كنت كغيرى مهتما بتصريحات الدكتور محمد البرادعى فى الخارج، خاصة عندما أعلن فى CNN أنه يعتزم خوض انتخابات الرئاسة المقررة فى 2011 إذا ما رفعت القيود الدستورية على الترشيح. حاولت الصحف القومية تلويث سمعة البرادعى بأكبر قدر من البذاءات والشائعات، من بينها مثلا أنه حاصل على الجنسية النمساوية، ولكننى تحققت من كذب هذه الشائعة، أما الشائعة الأخرى فإنه عميل للولايات المتحدة، وأنه هو الذى أعانها على غزو العراق عندما قام مع وزير الخارجية السويدى السابق هانز بليكس بالتفتيش على الأسلحة الكيماوية والبيولوجية العراقية، فلم تكن تقوم على أساس. قررت الذهاب إلى المطار لاستقبال الدكتور البرادعى يوم الجمعة 19 فبراير 2010، وتجمع نحو ثلاثة آلاف شخص فى المطار، تأخرت الطائرة نحو ثلاث ساعات، وعندما استطاع الرجل أن يجد طريقه بين الجموع التى تدافعت تجاهه، فوجئت به يستقل سيارته وينطلق بها وسط الشباب الذين كانوا قد قضوا ساعات فى ساحة المطار ينادون باسمه، فلا تتوقف السيارة لحظة لتحيتهم، وإنما تنطلق بسرعة حمقاء لا تمكِّنه من أن يطل عليهم من كرسيها الخلفى وراء الزجاج المغلق. فى 23 فبراير استضاف الدكتور البرادعى أغلب ممثلى القوى الوطنية وعددا من الشخصيات المستقلة فى منزله فى اجتماع أعد له د. حسن نافعة، وكانت هذه أول مرة ألتقى فيها البرادعى. توصل المجتمعون إلى ضرورة تأسيس جمعية وطنية للتغيير يعلن البرادعى قيامها، وقام عصام سلطان بكتابة بيان مختصر، ولكن البرادعى تردد كثيرا قبل أن يمتثل للضغوط، ويوافق على أن يعلن قيام الجمعية بنفسه، وأكد أن ذلك لا يعنى أنه رئيسها. فى الأيام التالية بدأ البرادعى يباشر بنفسه وضع تصور لخطة عمل الجمعية وآليات تنفيذها، وعقد اجتماعا مطولا لهذا الغرض مع حسن نافعة ود. أبوالغار ود. الأسوانى، ثم سافر. اتفقنا بعد عودة البرادعى على توزيع العمل بيننا فى لجان يعيَّن لكل منها مسئول، فأصبح الدكتور عبدالجليل مصطفى مسئولا عن الاتصال والتوقيعات على بيان الجمعية، والدكتور أبو الغار مسئولا عن المصريين فى الخارج، والدكتور محمد غنيم وجورج إسحق مسئولين عن لجان المحافظات، والمستشار الخضيرى مسئولا عن اللجنة القانونية، وعصام سلطان مسئولا عن مساندة الأعضاء، أما أنا فكلفت بأن أكون المتحدث الإعلامى للجمعية.
معلومة مغلوطة بعد أن التقينا الصحفيين انتحيت بالدكتور البرادعى جانبا، قلت: «يا دكتور محمد أنت تعلم بالطبع أننى ناصرى، ولكن ما سأحدثك فيه الآن لا ينطلق من هذه الخلفية، فقد عاهدنا أنفسنا جميعا أن نطرح جانبا معتقداتنا السياسية ونعمل أولا على إحداث التغيير، لقد قرأت اليوم حديثك فى جريدة المصرى اليوم، ويؤسفنى أنك ذكرت فيه معلومة مغلوطة هى أن عبدالناصر دفن الإخوان المسلمين أحياء فى سنة 1967، هذا أولا غير صحيح، لكن الأهم من ذلك أن نشره سوف يستعدى الناصريين، ونحن لا نريد استعداء أى فريق سياسى، بينما نعمل على تجميع الكل حول أهداف الجمعية»، طمأننى الدكتور البرادعى أنه سيراعى ذلك فى المستقبل. فى اليوم التالى نزل البرادعى إلى الشارع لأول مرة ليصلى الجمعة، وبعد أن طاف بشارع المعز توجه للصلاة فى مسجد الحسين، كنا نظن يومها أن احتكاكه بالناس سيدفعه للنزول إلى الشارع واللقاء بالجماهير، إلا أن استقباله فى الحسين لم يثمر سوى عن افتتاحه لحسابه الشهير على «تويتر»، وكنا قد لاحظنا قبل ذلك أنه وجه شكره للشباب الذين استقبلوه فى المطار من خلال رسالة فى «فيس بوك»، أما عندما أعلن عن حضوره مؤتمر «الحملة الشعبية لدعم البرادعى» فى 17 ديسمبر 2010، فقد غاب عن المؤتمر، وفسر غيابه بمرض والدته، وألقى كلمة فى المؤتمر عن طريق الموبايل.
