د. صبرى حافظ جريدة العربي
تعد رواية سعيد نوح الثانية "دائما ما أدعو الموتي" إضافة روائية إلى مسيرة هذا الكاتب الموهوب الذى لفتت روايته الأولى "كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد" اهتمام الواقع الأدبى قبل عدة سنوات. وقدمت لنا شريحة إنسانية من شرائح الواقع التسعينى فى المناطق العشوائية فى مدينة القاهرة. وكشفت لنا عن الكثير من سمات الرواية التسعينية الجديدة فى سعيها لمنح الواقع الخشن المثقل بالفقر وشظف العيش وجها إنسانيا، وإبداعا جماليا، يتسم بالعمق والحساسية الفائقة لتفاصيل الحياة فيه، ولذاكرته الداخلية التى تنطوى على كثير مما عاشه هذا الواقع فى الزمن التسعينى الرديء. وإذا كانت رواية سعيد نوح الأولى التى قدمتها فى حينها للقراء قد استطاعت أن تخلق بتعدد الأصوات فيها، وتغير منظور السرد المستمر، بنية روائية قادرة على اقتناص تفاصيل الحياة فى هذه المناطق العشوائية الجديدة من المدينة، فإن روايته الجديدة هذه تقتنص لنا فى شبكة سردها المغوية، والتى تعتمد كذلك على تعدد الأصوات، مدى تدهور الحياة فى المناطق الشعبية المركزية من القاهرة العريقة.
وقد أضافت هذه الرواية إلى تعدد الأصوات إلى سمة جديدة هى الاستخدام الحاذق للتناص، فاستطاعت من خلاله أن تقدم لنا الحاضر وهو ينعكس على مرايا الماضى الذى يبدو أكثر تألقا وجاذبية من هذا الحاضر الكابى البليد الذى زحف حتى على قلب المدينة العتيق ولم يكتف بأطرافها الهامشية. لأن هذه الرواية الجديدة تدور فى حى بولاق الشعبى العريق، وتتعمد اقتناص ذاكرة هذا الحى التاريخية فى ثنايا النص، وإماطة اللثام عما ترسب فى ذاكرته المكانية وفى طوبوغرافيا المنطقة، والتعرف على ما انتاب أهله من تحولات. لأن من يقرأ هذه الرواية يدرك أن أحد همومها الأساسية هو استنقاذ تواريخ هذه الشخصيات الأساسية البسيطة من طوايا النسيان والاندثار. تماما كما حاولت روايته الأولى أن تسترد بالفن بطلتها الأساسية من قبضة الموت وأن ترد لها بالفن حياتها المهدرة قبل الأوان. البنية السردية والواقع أن الموت، أو الحياة الواقعة فى قبضة الموت، هو أحد مشاغل هذه الرواية الجديدة كذلك.
لكنها مشغولة كذلك ببنيتها السردية الشيقة التى دفعت الكاتب إلى تقديم عمله بمقتطفات جميلة من أستاذ الفن القصصى العربى الكبير يحيى حقى يكشف لنا فيه عن آليات التأليف فى نصه، أو بالأحرى عن مفاتيح الكتابة فيه، وهى فى الوقت نفسه مفاتيح التلقى والقراءة. لأن يحيى حقى يتحدث فى هذه المقدمة القصيرة عن التوتر بين رغبة الكاتب فى أن يستأثر بطله باهتمام الكاتب والقارئ معا، وبين مقتضيات الكتابة الإبداعية التى تتطلب أن يجعل شخصية هذا البطل تملأ اللوحة كلها وتستأثر بجميع الأضواء "ص7" لكن متطلبات إكساب هذا البطل بعدا واقعيا مقنعا تستلزم أن يخلق الكاتب معه عددا من الشخصيات الثانوية التى يعدل بها النص عن رسم فرد فى لوحة صغيرة إلى رسم جيل فى لوحة كبيرة … ولكنه مع هذا كله قد يرتاع حين يحس أن الحركة فى اللوحة قد ماتت من شدة الازدحام واختلاط الكبير بالصغير. فيتأمل اللوحة ليرى ما هو فاعل من أجل أن تدب فيها الحركة والنمو … حينئذ يلجأ المؤلف إلى حيلة فنية فى صنعة التأليف، هى أن يجعل شخصيات اللوحة كلها ــ والبطل من بينها ــ تدور حول شخصية ثانوية، ينتزعها من الهامش ليضعها فى المركز.
