24/9/2005
سلوى اللوباني من القاهرة : محمد توفيق كاتب مصري مقيم حالياً في سويسرا، تخرج من كلية الهندسة جامعة القاهرة، وحاصل على ماجستير القانون الدولي من جامعة باريس ودبلوم العلاقات الدولية من معهد الادارة العامة الفرنسي، صدر له باللغة العربية "ليلة في حياة عبد التواب توتو"، "حتى مطلع الفجر"، الفراشات البيضاء"، "عجمسيت"، ومؤخراً رواية " طفل شقي اسمه عنتر"، كما صدر له بالانجليزية مجموعة The Day the Moon fell ، ونشرت قصصه ومقالاته في دروريات أدبية وصحف مصرية وعربية وعالمية، هو عضو اللجنة المنظمة للمؤتمر العالمي للكتاب وهيئة تحرير دورية Offshoots الأدبية العالمية، وعضو اتحاد الكتاب المصريين ومجموعة كتاب جنيف ونادي القلم الدولي.
نبدأ حوارنا عن حقوق المؤلف بما أنك مقيم في سويسرا وصدر لك أعمال باللغتين العربية والانجليزية، كيف ترى حقوق المؤلف في العالم العربي مقارنة بالعالم الغربي؟ الفرق كبير فمؤلف الأدب في العالم العربي ببساطة لا حقوق له، ويعد انعدام حقوق المؤلف من الأسباب الأساسية لتدهور المستوى الفني للأعمال الأدبية، فالعمل الأدبي كأي إنجاز بشري هو مشروع اقتصادي يتطلب استثمارا ما، وهذا الاستثمار يكون أولا من وقت المؤلف وجهده، وثانياً في قراءاته واطلاعه على ما يكتبه الآخرون، وثالثاً في قيامه بأبحاث ميدانية للإلمام بكافة جوانب الموضوع الذي يتناوله، فعندما لا يجد الكاتب عائداً مادياً من عمله فإنه يضطر رغما عنه إلى تخفيض حجم استثماره، مما يؤثر على مستوى العمل الأدبي في النهاية، والحقيقة أن عنصر "الملكية الفكرية" هو جزء من منظومة متكاملة تعاني من أوجه متعددة للخلل، فالضعف الشديد في النظام القضائي يعني من الناحية العملية أن القوانين غير قابلة للتنفيذ وأن المواطنين يعجزون عن الحصول على حقوقهم، ومن جهة أخرى فإن تحول صناعة الكتاب إلى مجموعة من الأنشطة العشوائية جعل مفهوم حقوق المؤلف قضية نظرية لا علاقة لها بما يجري على أرض الواقع أصلا.
حدثنا عن رؤيتك للكتابة وتأثيرها عليك: لا أعتبر الكتابة فيما يخصني مهنة إنما أعتبرها طريقا أسلكه في الحياة، فالمهنة يتكسب منها الإنسان لكن يبتعد عنها في أوقات الفراغ ولحظات الخصوصية، لكن الكتابة تلازم الكاتب طالما هو على قيد الحياة، أما عن تأثير الكتابة في حياتي فقد أضفت على حياتي بعدا خاصا ووهبتني كنزا سريا لا يراه الناس، فقيمة الإبداع الفني تتعدى أي قيمة مادية وتغني عن التكالب على المكاسب المادية.
