فتحى سيد فرج
عن الحوار المتمدن 2009 / 6 / 27
عقدت لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى للثقافة ندوة يوم الأحد 24 مايو 2009 بعنوان " بدر الدين أبو غازي … الناقد والرسالة" وذلك بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته، وأصدرت كتابا ليكون وثيقة تذكارية يتضمن مجموعة من الدراسات ترصد معالم تجربته الرائدة فى مجال الإطلال النقدى على الفن التشكيلى، اشترك فى كتابة الدراسات التى تتناول رسالة هذا الناقد الفنى، جابر عصفور وأمل نصر وخالد البغدادى وكمال الجويلى ومحمد عرابى ومصطفى الرزاز ونجوى العشرى وياسر منجى. في مقدمة هذا الكتاب قال د . صبرى منصور " لم يكن بدر الدين أبو غازي مجرد ناقد فني استهواه الفن التشكيلي فانخرط في عالمه، وإنما كان نموذجا مثاليا لمثقف مصري أراد لبلده ملاحقة التطور الحضاري ومواكبة العصر، من خلال الكشف عن أسرار مجال فني كان مازال جديدآ على المصريين، وقد اعتبر تلك المهمة رسالة قومية عليه أن يؤديها بأمانة وهمة واقتدار، وهو في هذا المسعى ينضم إلى قمم الثقافة المصرية المعاصرة، أمثال طه حسين والعقاذ والحكيم وسلامة موسى وزكي نجيب محمود ونجيب محفوظ، وغيرهم ممن اطلقوا شرارة الفكر والوجدان المصري منذ أوائل القرن الماضي، وانتقلوا بالثقافة المصرية إلى مرحلة جديدة تليق بمكانة مصر وتاريخها الحضاري . وقدمت أمل نصر دراسة ضافية بعنوان " بدر الدين أبو غازى . ناقد وعصر" جاء فيها أن اتجاه بدر الدين أبو غازي النقدي متسقاً تماماً مع أفكاره الأساسية ومبادئه، وكانت إحدى أهم تلك الأفكار هي فكرة "الشخصية المصرية في الفن"، وليس في ذلك شيء من الغرابة حيث نشأ الناقد في كنف خاله فنان مصر مختار الذي أحاطه عصره بفكرة الحلم الوطني، تلك الشرارة التي بعثها مصطفى كامل فأشعلت وهج الحماس في جيل كامل، وامتد هذا الوهج إلى الفن المصري ليبحث مختار وجيله عن الشخصية المصرية في الفن وليتتبع جذورها الأولى، ليحاول وصل ما انقطع منها؛ من هنا أحيط بدر الدين أبوغازي من طفولته الأولى بعبق هذا الفنان الذي مثل مشروعه الفني حلما قوميا كبيرا، تابعه أبوغازي عندما شب بشغف ليشكل البذرة الأولى لإيمانه الكبير بفكرة ضرورة الفن, والتقط من ذاكرة والدته وشقيقتيه ذكرياتهن عن مختار وعكف على رسائله ومذكراته وأوراقه وكل ما كتبه مختار أو كتب عنه، يحاول استكمال صورة فنان مصر الكبير، ليشكل مختار بحياته وفنه وفكره أحد أهم العوامل المؤثرة في تشكيل وعي أبوغازي بقيمة الفن وضرورته. بدأ أبو غازي من الأربعينيات في تكوين ثقافته الفنية الخاصة، مستجيباً لحبه للفنون ليعد نفسه وبجهد ذاتي لدوره كناقد، وبدأت كتاباته تنحاز تدريجياً للغة التشكيل خاصة في دراساته عن الفنانين, لكنها لم تكن إغراقاً في متابعة الشكل وتنحية العوامل الأخرى المحيطة بالعمل الفني، بل ربط دائماً مفردات الشكل بما يمكن أن تستدعيه من دلالات وروابط تعقد الصلة بين الفنان ومجتمعه وبين الفنان وتراثه القومي، وصولاً لتأكيد ما استقر من سمات في تجربة كل فنان توضح ملامح الشخصية المصرية التي حاول أبوغازي تتبعها في جيل الرواد. وكان لقدراته اللغوية وموهبته الأدبية دوراً هاماً في مساندة أفكاره وتقريب رؤيته للأعمال الفنية، وقد أسهمت ثقافته البصرية في تطوير قدرته على التعبير، كما أسهمت قدرته اللغوية في ترجمة خبرته الجمالية إلى كلمات فجاءت كتاباته بلغة جزلة ممتزجة بثقافة بصرية أسهم في تعميقها علاقاته القريبة والطيبة بالفنانين، ونظراً لثقافته النقدية التي ثابر على دعمها فهو يحمل أفكاراً نقدية معاصرة للغاية، على سبيل المثال يرفض تقييد رؤية العمل الفني بتحديد فلسفي مسبق أو تأصيل العمل الفني على أساس تبني فلسفة معينة للجمال، وقد اعتبر ذلك