نشرت عام 1997 فى مجموعة قصصية للمؤلف تحت اسم عجميست عن دار الفكر العربى بالقاهرة
ثلاثة شاورمة يا مفتريَة ! البقَّال صحا ضميره فجأة، سحب البنت العبيطة من يدها وأحضر لها طلبها، لكن ملابسها محترمة، أهلها قادرون لا تحتاج إلى حسنته، هربت من المنزل، ربما أساءوا معاملتها، أو ربما زهقت من حبسة الشقَّة، ضاق خلقها من رطوبة أغسطس، من يدرى بما يدور فى نفوس الهُطل، متخلفون عقليـا... هكذا يسمُّونهم فى المسلسلات، أسرَع إلى الشارع عندما مرَّت أمامه تائهة تترنح، أغلق الدكان بالقفل، يطلقون عليه سوبرمارك هذه الأيام، حتى أدرك الفتاة وسحبها من يدها.
ثلاثة شاورمة يا مفترى ! طيّب الجياع والمحتاجين أمامه طول النهار ، لا يحرِّكون فى نفسه عطفا ولا يثيرون شفقة ، ولم يفكر يوما أن يُخرج من ذمَّته ولو سندوتش حلاوة طحينية ... عشَّاها قبل أن يعيدها إلى أهلها ، يُشكر على كل حال .
البنت شاهدتُها عدة مرَّات من قـبل ، دائمـة الهرب ، تسير دون هدف ، تحادث الأسياد الذين لا يراهم الناس سواها ، حلوة ، بيضاء ومدوَّرة ، لولا خفَّة عقلها لكانت عروسة يحفو وراءها الشبان ، يسير بها البقَّال نحوى ، تدخل معه حارتى السد ... أقول حارتى لأنها مقرُّ عملى ومحلُّ إقامتى فى نفس الوقت ، نعم ، حارتى هى كل شىء فى الدنيا بالنسبة لى ، لكنها حارة سد لا توَصِّل أى مكان ، إذن لماذا يسير بالفتاة من هنا ؟
أسند بذراعىّ على المقشَّة الميرى وأتفحص جسم البنت ، قال لى الملاحظ عندما سلَّمنى المقشَّة :
" حاجتين تحطهم حلقة فى ودنك : أول هام ما تسيبش المقشَّة من إيدك ... دى عهدة يا جميل ، وتانى هام ما تبعدش عن الحتَّة طول الوردية ... أحسن البيه المفتش يمُرّ ويطيّن عيشتنا ."
الرجل يمرُّ أمامى دون أن يلتفت إلىّ ، ليس أول واحد ، ظاهرة بدأت تتكرر من كثيرين ، اعتادوا هيئتى الجالسة على الرصيف حتى تناسوا وجودى ، يسير مع الفتاة أسفل شبَّاكى المُفضَّل ، يُغرقهما فجأة الضوء المنبعث عبر فراغ الشيش والزجاج المفتوحين ، ثم يمرقان إلى الظلام الدامس ، الكلاب الضالة بدأت تتجمع عند مدخل الحارة ، موعد العشاء قد حان ، لن تقترب إلا بإشارة منِّى ، فى البداية كانت الكلاب تنتظر أسفل الشبَّاك مباشرة ، لكن كسعات مقشَّتى الميرى علَّمتها من هو سيّد الحارة .
أحيانا تهفُّ علىّ رائحة الطـعمية المقلية فى الزيت ، أو حتى رائحة الكباب من عند الكبابجى فى الشارع العمومى ، لكنى أسارع لاطمئن على الكيس النايلو الملفوف بثوب من القماش حول وسطى ، هذه فلوس عليها حلفان أقول لنفسى ، تُقطع يدك ألف مرَّة ولا تمسَّها .
لكن ثلاثة شاورمة مرة واحدة ... مفتريّة صحيح.
كنت فى البداية أقطع المشوار للإدارة فى نهاية كل يوم حتى أقبض اليومية ، وبعد عناء أتسلمها ناقصة خمسين قرشا ، الآن فهمت المسائل ، وقلت مادام نصف الجنيه رائحا رائحا فعلى الأقل يأتى الملاحظ به ويوَفر علىّ المشوار ، ثم إن عظامى أصبحت هشَّة لا تحتمل زناق المواصلات ولا زحام الشوارع .
بدلا عن التحية يقول لى الملاحظ كل يوم :
" انت ما بتروّحش بيتكم أبدا ؟"
أسكت ، لكنى أردُّ فى سرِّى ، أقول دون أن يسمعنى :
" مستَنى الواد محروس يرجع من السعودية ."
ثم يسلِّمنى اليومية الناقصة ويذهب لحاله ، ليس أسوأ من غيره على كل حال ، ملاحظى هذا .