ما هو حال القصة العربية حالياً؟ الأدب العربي يمر الآن بمحنة، وهو أمر يرجع جزئيا إلى عدم تمكن الكثير من الكتاب من كل أركان حرفتهم، وتكاسل البعض الآخر عن استثمار الجهد والوقت المطلوبين بحيث تصدر أعمالهم غير مكتملة البنيان، إلا أن المشكلة الكبرى تتمثل في عدم نضوج المناخ الثقافي وتوجيه المنتج الثقافي إلى نخبة قليلة العدد عزلت نفسها عن حركة المجتمع، واعتبرت أن النشاط الثقافي حكرا عليها، وقد انعكس كل هذا على انهيار صناعة الكتاب الأدبي، فالكتاب الأدبي في نهاية المطاف هو سلعة يتطلب رواجها توافر عناصر رواج أي صناعة، وللأسف لم تتنبه الجهات الرسمية المسئولة عن تنمية الكتاب إلى هذه الحقيقة، بل أن الكثير من البرامج التي تنفذها بهدف دعم القراءة وتنشيط حركة الأدب تحقق نتائج عكسية، ومن أمثلة هذا القصور في الفكر لدى المؤسسات الرسمية الأسلوب الذي تعاملت به مع المشاركة العربية في معرض فرانكفورت، فاقتصرت خطة التواجد العربي في المعرض على الأغراض الدعائية، في حين أن معرض فرانكفورت هو بالدرجة الأولى محفل لخدمة صناعة الكتاب، أما الأهداف الدعائية فلا تتحقق بشكل كامل خلال المعرض وإنما تأتي بشكل متعاظم في وقت لاحق من خلال العقود التي تبرم لنشر الكتب بلغات مختلفة، ومن غير المستغرب أن صناعة الكتاب العربية لم تحقق استفادة كبيرة من معرض فرانكفورت لأنه لا توجد أصلا صناعة كتاب بالمعنى الحديث في العالم العربي، ومع هذا فهناك حركة أدبية نشطة لا يمكن إنكارها لكنها تعتمد على الجهود الذاتية وتفتقر للعمل المؤسسي.
هل ساعدت القصة على تغيير سلوك الناس؟ هل ساهمت في تحديد الثقافة المصرية؟ نظرا لعدم اعتياد غالبية المصريين قراءة الأدب فإن التأثير المباشر للأدب على سلوكياتهم محدود، لكن التأثير الأكبر للأدب في كل المجتمعات هو التأثير غير المباشر من خلال دوره كمكون أساسي لثقافة المجتمع، فتأثير الأدب يظهر في الإعلام والسينما والإذاعة المسموعة والمرئية وخطاب النخب، والأدب الناجح هو الذي نجح في الالتحام مع المجتمع.
لاقت رواية عمارة يعقوبيان اقبالاً كبيراً بالاضافة الى اشادة النقاد، وتم طبعها مرتين، كيف تحلل هذه الرواية؟ عمارة يعقوبيان رواية جيدة بكل المقاييس، فالدكتور "علاء الأسواني" صدق مع نفسه وأخلص لفنه فنجح في الوصول إلى قلب القارئ، وجزء من أهمية الرواية نابع من توقيت صدورها والذي تزامن مع تحولات فنية على صعيد الأدب المصري، وأخرى أوسع نطاقا تتعلق بحركة المجتمع بشكل عام، فجاءت الرواية متلاحمة مع الواقع الاجتماعي والأدبي فعلى صعيد الحركة الأدبية شهدت التسعينيات من القرن الماضي تهميش القارئ إلى أقصى حد ممكن، إذ ساد في الحركة الأدبية فهم غير كامل لبعض النظريات النقدية الحداثية مما أدى إلى انعزال الأدب في دوائر محدودة غير راغبة أو قادرة على التفاعل مع حركة المجتمع الأوسع، وكان الدكتور "علاء الأسواني" على رأس الرافضين لهذا التطور وعمل على عودة الأدب إلى تناول القضايا التي تهم القراء وتعنيهم، ومن جهة أخرى تبلور في المجتمع المصري وقت ظهور عمارة يعقوبيان احتياج متنامي للتداول العام حول القضايا الرئيسية التي تواجه المجتمع بصراحة ودون التقيد بالمحاذير السياسية أو الاجتماعية، وهو التوجه الذي أبرزته برامج الفضائيات ومجموعات الحوار على شبكة الانترنت، وكان لا بد للأدب أن يتواكب معه.
