمنة من الماضي إلى الحاضر، وسيتحرك أيضا الي المستقبل وستجد في «هواء قديم» إنني أتحدث عن المستقبل، وأنا ارحل في ذاتي، والذات التي تتشكل منذ ولدت، وبالتالي هناك هذه الذات ومورثاتها وما اكتسبته من تجارب، وعلى الشاعر أن يوظف كل ذلك في نصوصه الشعرية. * رغم ارتباط السرد بقصيدة النثر، إلا أن السرد كقيمة فنية يتبدى بشدة في قصائدك رغم انك تكتب القصيدة التفعيلية العادية؟ ـ السرد ولد مع الشعر العربي ومعلقة امرؤ القيس مليئة بالسرد وهو يمثل عند صلاح عبد الصبور وحجازي وأمل دنقل وعفيفي مطر، عنصرا رئيسيا في تشكيل القصيدة. فالسرد يمثل ظاهرة في الشعر المصري، وهو ملتصق بالشخصية المصرية، وكلنا تربينا على الحكاية لدرجة ان اصبح السرد علامة من علامات الشخصية المصرية وبالتالي ورثنا هذه الخاصية وتصدرت المشهد الشعري كله على مدى قرن كامل وللأسف لم ار باحثا اهتم بالسرد كظاهرة خاصة تتصدر المشهد الشعري ولا أنكر ان هناك سردا في الشعرية العربية، ولكن ليس بهذه الكثافة، وربما يقربني هذا من قصيدة النثر مع استخدام نغميات خاصة. * بمناسبة النغميات، يرى البعض انك تلجأ الى كسر الاوزان العروضية بحجة خلق نغميات خاصة؟ ـ لا ألجأ الى كسر العروض، وانما الى إعطاء الجملة الشعرية حقها كاملا في اختيار نغميتها، هناك كلمة تحدد الوزن، مجرد كلمة أولى في بيت شعري أي تحدد قفصا وأنا انفر كثيرا من ذلك القفص، وأحاول ان امنح القصيدة حقها كاملا في اختيار نغميتها، او اصنع نغمية تمزج العديد من التفاعيل مثل قصيدة البراري في الديوان الأخير، ومعظم المقاطع الكبيرة، لا تخضع للبحور الصافية، وانما تعتمد على تشكيل نغميات من بحور عديدة أهمها الرجز والمتدارك والمتقارب، لأني أحس ان البحور الستة الصافية ضيقت على الشعراء، وان اللغة العربية مسكونة بالنغميات وان من حق أي شاعر ان يسعى للخروج من هذا أو خلف نغميته الخاصة بحرية كاملة وأنا حتى الآن انفر من تعريف الشعر لان تعريفه يقتله.