الناس حين تكبر تجد من يأخذها على كفوف الراحة ، بنت فالحة تقول لك : " انت أبويا ونور عينى ،" أو ابن بار يردد : " أنا أشيلك فى عينىّ زى ما ربتنى وخليتنى بنى آدم ،" أو فتاة صالحة يكون الإبن تزوجها تهتف بأعلى صوتها : " انتَ على راسى من فوق يا سيد الكل يا كبير العيلة ..."
على نقيض ما فعلته بنت الحرام ...
صبى النجار يقف على ناصية الحارة ، يحوم منذ أن لمح البقال والفتاة ، شاب فتىّ مفتول العضلات ، لكن ماذا يريد هو الآخر ؟ موعد العشاء حان ولا داعى للشوشرة ، يأخذ خطوات متلصصة ، عيناه منجذبتان إلى الركن المُظلم ، يمرُّ أمامى دون أن ينتبه إلى وجودى ، يمرق بسرعة من المثلث المضىء أسفل الشبَّاك ، ستظهر السيّدة فى أى لحظة وفى يدها صفيحة الزبالة .
كنت فى البداية أزيح القمامة تحت السيارات الراكنة ، وكانت تنتابنى الربكة كلما تتحرك إحدى هذه السيارات فتنكشف عملَتى ، ولا أشعر بالاطمئنان حتى تأخذ أخرى مكانها ، أصل كنت متوهما أن أحدا يبالى بنظافة البلد ، ثم أصابتنى الحقيقة على دفعات ، مع كل خمسين قرشا تطير من يوميتى ...
أصوات غاضبة ، الرجلان يتشاجران فى الركن المُظلم .
يخيَّل إلىّ أحيانا أن البيه المحافظ يمرُّ يوما ، يتوقف عند كوم من أكوام الزبالة المتناثرة ، يسارع المفتش ليلقى اللوم على الملاحظ ، ثم يرفع الملاحظ أصبع الإتهام فى وجهى ، يطمئن الجميع إلى إنهم ألصقوا المسئولية بى ، عجوز مغلوب على أمره ماذا عساه أن يقول ؟ كيف يردُّ التهمة عن نفسه وهو لم يستطع أن يقف فى وجه زوجة ابنه المفترية ؟ هكذا يتصورون ، لكنى لن أسكت ، لن أسكت على هذه المساخر ، على هذا الفساد ، سأشرح للبيه كيف يمكن أن ننظف البلد ، يومئذ سيعلو صوتى فوق رءوسهم الخدَّاعة ، سأقول :
" يا سيادة المحافظ ..."
" كفاية ... كفاية !"
صرخة مكتومة من الفتاة . شجار الرجلين قد توقف .
لكن من أين أتتها النفس لتلتهم ثلاثة شاورمة مرَّة واحدة ، وإيه ... من النوع الذى يكاد فيه العيش الشامى الملفوف أن ينفجر من كثرة ما يحويه من اللحم الطرى المخلوط بالمقدونس والقوطة ، ينزُّ منه الدهن السائح كشلَّال متدفِّق من الدسم ؟
تأخَرت السيّدة عن موعدها ، أعين الكلاب لا تفارق الشبَّاك .
أهم شىء الالتزام بموعد العشاء ، حتى ولو لقمة بملح لا يهم ، كنت أقول لها أن موعد العشاء مقدَّس ، الله يرحمك يا ام محروس ، لم تؤخر العشاء يوما طوال الخمسين سنة التى عشناها سويا .
عسكرى المرور يمرُّ من أمامى دون أن يلاحظ وجودى ، يقوم بزيارات دورية للركن المظلم لقضاء حاجته ، كسِّيب هذا الفتى ، يلمُّ الغلَّة من السيارات المتوقفة فى صفٍّ ثانٍّ على جانبى الشارع العمومى ، يحمل فى يده دفترا صغيرا يلوِّح به عند الحاجة ، أحيانا أتذمَّر فى نفسى وأقول سيقلبون حارتك مبوَلة بعد أن جعلوها مقلبا للزبالة ، ثم أقول مبوَلة مبوَلة بس نعيش .
" إيه ده انتم بتعملوا إيه ؟"
صوته جهورى رغم ضآلة قامته ، وشوَشة سريعة لا ألتقط منها سوى أطراف الكلمات ، ثم يعود العسكرى من أمامى متأملا فى حيرة ورقة بجنيه يمسكها بقرف بين أصابعه ، بالتأكيد نسى حكاية قضاء الحاجة ، أو تلحُّ عليه دون أن يدرك .
لعلَّنى لو فى صحَّتى كنت توجهت إلى الركن المُظلم ، ربما كنت طلعت أيضا بلحلوح ، أشترى به سندوتش شاورمة ، يكفينى واحد ... لست من الذين يلتهمونهم بالثلاثة ... لكن أبدا ما كنت رضيت ، أبدا ما كنت وقفت مكتوف الأيدى ... أصل مَن ذاق الظلم ...
عساكر آخر الزمن .