ومن ناحية البناء لجأ الدكتور "علاء" إلى البناء التقليدي لرواية القرن التاسع عشر وهو البناء الذي اعتاده القارئ العربي من خلال أعمال الأستاذ "نجيب محفوظ" في مرحلته الكلاسيكية، وإذا قارننا "عمارة يعقوبيان" بـ "زقاق المدق" سنجد أن بناءهما يكاد أن يتطابق، وكانت هذه العودة إلى الماضي موفقة للغاية في حالة "عمارة يعقوبيان"، لأنها استعادت ثقة القارئ في الأدب بصفة عامة، وذكرت الحركة الأدبية بالمبادئ الأساسية للكتابة، وسيكون لهذا العمل الجميل تأثيرا على تطور الأدب في مصر والعالم العربي،حيث أن الأدباء سوف يستمرون في محاولة ابتداع أشكال أدبية تعبر عن القرن الواحد والعشرين، مع الاستفادة من تجربة "عمارة يعقوبيان" بضرورة التحام الأدب بقضايا المجتمع وأهمية الحفاظ على عنصر التشويق لضمان اهتمام القارئ.
كيف تقيم القصة السياسية في مصر والعالم العربي؟ يتناول الأدب الجيد المجتمع من منظور ديناميكي، ومن هنا يتقاطع مع السياسة من منظورها الشامل، وفي عالمنا العربي (حيث الإعلام بل وكتابة التاريخ أدوات توجه لخدمة أغراض سياسية) تقع على الأديب مسئولية خاصة، فهو المؤرخ الحقيقي والمتحدث باسم ضمير الأمة والمدافع الأمين عن المجتمع بطبقاته وفئاته، وعلى الأديب أن يواجه بفنه كل التحديات التي يواجهها المجتمع، ومما يسهل مهمته وجود تعطش حقيقي لدى شعوبنا للأدب الصادق، ومن النماذج الناجحة في الفترة الأخيرة "عمارة يعقوبيان" كما ذكرنا سابقاً، و"ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، و"حارث المياه" لهدى بركات، وهي أعمال تتقاطع بشكل مباشر مع السياسة وإن كان لا يمكن اعتبارها أعمال سياسية.
ما هو دور المحيط الاجتماعي والسياسي بتشكيل فكرك او ثقافتك؟ وهل يتأثر ابداع الكاتب بالحالة السياسية للوطن؟ نشأت في محيط شديد الوطنية دائم التفاعل مع القضايا القومية وهو ما انعكس إلى حد كبير( في تقديري) على أعمالي الأدبية، كما أذكر حوارات ممتدة جمعتني مع الدكتور علاء الأسواني في السبعينيات وكنا لا نزال في المرحلة الجامعية ونأخذ خطواتنا الأولى على طريق الأدب، وكانت قناعتي وقتئذ (ولا تزال) أن الغرض الرئيسي للأدب هو خلق عمل فني بحت بعيد كل البعد عن التلقين أو الموعظة أو الرسالة الأيديولوجية، بينما كان الدكتور علاء مقتنعا بأن الفن الصادق لا بد وأن يحمل رسالة اجتماعية، وقد اتخذ كل منا طريقه بناء على قناعته، والملفت للنظر أن روايات كل منا (والتي صدرت بعد مرور ما يزيد عن عشرين عاما على هذه الحوارات) تضمنت البعدين الفني والاجتماعي معا، فالطريقان التقيا عند نفس النتيجة، والسبب واضح فالأديب لا يستطيع أن يعزل نفسه عن قضايا مجتمعه، والصدق مع النفس شرط حاكم للإتقان الفني، وبالمقابل فالصدق الفني شرط حاكم لتقبل القارئ للرسالة الاجتماعية التي يحملها العمل الأدبي.