فإذا بشخصية البطل وهى تتحول إلى الأطراف قد أصبحت أكثر وضوحا وصدقا "ص8" وهذا التقديم الحاذق يكشف سر اللعبة الروائية من ناحية، ويتطلب منا أخذه بعين الاعتبار فى عملية القراءة التى يجب أن ترد للبطل موقعه المركزى من جديد فى القراءة والتأويل، وألا تقع فى شراك دوران الشخصيات حول الشخصية الثانوية التى انتزعها البطل من الهامش ووضعها فى المركز. فالنص إذن يعتمد على لعبة تبادل المراكز والمكانات والأدوار. استخدام التناص ولا يقف انشغال الرواية ببنيتها السردية عند هذا الحد الذى منحتنا مقدمة يحيى حقى الجميلة مفاتيحه، ونبهتنا عبره إلى الجدل المستمر فى هذا العمل بين المركزى والهامشي، ولكنه يمتد إلى إضافة هذه الرواية الفنية الأساسية، ألا وهى عملية استخدام التناص، والتناص السينمائى خاصة فى إثراء السرد والكشف عن تواريخه من ناحية، وصياغة مرايا من الماضى المنصرم ينعكس عليها الحاضر، ويكتسب بعده الزمنى والتاريخي.
فالنص يستخدم عددا من الأفلام التى استطاع أن يضفرها بحيلة سردية مقنعة فى نسيج السرد الروائى وأن يجعلها جزءا من لحمة هذا السرد وسداه. فهناك مجموعة من الأفلام التى تتخلل نسيج السرد، وتبدو للوهلة الأولى وكأنها غير موظفة فيه إلا تلك الوظيفة الإشارية المباشرة التى ينطوى عليه دور استدعاء الفيلم فى تقديم شخصية "أنور المانسترلي" أو الحديث عن جانب من جوانب حياته وحياة "فتحية معه" مثل فيلم "أربع بنات وضابط" و"حسن ونعيمة" و"الأسطى حسن" و"الباشكاتب" و"قلبى دليلي" و"جعلونى مجرما". لكن من يتأمل الدور التناصى لهذه الأفلام، ويستعيد عوالمها يكتشف أن لها أكثر من وظيفة فى بنية هذا النص السردى المتراكبة الدلالات. لأن السرد يدير حواره الشيق عوالم هذه الأفلام وزمنها الرخى الذى يشكل ماضى الزمن السردى من ناحية ــ حيث أن معظم الأفلام المستدعاة من سنوات أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، بينما زمن السرد هو النصف الثانى من الثمانينات وعقد التسعينات ــ كما تشكل عوالمها بنية المشاعر والرؤى والأحاسيس المترعة بالأمل والتمرد والشوق الدائم للعدل والحب، فى انعكاسها على مرايا متغيرات الحاضر الشعورية المثقلة بالقهر والإحباط من ناحية أخري.
حبكة الرواية وإذا ما عدنا إلى مفتاح القراءة الذى منحته لنا مقدمة يحيى حقى الجميلة سنجد أن علينا أن نحدد من البداية الحبكة الأساسية فى السرد والحبكات الثانوية فيه. وأن نعيد ترتيب الأحداث فيها، لأن الرواية تبدأ من النهاية، ثم تنتقل لزمن معرفة الراوى بأسرة حبيبته المستحيلة "جيهان"، ثم تغوص فى توارخ هذه الأسرة وتنتقل بحرية بين الأزمنة. وعلينا أيضا أن نتجنب الوقوع ى شبكة الحبكة الثانوية والتى تبدو لنا مغوية وشيقة إلى أقصى حد، ألا وهى تلك المتعلقة بقصة حياة فتحية المليئة بالأحداث المثيرة والمغامرات. وحتى فى شبكة غيرها من الحبكات الأخرى مثل تلك المتعلقة بقصة "زغلول العريان" ومحاولته المعكوسة لإثبات رجولته أو سلامه الداخلى مع نفسه. أو حبكة العلاقة بين صعيد مصر والمدينة من خلال قصة "أم أحمد الصعيدية" أو العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى المجتمع المصرى وما انتابها من متغيرات مزلزلة. أو التغيرات الطوبوغرافية فى حى بولاق الشعبى القديم، وأثرها على بنية العلاقات الاجتماعية والإنسانية فيه. أو ما حرى للشخصية الكوزموبوليتانية للقاهرة التى كانت تغص بالأجانب، وكانوا يشكلون ملمحا أساسيا من ملامح التفتح والتسامح فى المجتمع المصرى الذى انزلق إلى مباءات التخلف والتعصب الوهابى المقيت. وكلها حبكات ثانوية مهمة لنسج تفاصيل اللوحة العريضة للرواية وتشكيل عالمها الثري.