آه لو أمسكونى بزمام الجيش ، يعنى ... لو قال لى السيد الرئيس أو جلالة الملك فاروق : أذهب فأنت القائد الجديد للقوات المسلحة ، فى غمضة عين أجد نفسى أميرا على كل العساكر ببنادقهم والضباط بسياراتهم ودباباتهم ، والله كنت وضعت اليهودى نتن هذا الذى دوَّخ العالم كله تحت ضرسى ، كنت قلت للعساكر بعضكم يدخل على اليهود والباقون يلتفون من ورائهم ، كمّاشة يعنى ، كنت جمعت الضباط وقلت لهم إن لم تأتوا لى بالنصر والله العظيم أمسِّك كل واحد منكم مقشَّة وأجعلكم تكنسون الشوارع ، على الأقل تكونون عملتم فى عمركم شيئا مفيدا .
يتوقف العسكرى عند تقاطع الحارة مع الشارع العمومى ، يتلفت حول نفسه ، أكيد يبحث عن شجرة تداريه ، لكن لا ، يستدير ، يعود نحوى مرة أخرى ، خطاه بها عزيمة ، يمرُّ من أمامى لا يلاحظنى .
" فيها لأخفيها يا ولاد الكلب ."
صوت عسكرى المرور يذكِّرنى بعساكر الدورية فى أيام مضت .
" أى ... يا بنت الكلب ... عضتنى بنت المجنونة."
صوت مبحوح ، البقال ، من الأفيون الذى يطفحه ليلا ونهارا .
" طب على الأقل ساعدنا بدل مانت زى قلِّتك كده."
صوت جديد علىّ ، أكيد هو النجَّار .
هيئة ضئيلة تظهر فى النافذة المفتوحة ، ليست الوليا المربربة صاحبة صفيحة الزبالة ، إنه الولد الصغير ابنها ، يدقق النظر فى الركن المظلم ، ربما أثارت فضوله صرخات الفتاة ، يبدو أن عينيه لا تستطيعان تمييز ماذا يحدث ، أحسن ، ليست هذه الأمور لسنِّك ، لكن كشاف سيارة تركن فى الشارع العمومى يلقى بضوئه فجأة على المشهد ، لحظة خاطفة ثم يعود الظلام ، وما الذى دعاك لأن تطلَّ الان ، ما لك وما لهذه الأمور ؟ يصرخ الفتى بعلوّ حنجرته :
" يا ماما ."
ما كان أحسن تلتفت لدروسك وتترك أمك تلقى الزبالة حتى نتعشى ... أنا والمساخيط المنتظرين فى لهاث عند مدخل الحارة .
ثم تظهر السيّدة إلى جوار ابنها ، بهيئتها المستديرة المهيبة التى تجعل كلاب الحارة تهزُّ ذيولها فى ترقُّب ، تُمعن النظر فى الركن المُظلم ، تصغى إلى السواد الدامس ، لكن السيارات لا تنير الموقع لها ، بعد لحظة خاطفة تمدُّ ذراعيها لتسحب ضلفتى الشيش ، تردعه مغلقا ، صوتها يأتى غاضبا عصبيا موجهة حيرتها لابنها :
" الشبَّاك ده عمره ما يتفتح تانى ! ... فاهم ؟"
ألله ، لكن إن لم يُفتح الشبَّاك كيف تلقى الـ ...
ألله ، لكن الموعد قد حان ... وكم رددتُ لأم محروس أن موعد العشاء مقدَّس ...
والله كان قلبى شاعرا من الأول أن بقَّال الكلب سيتسبب لنا فى مصيبة .
لكن العمارة ليس لها منوَر ، وإلا ما كانت السيّدة ستلقى زبالتها من الشبَّاك أصلا ، إذن لن يبقى أمامها إلا الشبَّاك المطل على الشارع العمومى ، أسند بذراعىّ على مقشَّتى الميرى ، كم صرت أكره السيرعلى قدمىّ المتعبتين .
الجوع ينهش فى أحشائى ، أدركه لا أشعر به ، لكن الفلوس التى حول وسطى لن أمسَّها مهما حدث ، هى مهر الولد محروس حتى يتزوج زيجة مُحترمة ، يصحح بها خطأه ، يأتى باحثا عنى وقد عاد لتوه من السعودية ، آمره : " إرمِ الكلبة إللى انت اتجوزتها فى الشارع ، انت مش شايف حصل إيه فى غيابك ؟ ... خد دول إتجوز بِهم أجمل بنت فى الحتة ، بس تكون بنت حلال ... خلِّينى يابنى أعيش آخر أيامى فى سلام ."
يحنى رأسه خجلا ، يقبل يدى والدموع ترغرغ فى عينيه ، يقول : " أمرك يابا ."
الكلاب تسير حائرة حولى ، صرخات المجذوبة تخفت مع اقترابى من الشارع العمومى ، وسرعان ما تذوب أصداؤها فى الزحام .
القاهرة - أكتوبر 96