اثارت قضية سيد القمني جدلاً واسعاً بين أوساط المثقفين ما تعليقك؟ الدكتور "سيد القمني" هو الأخير في سلسلة ممتدة من المفكرين المصريين الذين تعرضوا للإرهاب سواء البدني أو الفكري، فلا يمكن اعتبار ما حدث معه ظاهرة فردية بل هي قضية عامة، فالتطرف الديني قد نجح بالفعل في فرض رؤيته المتشددة على قطاعات عريضة من المجتمع، نتيجة لحالة التخبط التي تمر بها التيارات التنويرية وأيضا لحملة التخويف الجسدي أو المعنوي التي يشنها المتطرفون على أصحاب الفكر المستنير، وقد يرجع فشل المثقفين في مواجهة الفكر الأصولي إلى سقوط الأيديولوجيات وانهزام الفكر القومي وسطحية الإعلام الحكومي وانعدام المدخل العقلاني في التعاملات اليومية داخل المجتمع، إلا أنه يرجع كذلك إلى شعور المثقفين بتهديد حقيقي لسلامتهم وسلامة أسرهم إذا ما دخلوا في مواجهات فكرية مع التيار المتطرف، مما دفع معظمهم إلى تجنب التطرق إلى أي موضوعات ترتبط من قريب أم بعيد بالدين، والقلة التي تمسكت بحقها بل وواجبها في التعبير عن فكرها فقد تعرضت إلى الأذى الشديد بدءا بطه حسين مرورا بفرج فودة ونجيب محفوظ ووصولا إلى نصر أبو زيد وأخيرا القمني، والمثقف في هذا الموقف يعاني من معضلة حقيقية فهو مؤهل للمبارزات الفكرية لا للعنف البدني، ولا يستطيع بمنطقه الراجح مواجهة القتل والإرهاب، فأين الحل ؟
هل تعتقد بأن هناك صلة بين الارهاب والجهل أي غياب الثقافة والمعرفة؟ الإرهاب ليس ظاهرة في حد ذاته إنما يمثل أحد مظاهر أو أدوات تيار سياسي وأيديولوجي معين، وهو تيار أفرزته حركة التاريخ، فتاريخ العرب الحديث عبارة عن صراع ما بين تيار الإسلام السياسي وتيار التحديث الذي اتخذ أشكال عدة، ومع فشل تيارات التحديث المتتالية ( الليبرالية في 1952 – القومية الاشتراكية في 1967 – الليبرالية الواقعية بغزو لبنان عام 1982) وتكشف عجز الأنظمة العربية فرادى ومجتمعة عن مواجهة التحديات الخارجية والتنموية التي تواجه شعوبها، كان لا بد أن تنتشر أيديولوجية الإسلام السياسي بوصفها الوحيدة التي لم يثبت فشلها ولادعائها أنها القادرة على الحفاظ على كرامة الأمة، وذلك رغم أن هذا التيار لم يطرح رؤية واقعية للتعامل مع المشاكل بخلاف الشعارات الدينية، وهو السبب وراء عجزه عن الوصول إلى السلطة في أي بلد عربي ( باستثناء السودان ولفترة مؤقتة لحقت بالبلاد خلالها أفدح الكوارث ).
لكن الصراع في جوهره صراع فكري، ومما لا شك فيه أن تيار الحداثة لم يحقق النجاح المأمول في مواجهته مع الفكر الأصولي، بدليل انتشار الفكر الأصولي بين قطاع كبير من المتعلمين وليس فقط الفئات ذات المستوى التعليمي الأدنى، ولم يكن ذلك الفشل بسبب ضعف الحجج والأسانيد التي ساقها دعاة التنوير ابتداء من محمد عبده وحتى نصر أبو زيد، إنما كان نتيجة للإرهاب الجسدي والمعنوي الذي مورس ضدهم، يضاف إليه الشعور الجماعي بالذنب الذي سيطر على مجتمعاتنا ( وهو الشعور الذي حاولت إبرازه في رواية "طفل شقي اسمه عنتر" ) مما خلق لدى الكثيرين احتياجا لإظهار التقوى بشكل مبالغ فيه أحيانا، وطبعا لا يمكن أن ننسى الدور