لكنها تلعب هذا الدور كى تمنح الحبكة الرئيسية دالالاتها المتراكبة ومعانيها المتعددة. ومنذ عنوان الرواية نفسه، وهو فى الوقت نفسه عنوان فصلها الأول "دائما ما أدعو الموتي"، سنجد أن الفاعل فى هذه العبارة هو البطل/الراوي/الكاتب/"سعيد" وأن الحبكة الأساسية فى هذه الرواية المسكونة بالموت هى حبكة علاقة حبه المحبطة مع "جيهان" والمثقلة بالقيود والتردد والقهر والعجز عن التحدي، وقد انعكست على مرايا علاقة خالتها "فتحية" بحبيبها وزوجها "أنور المانسترلي" فى الزمن القديم. كى نفهم عمق العلاقتين معا، وكى ندرك من خلال انعكاس كل منهما على مرآة الأخرى حقيقة ما جرى لمصر من ترد وتدهور وانهيار. فالرواية تبدأ من قرب نهايتها، بعد ستة أشهر من خطبة جيهان للدكتور عمران، وتحدثنا عن سلسلة من الإخفاقات أو الإحباطات المتعاقبة فى حياة البطل/الراوي، ليست "جيهان" إلا آخرها ــ مع أنه أكمل السادسة والثلاثين، ولكنه لايزال غرا غريرا كما يقول إليا أبو ماضى "ص10" ــ فقد سبقتها "هالة" التى احتاج إلى عامين من أجل نسيانها، وقبلها "راوية" التى أخذت منه محاولة نسيانها ثلاث سنوات، أما حبيبته الأولى "إيمان" والتى أصبحت النموذج البدئى للحب والحبيبة لديه فقد احتاج تسع سنوات لنسيانها، بل يظن أنه لم يفلح أبدا فى ذلك. إذن فنحن هنا بإزاء نوع من توالى الإخفاقات، وقصر مدة تغلبه على كل منها بالتدريج.
وهى صيغة أخرى من صيغ اعتيادها. وها هى جيهان آخر أحلامى الفاشلة أضبط نفسى وقد شفيت منها، ولم أعد أفكر فيها ليل نهار كالأيام الفائتة. لكن ما كان أكذبني، فها أنا أرتعش حين سمعت صوتها للمرة الأولى خلال الستة أشهر "ص9" وها هو الصوت يدعوه للعودة إلى العالم الذى يحاول نسيانه، أو يسعى للهرب منه، وماذا سيلقى هناك غير أنباء المرض والموت الوشيك حيث يجد أمها "الحاجة نعمة" على فراش المرض/الموت. وما أن تطلب الحاجة "نعمة" الاختلاء به، حتى رحت أفكر: ما الذى أملكه ويجعل الأموات يحوطوننى بثقتهم؟ يوم أن مات خالى الدكتور عوض طلب من زوجته أن تتركه معى لحظات كانت كفيلة بأن يمنحنى أمانته. وكذلك أمى وأبى وأختى سعاد، والآن الحاجة. فما الذى يدعو الموتى لذلك؟ "ص12" وهو سؤال سيظل معلقا فى ضمير النص يتطلب من القارئ أن يجعل الإجابة عليه مدخلا إلى تأويله له. خاصة وأن النص قد أبرز هذا السؤال من خلال منحه تلك المكانة البارزة فيه وجعله مصدر عنوان الرواية ذاتها.