التواصل بالإنترنت منذ اليوم الأول كان البرادعى يتحدث إلى الناس عن بعد، وكان غرامه بشبكة الإنترنت واضحا، وكانت هى وسيلته الأولى للاتصال بمؤيديه بل وبأقرب معاونيه أيضا، وعندما أبلغناه اندهاشنا لسفره بعد أيام من استقباله الحماسى فى المطار كان رده جاهزا: «الإنترنت ألغت المسافات»، وكان يكرر هذا الرد كلما سافر. أما أثناء وجوده فى القاهرة فكان برنامجه مزدحما بلقاءات وفود من مختلف الطوائف، ومن الشباب خاصة، لكنه لم يعقد مؤتمرا جماهيريا واحدا، لم أستطع وقتها أن أجزم بالسبب فى ذلك، هل لأنه ينفر من الجماهير، أم لأنه يخشاها، أم لأنه يحتقرها؟ لم أكن قريبا منه بالقدر الذى يمكننى من التعرف على ما فى داخله.
سندوتش فول كنا كثيرا ما نتندر فيما بيننا وقتئذ بقصة سائق المستشار الخضيرى الذى كان يتأفف إذا ما علم أنه سيقل المستشار من الإسكندرية إلى القاهرة ليقابل الدكتور البرادعى، شاكيا أنه عندما يذهب إلى هناك فهو عادة ما يحتاج إلى واسطة للحصول على كوب من الشاى. ولكننا ونحن نتندر على ما فى الأمر من طرافة كنا نعرف دلالته، وهى أن الدكتور البرادعى ومن حوله لم ينجحوا فى التواصل الإنسانى مع من يترددون عليهم، بل إننا نحن المسئولين فى الجمعية، الذين سمتنا الصحف «أمناء سر البرادعى» أو «حكومة الظل»، لم يعرض علينا مرة إذا ما تأخر اجتماعنا لديه فى المساء أن نتناول سندوتش فول أو نذهب إلى مطعم قريب نتناول فيه عشاءنا معا، لم نجد فى طباعه أى لمسة شرقية. الأهم من سندوتش الفول أن لا أحد منا كان يستطيع أن يتصل بالبرادعى مباشرة، فقد احتفظ برقم هاتفه سرا على الجميع، وكان الطريق الوحيد للاتصال محصورا فى شقيقه على البرادعى الذى يلازمه كظله، نقول له ما نقول وننتظر الرد أيضا من خلاله، أما إذا كان هناك أمر عاجل فلا سبيل لإبلاغه سوى من خلال البريد الإلكترونى، وكنا نكظم غيظنا؛ آملين مع مرور الأيام أنه سوف يدرك أن هذا الأسلوب لا يليق مع القامات التى التفت حوله.