الحكومي في هذا الشأن حيث لم تتردد الحكومات العربية في التمشي مع الكثير من منطلقات التيار المتأسلم، وهو ما يرجع في جزء منه إلى اعتماد نظم الحكم تقليديا على المؤسسات الدينية والتي لا تختلف منطلقاتها كثيرا عن منطلقات ذلك التيار، ومن ثم سمح للمؤسسات الدينية التقليدية أن تلعب دورا متناميا في توجيه المجتمع، مما جعل مجرد طرح القضايا الأساسية حول القراءات العصرية للإسلام أمر غير مقبول أصلا. طفل شقى أسمه عنتر احتوت روايتك الاخيرة " طفل شقي اسمه عنتر" على شخصيات عبد الملاك، الشاويش اشموني، اصلاح المهندس، كيف تعاملت مع هذه الشخصيات؟ الحقيقة أنني أعتبر شخصياتي أشخاصا من لحم ودم ولا أتعامل معهم كرموز أو كمعان، وإن كنت أحرص على أن أختار لكل شخصية الاسم الذي يناسبها، و كل من هذه الشخصيات يواجه مأزقه بطريقته الخاصة. عبد الملاك: فعبد الملاك هو الشاب الفقير المجتهد الذي ينجح بعد مسيرة كفاح في الحصول على الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة هارفارد، ويقرر العودة للوطن للمطالبة بحقه في وضع وظيفي واجتماعي متميز ومحاولة الفوز بفرح - حبيبته أثناء الجامعة – لكن المجتمع يلفظه والقنصلية الأمريكية ترفض السماح له بالعودة إلى أمريكا ولا يجد أمامه سبيلا للتعيش سوى خداع الناس وادعاء القدرة على استحضار الجان، ورغم هذا فلا يفقد تدينه أو حبه لفرح، لكن هل يستطيع أن يقبل فرح بماضيها المشين الذي فرضته عليها الأيام ؟
اصلاح المهندس: فهي صحفية شابة استشهد أبوها في حرب 73 فشبت متمسكة بالمبادئ، متعطشة للبطولة متحمسة للدفاع عن مصالح البلد، وفي نفس الوقت تتحمل مسئولية أمها وأخيها الأصغر منها، فعندما تكلف بتغطية مقتل الممثلة الجميلة أحلام الشواربي لصحيفتها تجد نفسها في مواجهة مع أقطاب المال والفساد، فهل تتمسك بمبادئها رغم أن ذلك سيؤدي إلى فقدان أخيها لوظيفته وإصابة أمها باليأس ؟
الشاويش أشموني: فلاح مصري أصيل حارب في 67 ثم في 73، ويعمل شاويشا في المرور، فيعمل في أكثر الظروف الجوية والبيئية والنفسية قسوة ويتقاضى راتبا لا يفي بمتطلبات حياة آدمية أو غير آدمية حتى، لكن المجتمع بوقاحته لا يتردد في أن يحمله مسئولية الحفاظ على أعمار الناس من خلال تنظيم المرور بعد أن طالبه بالمخاطرة بعمره هو دفاعا عن التراب الوطني، وقد شاء القدر أخيرا أن يكون الشاهد الوحيد لحادث مقتل الممثلة، فأصبح عليه مرة أخرى أن يضحي بنفسه لينقذ أختها الصغيرة من مواجهة نفس المصير، فهل يتصرف بروح 67 أم بروح 73 ؟
كيف تختار عناوين أعمالك الأدبية؟ العنوان هو أحد المكونات الرئيسية للرواية، فمن ناحية يقوم بدور اللافتة أو الإعلان الذي يجذب انتباه القارئ، وينطبق عليه ما ينطبق على الإعلانات الدعائية بأشكالها، فيحاول المؤلف أن ينقل رسالة أو يخلق انطباعا من خلاله، فالانطباع الذي أحاول أنا أن أخلقه من خلال عناويني هو أن هذه رواية ظريفة ومسلية وبعيدة عن الملل، ولا تتعالى على القارئ وأن فكرتها غير مألوفة مع حرصي على أن أترك قدرا من الغموض لتشويق القارئ، أما الدور الثاني والرئيسي