وبالتالى أحد محاور المعنى أو البحث فيها. وما يضفى على هذه البداية/النهاية، مع العنوان، أهمية إضافية هو غرابة الطلب الذى تسر به "الحاجة نعمة" إليه، وكأنها رغبتها الأخيرة وهى على فراش الموت. إذ قالت بصوت يملؤه الكبرياء والذل فبدا كصوت الموتي: جيهان بتحبك، وانت تحبها. هى قالت لى كده أول امبارح. فلو عندك مقدرة تفتح بيت تانى ما فيش مانع أخلى إخواتها يوافقوا. كانت الأمانة هذه المرة غريبة وصعبة. فدائما ما كان الأموات يدعونى للوقوف جوار أحبائهم الذين هم أيضا أحبائي. أما حكاية الزواج هذا ما لم يدعنى أحد إليه "ص13" فما يزيد هذا الموقف غرابة، ويحيله إلى مأزق وجودى حاد، هو أنه يطلب من سعيد المتزوج، أن يتزوج ابنتها "جيهان" وهى آخر العنقود، المخطوبة بالفعل منذ شهور للدكتور عمران. كما أنه يصبح بالفعل طلب "الحاجة نعمة" الأخير، لأنها تلفظ أنفاسها بعده بقليل، ويتقبل "سعيد" و"جيهان" معا فيها طقوس العزاء ويبقى "سعيد" يعده واقعا فى قبضة العجر عن تحقيق هذه الأمنية الأخيرة. ويظل السؤال يدور فى داخله دونما توقف: كيف استطاعت أن تخرج ذلك العرض من فمها وهى فى الطريق إلى الموت؟ وكيف لم أستطع تحقيق أمنيتها الأخيرة؟ "ص14" وكما لم يستطع أن يرد الموت عن أخته "سعاد" فى الرواية الأولي، إلا من خلال الكتابة، ها هو يحاول بالكتابة وحدها فى هذه الرواية الثانية أن يرد عن نفسه عجره عن تحقيق أمنية الحاجة الأخيرة. الأمنية التى عللتها يا بنى كل شيء قسمة ونصيب،، بس أنا كنت عاوزه أشوف جيهان سعيدة قبل ما أموت.
أبوها ما شافهاش وعلشان كده حاسة إنها معرفتش الحنان "ص13". فيتدفق الحنان المفقود والمرتجى فى أوصال الكتابة، لتصبح الرواية ذاتها محاولة لمنح "جيهان" هذا الحنان المفقود بكتابة عالمها المترع بالإنسانية والثراء. لذلك تضع الرواية شخصيتها الثانوية "فتحية" أو "توحة" فى مركز الأحداث، وتجعل كل ما يتعلق بها من مقاومتها للاستحمام بعد ما "انجذبت" حتى قصتها الشيقة المدهشة مع الحب وعالم السينما العجيب فى مركز الاهتمام، ولكن بعد أن تؤطره بقصة البطل مع "جيهان". لأن قصة "فتحية" هى فى بعد من أبعاد التأويل النقدى لهذه الرواية استشراف لقصة "جيهان"، أو بديل سردى لها.
لذلك نعود بعد هذا التأطير مباشرة لأول مرة يدخل فيها "سعيد" مع أخته "ماجدة" التى تسكن أمامهم بيتها ويلتقى بها وهى تعارك خالتها "توحة" وكيف تتملص "توحة" منها وتنتهك كل المحرمات بلا مواربة أو خجل. بصورة تؤسس عالما شعبيا جميلا فى تحرره من المواضعات الأخلاقية الزائفة، وفى أخلاقيته العميقة فى وقت واحد. وتضفر الرواية أحداث "توحة" بتاريخ مصر الحديث منذ قيام الثورة، أو بالأحرى بالوجه السرى لهذا التاريخ. فأبوها الحاج محمود الله يرحمه كان قريب يوسف بيه صديق. وده اللى قام بالثورة وبعدين الثورة دبحته "ص17" لأن تاريخ المنطقة، هو فى هذه الرواية أحد تجليات تاريخ فتحية دى كانت أجمل واحدة فى بولاق أبو العلا. وكانوا مسمينها توحة الغدورة. وهى عندها 13 سنة اتقدم لها الأستاذ محمد الأمير اللى كان شغال فى سراية عابدين واللى تجوز بعد كدة بالأميرة ست الدار الله يرحمها.
وبعديه المعلم محمد الجزار صاحب مصانع القزاز والأستاذ عنتر أبوهيف … شباب ورجاله آخر تمام اتقدمو لها بس هى اللى خيبت سكتها وحبت الواد أنور هنصور "ص20". عصب السرد الروائي وقصة حب فتحية لأنور هنصور أو "أنور المانسترلي" هى عصب السرد الروائى فى هذه الرواية. لأن أنور كان كومبارس فى الأفلام السينمائية فى الاربعينات والخمسينات. ظهر فى أدوار ثانوية فى أفلام عديدة من "أربع بنات وضابط" إلى "جعلونى مجرما". وكانا شابا جميلا "عايقا" وقعت "فتحية" فى غرامة منذ بواكير تفتحها، وتحدثت بولاق كلها عن قصة هذا الحب الذى دار فى الأربعينات حينما كانت الحياة فى هذا الحى الشعبى المصرى حياة رخية مترعه بالسلام الاجتماعي، وكانت العلاقة بين أقباط الحى ومسلميه هى علاقة الأخوة والمواطنة الصادقة. وكانت الست "أم ابراهيم" المسيحية جارتهم حزءا لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع الشعبى المتآلف. تروى لنا الحاجة "نعمة" عن زوجها: أنا قلت لك إن الحاج محمود الفران كان ثورى كبير. كبير قوى مسكوه سنة 54… فضل محبوس سبعة شهور حاكم الحاج كان من الإخوان المسلمين.