أزمة المبعدين الأزمة الحقيقية التى واجهت الجمعية كانت قد وقعت يوم 8 أبريل عندما أبعدت الكويت 26 مصريا كانوا فى طريقهم كعادتهم كل أسبوع إلى مقهى للتشاور فيما يمكنهم عمله للحصول على حقهم فى التصويت فى انتخابات بلادهم، وهو الحق الذى دعت إليه «الجمعية الوطنية للتغيير» ضمن مطالبها السبعة. معظم هؤلاء تم اعتقالهم فى اليوم السابق للموعد، والبعض اعتقلوا من أماكن عملهم، وسيقوا مقيدين بالأغلال أمام زملائهم كأنهم مجرمون فى حوادث جنائية، وآخرون اختطفوا، وهم فى طريقهم إلى المقهى، واحتجز عدد آخر لأنه تصادف وجودهم لمجرد الفرجة بعد أن بات الجميع ليلة لدى أمن الدولة تعرضوا فيها لتحقيقات مضنية حول صلتهم بالدكتور البرادعى، بدأت السلطات الكويتية فى ترحيلهم فى اليوم التالى دون أن يقدموا للمحاكمة. كنت على صلة بواحد من هؤلاء المرحلين فاتصلت بى عائلته تبلغنى الخبر، فنقلناه للدكتور البرادعى، ولكننا كنا نعرف أن تعليقه سيأتينا متأخرا خاصة أنه كان فى إجازة فى منتجع بالبحر الأحمر طالت بضعة أيام بمناسبة شم النسيم. اتصلت بالدكتور حسن نافعة واتفقنا على إصدار بيان عاجل نستنكر فيه الحادث، وعلى الاتصال بالسفير الكويتى بالقاهرة، وعلى إخطار المحامى عصام سلطان المسئول عن لجنة مساندة الأعضاء، وأخذنا فى إبلاغ منظمات حقوق الإنسان المصرية والكويتية والعربية بالخبر فى سعى ليعامل المرحلون معاملة حسنة إذا لم نستطع إيقاف ترحليهم من الكويت. صغت البيان واتفقت على نصه مع حسن نافعة وأرسلته للصحف، وأرسلت النص إلى على البرادعى، فإذا به يرد برسالة يطلب منى فيها إيقاف توزيع البيان أو سحبه إذا ما كنت قد أصدرته، وأضاف أنه قد «تم الاتفاق على أن الدكتور البرادعى هو وحده المخول بإصدار بيانات باسم الجمعية»، ثم نقل لى نص رسالة الدكتور البرادعى، بالإنجليزية كالعادة، ترجمة رسالته تقول: «هذا البيان يمكن أن يصدر بصفة شخصية، على لسان شخص أو مجموعة أشخاص، ولكن ليس باسم الجمعية، إننا لا نعرف القانون الكويتى، ولا نريد أن ندخل فى نزاع مع الحكومة الكويتية أو حكومات عربية أخرى، نحن لا نعرف كل الحقائق، كما أن الجمعية التى تمثل جميع المصريين يجب أن يقتصر حديثها على مطالبها السبعة المتفق عليها، أما باقى الأمور فيجب التعبير عنها فى تصريحات خاصة كما أفعل أنا فى تويتر، وهذا الموضوع بالذات يخص الحكومة المصرية حتى الآن».
كذب صدمتنى الرسالة لأسباب عدة؛ أولها أن الدكتور البرادعى لم يكلف نفسه الاتصال بى أو بأى من الزملاء لاستيضاح الأمر ومناقشة التصدى له. السبب الآخر هو أن الرسالة فيها كذب لا وصف آخر له غير الكذب؛ إذ إننا لم نتفق من قبل على أن إصدار بيانات الجمعية مقصور على البرادعى وحده، ثم إن ما فاجأنى أيضا كان معالجة الموضوع بأسلوب المنظمات الدولية البيروقراطى، وخذلان أنصارنا. أرسلت الرد، وكان نصه: «الأخ الأستاذ على البرادعى، أبلغتنى فى رسالتك أن الدكتور البرادعى هو المخول وحده بإصدار البيانات باسم الجمعية كما هو متفق عليه، وبالرغم من أننى لم أبلغ باتفاق كهذا فإن الرسالة على هذا النحو تلغى مسئولية اللجنة الإعلامية أو المتحدث الإعلامى، وهكذا فإننى أطلب منك إبلاغ الدكتور البرادعى والزملاء المسئولين عن بقية اللجان أننى أعفيت نفسى من أى عمل إعلامى يتعلق بالجمعية التى سأظل وفيا لأهدافها السبعة من أجل التغيير، تمنياتى».
مع الجنزورى كنت وقتها على صلة بالدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق، كان قد اتصل بى عندما أذيع حديثى مع عمرو الليثى ليهنئنى على الحديث، وكان هذا أول اتصال بيننا، قال إنه يود أن يرانى، فذهبت إليه فى مكتبه الخاص الذى لم يكن يبعد عن بيتى كثيرا فى مصر الجديدة، وبعدها أخذت أتردد عليه بانتظام. كان شديد الانتقاد للحلقة المحيطة بمبارك، وقارئا جيدا للمقالات السياسية، وفى أكثر من مرة طلب منى أرقام تليفونات الكتاب المعارضين ليبلغهم إعجابه بما كتبوه أو ليناقشهم فيه، وحمَّلنى رسائل إلى البعض منهم، وعندما أسسنا الجمعية الوطنية للتغيير حاولت أن أحثه على إصدار بيان يعلن فيه معارضته للحكم، ولكنه آثر التريث حتى لا يرتبط ذلك بعودة البرادعى، الذى لم يكن متحمسا له حماسه للجمعية، كان شديد الانتقاد لغياب البرادعى المتكرر عن مصر، وكان دائما ما يطلب منى أن نضغط عليه حتى يعود.
