ألغيت الحمايه البريطانيه على مصر سنه 1922. ثم وضع الانجليز على رأسها ملكا عرف بالفساد والغطرسة . وفي السنه التاليه اصبح للبلاد دستور ، وأحزاب ارادوا ان يحكموا من وراءها باسم الاستقلال . كانت خطوة حققتها ثورة 1919 . لكن ظلت البلاد مستعمرة.
ولدت في ذات السنه ثم مرت خمس سنين فارسلني ابي الى المدرسه . كانت مدرسه ارساليه انجليزيه . وكان المدرسون الانجليز ، ينظرون الي وكانني من جنس ادنى متخلف . يضعون انفسهم في اعلى سلم الحضاره ، ويطلون علينا من فوقه .
فحاولت ان أتشبه بهم . حفظت اشعار رديارد كييلينج ، وتغنيت بأمجاد الامبراطوريه وشمسها الساطعة التى تؤكد امتيازهم . لكن مرت الايام كبرت وذهبت الى الجامعه . اصبحت طالبا في كليه الطب . تعلمت اشياء عن الصحه والمرض قليله الفائده ، مفصوله عن المجتمع ، وعن صله العقل بالبدن والاعضاء ببعضها . لكننى اخذت اطل على اشياء تحدث في البلد ، صور تكتشف بالتدريج ان سمه صله ، بين المظاهر ، بين السياسه والاقتصاد والدين والقيم الثقافية السائدة . فكلما تظاهر الطلبه ضد جنود الاحتلال ، اطلقت الحكومه عليهم قوات امنها ، وذهب الاخوان المسلمون على الهتاف الله اكبر ، ثم مهاجمتهم بالجنازير والخناجر.
في سنه 1946 تخرجت طبيبا . وفي عنابر المستشفى الجامعي المسمى فؤاد الاول ، ادركت ان المرض والفقر مرتبطان ان الصله بينهما لا تنفصم . وكانت الخطوه التاليه هي ان ادرك الصله بين الفقر وحكم الاستعمار والملك ودور الطبقات في المجتمع وعلاقه الاقطاع بالاجنبي واسعار القطن الهابطه ، واستيلائه على الاراضي الزراعيه وانتزاعها من ملاكها وعلاقه الافكار بكل ما يحدث . هكذا اصبح محور حياتي ، هو اكتشاف الصلة بين الظواهر فبدونها تظل المعرفه مزيفه او مشوهه او ناقصه . تلك المعرفه التي تخفيها كل السلطات ، السلطات السياسيه كانت او فكريه او دينيه . والهدف هو ألا نصل الى الحقائق ، وحتى نظل ندور معصوبي العينين ، مسلوبى الإراده ، عاجزين عن الابداع او التجديد او اجراء تغيير حقيقي في بلادنا.
وفي عصرنا هذا حدث تغيير شامل ، وهو ان العلاقات خرجت من نطاقها المحلي او القومي او الاقليمي ، الى العالم الواسع ومن حوله ، الى الكون في الفضاء اللانهائي . اصبحنا نعيش في عالم يخضع لنظام واحد ، اسمه العولمة ، أو الكوكبة .
ان كل ما يدور في بلادنا وفي حياتنا من احداث ، يرتبط ارتباطا وثيقا بما يدور في العالم ، ولا يمكن فهمه ، الا بإدراك مختلف عناصر هذا الترابط .
كانت سنين ما بعد الحرب العالميه الثانيه ، بالنسبه الى الشعوب محملة بآمال كبيره فالكثيرون امنوا بالاشتراكيه ، وظنوا انها تحققت بالفعل في ثلث العالم . ولم يروا بوادر الانهيار الذي حدث فيما بعد في الاتحاد السوفيتي وبلاد شرق اوروبا . والكثيرون آمنوا بالنظم المسماه ديمقراطيه وباحتمالات التقدم التي تتيحها ، او تفائلوا بمستقبل بلدان اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينيه ، السائره بخطوات سريعه في طريق الاستقلال.
ولكن انهارت هذه الامال الكبيره تحت ضربات الاستعمار الجديد ، المتعدد الجنسيه ، المهيمن على السوق العالمي السائر بخطوات سريعه في كوكبه النظام الاقتصادي والعسكري والثقافي ، والتي تشكل اهم ظاهره في هذه المرحله من التاريخ .
لقد أدى ضياع الآمال، وفشل الحركات الشعبيه ، وتدهور أحوال المعيشة في ظل الاوضاع الاقتصاديه الحاليه ، والهجوم الكاسح الذي يشنه النظام الكوكبي على مصالح الشعوب وتاريخهم وثقافتهم وحريتهم ، الى حدوث رد فعل عميق . ففي غيبه الحركات الاجتماعيه السياسيه الشعبيه ، كان من الطبيعى احياء الثقافة ، والعادات والافكار التي ظلت تشكل جزءا من التكوين العام .
في وقت الازمه، يبحث الناس عن الاطمئنان عن الاستقرار عن المعروف والمالوف ، فى عهود ماضية . هكذا تتحول الحركه الاجتماعيه المتجهه الى الامام ، الى حركه تتجه الى الخلف ، إلى الماضي .
هكذا تقوى وتتدعم كل الحركات السلفيه ، التى تركن الى الاسره المغلقه والجماعه المغلقه ، الى العرق والطائفه ، الى التطرف القومي والديني ، والى كل ما يميزها عن الاخر ، دون النظر الى الشيء المشترك بينها وبين غيرها .
ان الهويه والاصاله والجذور ، اشياء مهمه في حياه الافراد وتاريخ الامم ، وهى وضروريه للتطور والازدهار . لكنها تصبح مدمرة ، اذا ما اصابها الانغلاق والعزلة ، واذا لم تتفاعل مع القوى الأخرى .