للعنوان هو مساعدة القارئ على استكمال المعنى، أو طرح لغز يتم حله من خلال القراءة، فنحن نقرأ العنوان قبل الرواية ثم نردده كثيرا في أذهاننا بعد إتمام عملية القراءة، ومن ثم نعتبره مفتاحا لحل ألغازها وعندما تكون الرواية متعددة المستويات يتعين أن يكون العنوان كذلك، وإذا تناولنا على سبيل المثال رواية "ليلة في حياة عبد التواب توتو"، لن تعطينا انطباعا بالجدية الصارمة أو الأدب الطلسمي الممل غير المفهوم، كما أن اختيار الليلة وليس اليوم يضفي غموضا بشكل ما. أما بالنسبة للهدف الثاني سنجد أن أحداث الرواية المباشرة تقع في ليلة واحدة – ليلة 7 أكتوبر 1981 لكن أحداثها الحقيقية تمتد لقرن من الزمان تقريبا، ومن ناحية ثالثة نجد أن اسم البطلة "ليلة"، فالعنوان نفسه مفتوح للتأويل، أما فيما يتعلق باسم "عبد التواب توتو" فهو في حد ذاته معضلة لإنه ليس عبد التواب (اسم البطل) وليس توتو (اسم التدليل الذي أطلقته أمه عليه) إنما هو الاثنان معا، وهو ما يعبر عن أزمة البطل فـ "عبد التواب" اسم عتيق يوحي بالتخلف وعدم مسايرة العصر، أما "توتو" فيساير العصر لدرجة الهزل، ومن المعروف أن الاسم لدى قدماء المصريين هو مكنون الإنسان، فـ "عبد التواب توتو" يمثل الإنسان المصري الحديث الذي تخلى عن تقليديته لكن لم ينجح في اللحاق بقطار التحديث، ونفس الشيء بالنسبة لرواية "طفل شقي اسمه عنتر " فعنتر طفل صغير السن هزيل الجسد يحمل اسم مارد، ثم أن كلمة "شقي" باللغة الفصحى توحي بالشقاء والتحدي العنيف للنظام، في حين أن استخدامها بالعامية المصرية يوحي بالشقاوة وليس الشقاء، أي السعادة والتمرد الظريف، فأيهما الصحيح؟ ثم أن استخدام اسم طفل يلعب دورا ثانويا في الرواية للعنوان يلقي الضوء على القضية المحورية للرواية والمتمثلة في التساؤل حول ما الذي نورثه لأبنائنا؟ أهو الشقاء أم الشقاوة؟
وإحقاقا للحق يجب أن أعترف أن أكثر ما انتقده النقاد والكتاب في أعمالي هو العنوان، وكثيرا ما حاول الناشرون إقناعي بتغييرها، حيث اعتبروا جميعهم أن اختياري للعناوين يهبط من مستوى العمل، إلا إنني تمسكت والحكم متروك للقارئ.
هل هناك نقص في عدد الاعمال الادبية؟ او المواضيع المطروحة؟ لا يوجد نقص في عدد الأعمال الأدبية المكتوبة أو حتى المنشورة، إنما النقص في الأعمال المقروءة، فغالبية الروايات والمجموعات القصصية التي تنشر في العالم العربي اليوم لا يتعدى توزيعها بضع عشرات من النسخ، ويلجأ أصحابها إلى إهدائها للأصدقاء والنقاد أما الوصول للقراء فيبقى حلما بعيد المنال، أما بالنسبة للمواضيع فسحر الإبداع الأدبي لا يكمن في الموضوع وإنما في التناول، فنفس الموضوع يمكن تناوله بأشكال مختلفة، ولا يوجد حد أو نهاية لمدى التنوع الذي يتيحه الأدب بوصفه قبل كل شيء لون فني، فمن يستطيع أن يقول أن الأدب قد استنفد "الحب" كموضوع رغم ملايين الأعمال التي تناولته؟ أما بالنسبة للموضوعات التي لا يتم تناولها بالقدر الكافي فأعتقد أن الأعمال المصرية التي تناولت الحقبة الفرعونية (رغم غناها الثقافي والحضاري) تقل كثيرا عن أعمال الكتاب الأجانب.