مقر للإيجار يئست مجموعتنا من الحديث عن حضور البرادعى وغيابه، إلَّا أننا عندما اجتمعنا فى 9 مايو ناقشنا أمرا آخر كنا قد بحثناه من قبل، هو البحث عن مقر للجمعية يجرى فيه البرادعى لقاءاته، ونعقد فيه اجتماعاتنا. وكنا قد حدثنا البرادعى من قبل فى ذلك، متسائلين عما إذا كان مكتب والده للمحاماة فى وسط البلد يمكن أن يصلح للغرض، لكنه قال إن المكتب شأن العائلة لا شأنه، فطلبنا من جورج إسحق أن يوظف اتصالاته للبحث عن مكتب نستأجره. بلغنا جورج فى اجتماعنا هذا أن هناك عدة مكاتب متاحة، وأن إيجارها يتراوح بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف جنيه شهريا، فقررنا أن نسهم جميعا فى سداد الإيجار، لكننى سألت: وهل سيسهم معنا الدكتور البرادعى هو الآخر؟ جاءت الإجابة من أحدنا: «الدكتور البرادعى قال إنه لن يسهم فى استئجار مكتب»، قلت: «وأنا لن أساهم إلَّا إذا دفع هو نصيبا مماثلا لأنصبتنا جميعا». كان التواصل بين البرادعى وبين قيادات الجمعية قد أصبح محدودا للغاية، وبدا واضحا أيضا أنه لا يثق كثيرا فى الجمعية الوطنية للتغيير، وربما كان هذا هو السبب فى ذهابه لزيارة الإخوان المسلمين فى مقر كتلتهم البرلمانية فى المنيل، وما دفع الإخوان ليعلنوا حشد كل قواهم لجمع التوقيعات على بيان الأهداف السبعة.
بشائر يناير عندما أتى يناير ذهبت لأول مرة، بعد سنوات الغربة، إلى ضريح عبدالناصر لنحتفل بذكرى مولده يوم 15، ونلتقى الناصريين القادمين من الأقاليم، كان همنا يومها أن نحشد القوى الوطنية خلف الدعوة التى كانت الجمعية الوطنية للتغيير قد أطلقتها فى اليوم السابق لتشكيل حكومة إنقاذ وطنى لفترة انتقالية. يوم 22 يناير جاء شباب الجمعية الوطنية للتغيير يعرضون على قيادتها خطة التحرك فى 25 يناير التى حددتها قوى الشباب بحركاتها المختلفة، وكانت تقوم على أساس الانطلاق من مناطق القاهرة الأكثر فقرا مثل بولاق وإمبابة وناهيا وشبرا متجهة إلى ميدان التحرير، فإذا لم يكن التحرك كبيرا بالقدر المأمول يتحول إلى اعتصام فى ميدان مصطفى محمود، وفى عواصم المحافظات كانت الخطة تقضى بتوجه المظاهرات للتجمع فى ميادينها الكبرى، وفى اليوم التالى اجتمعنا فى الجمعية الوطنية للتغيير، حيث دعونا إلى أن تكون وقفتنا يوم 25 أمام مكتب النائب العام مع البرلمان الشعبى، فى هذا الاجتماع قال عصام العريان إن الجماعة ستقصر مشاركتها فى الوقفة على بعض رموزها فقط، لكنها لن تمنع من يريد النزول من شبابها.
مطلوب أمنيا اتصل بى ليلتها شقيقى عاصم، وهو ضابط شرطة سابق، يحذرنى من أن الشرطة تتحين ظهورى فى أى مظاهرة بالشارع لاعتقالى بعد الخطاب الحاد الذى كنت قد ألقيته قبل أسابيع فى نقابة الصحفيين احتفالا بحصول علاء الأسوانى على جائزة «الإنجاز العلمى» من جامعة إلينوى الأمريكية. لكن القوى الوطنية كانت قد قررت النزول على الرغم من الإنذار الذى وجهته لنا وزارة الداخلية بضرورة الحصول على تصاريح للتظاهر، وكان اللواء إسماعيل الشاعر مساعد وزير الداخلية قد صرح يوم 24 أيضا بأن «الوزير أصدر توجيهات باعتقال من يخرجون على الشرعية». وأنا فى طريقى إلى دار القضاء العالى كنت أعتقد على الرغم من ثقتى بإحكام التخطيط للمظاهرات، أنها سوف تجبر النظام على إقالة وزير الداخلية، وربما تقديمه للمحاكمة بتهمة التعذيب، وسوف تتجاوب مع بعض المطالب الشعبية مثل تحديد الحد الأدنى للأجور مثلا، وعندها نلتقط أنفاسنا، ونعاود التجهيز لخطوة أخرى، لكننى لم أستبعد قط أن يضطر مبارك إلى إقالة الوزارة، وتشكيل حكومة إنقاذ لتسد بعض أبواب الغضب. فى الثانية عشرة كان عددنا قد بلغ الألف تقريبا أمام دار القضاء العالى، لكننى لم أشاهد من قيادات الإخوان أحدا سوى محمد البلتاجى، فى حين كانت قوات الشرطة التى تحيط بنا وتلك الرابضة فى لوريات الأمن المركزى تزيد على عدة آلاف.