بس الإخوان بتوع زمان مش حبة العيال بتوع اليومين دول، اللى بيضربونا عمال على بطال وبيقولوا إن أموال المسيحيين غنيمة! يعنى إيه غنيمة! واشمعنى المسيحيين؟ ده الحاج محمود ــ الله يرحمه ــ كان دايما قاعد مع الاسطى رياض أبو منير والأستاذ اسكندر. والله العظيم الاستاذ اسكندر أبو مينا كان بيشيل التراب ويحطه على دماغه ساعة موت الحاج والست بتاعته ــ الله يقدس روحها ــ كانت أختى وحبيبتي، وما كانتش تعمل أى أكل إلا أما تبعت مع مينا منه "ص45" وتواصل لنا تقديم صور رائعة عن هذا الوئام الشعبى الذى فقدناه. وإذا كانت قصة حب "أنور" و"فتحية" تقدم لنا نموذج الحب القديم، فإن قصة "زغلول العريان" مع ابنته "أنعام" وزواجها فى الثمانينات من "الحاج محمد الجزار" الذى أخفق قبل سنوات عديدة فى الزواج من فتحية، بدلا من أن تتزوج من حبيبها "حسن العدل" تقدم لنا صورة جديدة لهذا التدهور الذى لم يكن ممكنا له أن يتحقق فى الأربعينات أو الخمسينات. ولم يكن أنور هو محب "فتحية" الوحيد، فقد كان لها محب آخر هو "عنتر أبوهيف" الذى ينحدر من أسرة ثرية، وكانت أمها تريد أن تزوجها له، ولكنها كانت تحت أنور ولما أحضر لها أنور صورته وهو بيبوس زوزو ماضى فى فيلم الاسطى حسن. أنا النار كلتنى "ص40" ولذلك استخدمت "عنتر" للانتقام منه، وأخذ صورة لها معه وهى تقبله، وهى القبلة التى ظل "عنتر" مأخوذا بها. ولما تزوجت "أنور" جن، وانجذب وأصبح يدور فى الموالد حتى الآن.
ونعرف أيضا قصة محب آخر لها كان أول من طلب يدها وهو محمد الأمير الذى كان يعمل فى قصر عابدين، والذى فكر أكثر من مرة فى تخليص البلاد من الملك ومع ذلك استغنت عنه الثورة مع أنه لم يكن يربطه بالأسرة الحاكمة غير العمل. … وظل يكتب التماسات للجنة العليا لقيادة الثورة دون أن يفوز بمجرد رد صغير يعضد إيمانه بالأبطال الذين قاموا بالعمل الذى خطط له ذات مساء، وكاد يحققه حين وجد الملك أمامه. وكان منذ خطط لهذا العمل يحمل مسدسا ولكنه تراجع فى اللحظة الأخيرة تاركا المهمة لهؤلاء الأبطال الذين لم يردوا عليه بكلمة تطمئنه على صحة إيمانه "ص58". وهذا كله يعزز الارتباط بين تاريخ فتحية وما جرى فى مصر، أو ما جرى لمصر. خاصة وأن الرواية التى تستخدم تقنية المرايا تعكس لنا من خلال حادث ذهاب "سعيد" مع "أبو محمد" بعد القبض على ابنه إلى النيابة وتصور أنها غير قسم الشرطة، وأنها بيت الغلابة "ص101" فيرد عليه شخص ينتظر دوره فيها عليه بحكاية من أبدع حكايات النص عن "محمد العدوي" وعن مدى تدهور النيابة وعن كيف أنها أصبحت غابة حقيقية لا عدالة فيها ولا حق. وانت وأنا وأى واحد عارف الشرطة بتخدم الشعب فعلا، لامؤخذة بتخدمه على قفاه. الشعب اللى بحد بجد فى بلاد بره مش هنا "ص104" والرواية كلها مليئة بالعديد من الحكايات والحبكات الثانوية التى لا مجال هنا للحديث عنها بالتفصيل، والتى تكشف لنا مدى التدهور الذى حاق بمصر فى كل مناحى حياتها، وكيف فت فى عضد هذه الحياة الشعبية الجميلة ونال من كبرياء بنيها. ــــــــــــــ صدرت الرواية عن الهيئة العامة للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة عام 2002.