من خلال عملك كمستشار أدبي لمنتدى الكتاب العربي ما هي أسباب عزوف الناس عن القراءة؟ تعددت الأسباب، بدءا بنظام تعليمي رديء لا يشجع على القراءة بل وينفر منها، مرورا بسياسات حكومية غير مواتية لازدهار صناعة الكتاب، وبحركة نقدية يغلب عليها طابع الشللية والمجاملة ولا تقدم خدمة للقارئ بقدر ما تتعالى عليه، وصولا إلى منتج أدبي عاجز عن منافسة وسائل الترفيه الحديثة يثير جزء كبير منه ملل القارئ ويستهين جزء آخر بعقله، والمذهل رغم كل هذا أن عزوف الناس عن القراءة ليس بالشكل الذي يتصوره البعض فهناك كم من القراء الصادقين الذين لا يزالون أوفياء للأدب متذوقين له، وكم من النقاد المبدعين الذين يعتبرون أنفسهم قبل كل شيء أصحاب رسالة ينقبون عن كل ما هو جيد وجديد، وكم من الناشرين الجادين الذين يعتبرون أنفسهم مثقفين لا تجار، وكم من الأعمال الأدبية البديعة التي تظهر يوما بعد يوم، فالأمل محقق والحضارة كامنة في الوجدان، والغد سيكون بالتأكيد أفضل من اليوم، وهذه ليست كلمات جوفاء أرددها إنما خلاصة لمستها في تجربتي الشخصية من خلال نماذج مشرفة تبث إشعاعها في حياتنا الثقافية.
فما هو تعليقك على مقولة ان هناك علاقة بين الفقر والثقافة؟ مما لا شك فيه أن الإنسان الذي لا يمتلك ثمن رغيف الخبز لن يفكر في شراء كتاب، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الثقافة حكر على الأغنياء، فمثلا لا نستطيع القول بأن كل المثقفين والكتاب ينتمون إلى عائلات ميسورة الحال، كما أن قراءة الأدب كانت أكثر رواجا في عقود ماضية في حين كان المستوى العام للدخل أدنى من مستواه الحالي، ونجد من جهة أخرى أن معدل القراءة أعلى كثيرا في مصر (رغم انخفاض دخل الفرد نسبيا) عما هو عليه في دول أخرى أكثر ثراءً، وإذا كانت معدلات القراءة أعلى في الدول المتقدمة عما هو عليه الحال في الدول النامية فإن ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى عوامل الحضارة والثقافة والتعليم ثم يلي ذلك عنصر الدخل.
طرحت "ايلاف" استفتاء منذ فترة "هل تعتقد ان جائزة نوبل لا تقدم لعربي الا بتزكية اسرائيلية"؟ ما رأيك؟ هذا كلام غير معقول، والدليل على ذلك أن جائزة نوبل منحت للأستاذ نجيب محفوظ (وهو بلا شك أكثر من يستحقها) ولم تمنح لآخرين من غلاة التطبيع مع إسرائيل.
الكاتب محمد توفيق دخل الى عالم القراءة والكتابة بدءاً من زيارة الى معرض الكتاب عندما كان في الخامسة عشرة ( كان يقام حينذاك في أرض الجزيرة مكان مجمع الأوبرا الحالي)، وبدأ برواية المتمرد لأبير كامي، وانتقل الى قراءة أعمال " صمويل بيكيت"، وتوالت القراءات الى ان وقعت يده على ترجمة إنجليزية لإحدى قصص "جابرييل جارسيا ماركيز"، والى تحفته " مائة عام من العزلة" وخطر له وقتئذ أن هذا الكاتب إن ترجم إلى العربية سوف يحدث انقلابا في الأدب العربي، وقد كان، ولم يتوقف عن القراءة والتنقيب عن الجديد، وأصبح أكثر ميلاً لما يطلق عليه ""الرواية الشاملة"، وكتاب "فن الدراما" للاجوس اجري" هو الكتاب الذي ترك البصمة الاعمق في نفسه، والذي دعاه الى الاهتمام بالبناء الدرامي في أعماله سواء في الرواية أو القصة.