متظاهرة من مدريد فوجئت بشقيقتى مآثر تشق طريقها نحونا فحاولت أن أثنيها عن البقاء، ولكنها قالت إنها وصلت من مدريد فى الليلة السابقة لتشهد هذه اللحظة، تمكنت بعد حوالى نصف الساعة أن أقنعها بالذهاب، وأن أجد ضابطا شابا سمح لها بالخروج خرقا للتعليمات التى كانت تقضى بحصار الوقفة ومنع الدخول إليها أو الخروج منها، وعندما ركبت سيارتها عدت ثانية حيث كان الخطباء يصعدون إلى السلالم ليلقوا خطبهم النارية واحدا بعد آخر. قصة الأيام الثمانية عشر المجيدة بعدئذ أصبحت معروفة للكل، لا أدعى أنه كان لى فيها دور يذكر إلى جانب دور الملايين الذين حققوا الحلم، كانت الطليعة يومها للشباب والضحايا كانوا فى صفوفهم. عندما قرأت صحف الصباح فى اليوم التالى، 26 يناير، لم أفاجأ بنشرها تصريحا لجورج إسحق قال فيه: «الله يحرق البرادعى.. لا نريد معرفة أى شىء عنه»، كان يشير إلى غياب الدكتور البرادعى عن يوم اندلاع الثورة، غاب البرادعى بعد ذلك عن جمعة «الثورة أولا» فى 8 يوليو 2011، وتخلف أيضا عن الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة يناير فى 2012، وكان قد أعلن قبل ذلك بأيام انسحابه من انتخابات الرئاسة. عندما فوجئ البرادعى بالإحباط الذى حدث للشباب، وبانقلاب بعضهم عليه، حاول أن يحتوى الموقف بالدعوة إلى تأسيس كيان هلامى سماه حزب «الدستور».
لماذا حزب الدستور؟ كتبت عندئذ مقالا بعنوان «لماذا حزب الدستور؟»، وتساءلت: لماذا كل هذا الجهد لقيام حزب جديد، وهناك حزب يرفع الشعارات نفسها مثل الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى؟ لماذا لم يندمج «الدستور» فى أى حزب آخر يتفق معه فى الأهداف بدلا من عناء قيام حزب جديد؟ لكن الأحزاب «المدنية» لم تتحالف فى تكتل سمى «جبهة الإنقاذ» إلَّا كرد فعل على قيام الدكتور مرسى، الرئيس عندئذ، بإصدار إعلانه الدستورى فى 21 نوفمبر 2012 وعندما علمت أن البرادعى سوف يتصدر قيادتها لم أستبشر كثيرا بالخبر. خائن.. متردد.. كاذب مرت الأيام، وبعد 30 يونيو عادت الجبهة فعلقت عليه آمالها، وأعلنت مع تنسيقية 30 يونيو أنهما يفوضان الرجل متحدثا باسمهما مع القوات المسلحة، وانتهى التفاوض إلى تعيين البرادعى نائبا للرئيس فى 9 يونيو 2013، ولكنه خان الأمانة التى علقها عليه أنصاره، واستقال فى 14 أغسطس احتجاجا على فض اعتصامات مؤيدى مرسى بالقوة، لم أجد فى ذلك جديدا؛ إذ كيف ينجح البرادعى فى إدارة شئون الدولة وهو الذى لم ينجح فى إدارة شئون حزبه؟ وعندما كتبت يومها أقول إن البرادعى، كما عرفته، متردد، كاذب، أنانى، لا يتحمل مسئولية، لا يقبل رأيا آخر، البرادعى ليس منا، لم أكن أقول يومها شيئا جديدا.