خسارة للفنان والمشاهد وقيدا نظريا لابد وأن يتمرد عليه الإبداع الفني. كما اعتبر أن العمل الفني نفسه هو محور النقد واندماج الناقد في العمل وتحليله إياه واكتشافه هو المطلب الأساسي أياً كان منهج الناقد. كذلك فهو يرى أنه "ليس على الناقد أن يقيد المتلقي بموازين حساب محددة تحول دون استمتاعه الحقيقي بالعمل الفني. لابد له أن يترك المتلقي لخياله. ويدعه يقرأ العمل الفني بنفسه ويضيف إلى ضوء الناقد ضياء من عنده، لا أن يقرأ للمتذوق العمل نيابة عنه ويلقي إليه بحكم صارم … الناقد يلقى ضوءا ولا يمسك صولجانا." وهو في ذلك يلتقي مع نظرية جماليات التلقي (إحدى النظريات التي أسهمت في إعادة تشكيل النظرية الجمالية المعاصرة ووجهت اهتمامها منذ البداية إلى المتلقي بهدف كشف الدور الذي يلعبه في التعامل مع الأعمال الفنية، وقد كان لها الإسهام الأكبر في التركيز على علاقة العمل الفني بالمتلقى لتكوين تاريخ جديد للعلاقات بين الفن والجمهور. وتقوم على افتراض أنه ليس للعمل الفني معنىً ثابتاً، وإنما ينتج المعنى بواسطة المشاهد أثناء فعل التلقي). أعان بدر الدين أبوغازي في بنائه لثقافته النقدية توجه مفكري عصره نحو الإعداد لنهضة في مجال الفنون وإيماناً بضرورتها، ذلك العصر الذي وصفه أبوغازي "بالشمولية والتعدد واللقاء بين أهل الفن وأهل الأدب"، وإذا تأملنا الإطار الفكري الذى أحاط بموضوع الفنون الجميلة في العصر الذي عاشه أبوغازي واستقى منه إيديولوجيته الخاصة التي أطلق من خلالها مراجعاته النقدية سنجد أن مقومات هذا الوعي بدأت في مصر مع بداية القرن العشرين في كلمات لطفي السيد وقاسم أمين وفرح أنطوان ومحمد عبده. ونجد العقاد يصيغ أول فلسفة جمالية في الفكر العربي وحدت بين الجمال والحرية عرض ملامحها في كتابيه "المطالعات"، و"مراجعات في الأدب والفنون"، وبالرجوع إلى كتابات بدر الدين أبوغازي نجد توافقاً بين آرائه وآراء عباس محمود العقاد وإيماناً منه بتلك الآراء، بل أنه قام بدراسة عميقة بعنوان "العقاد والفنون التشكيلية"، أفصح فيها عن يقين العقاد بضرورة الفن للمجتمع ودوره كرائد طليعى يدافع عن الفن ويؤكد ضرورته ويحاول أن يضعه في مكانه الصحيح في حياة الأمة. وكانت إشارات بدر الدين أبوغازي واضحة في كتاباته تعكس خوفه من ضياع الشخصية المصرية وراء مجاراة كل جديد يظهر في عالم الفن، وكانت هذه الكتابات تحمل طابعاً تنبؤياً لما آل إليه حال الفن المصري الآن وبعد مرور أكثر من ربع قرن على رحيله، لكننا لا نجد الآن من يتصدى لترسيخ فكرة الشخصية المصرية في الفن أو كأنها أصبحت دعوة من الدعوات القديمة التي انتهت بغياب الأفكار القومية ورحيل فكرة الحلم القومي، وتراجع حس النضال من أجل الوطن ليصبح الجميع غارقين في وادى السيلكون الذي انصهرت فيها كل الهويات. كانت فكرة الشخصية المصرية في الفن هي الفكرة الرئيسة التي توجه من خلالها أبوغازي في تناوله النقدي للفنون، حيث كتب يقول في دراسته عن الفن المصري الحديث في كتاب "محيط الفنون" يشير إلى "الحقبة التي أعقبت قيام ثورة 1919 التي تماثل عصر الإحياء الأوروبي حيث اتجه فيها النظر إلى مجد البلاد القديم وعراقتها تؤكده الكشوف الأثرية الباهرة التي تمت في تلك الفترة وتساندها رغبة المصري في استعادة أمجاده ليقيم عليها حاضره. وكانت الروح الوطنية المتأجحة في النفوس تزهو بفكرة المصرية." إنه الفكر ذاته الذي انطلق منه بدر الدين أبوغازي وتبناه في مجال النقد الفني، لقد حاول دائماً ربط الفن التشكيلي المصري الحديث بجذوره المصرية، وأكد على أهمية العودة إلى المنابع الأولى ونحن نستقبل التيارات الوافدة الجديدة وعياً منه بالمأزق الذي وقعت فيه الفنون الجميلة المصرية حين فقدت اتصالها واستمراريتها منذ العصر العثماني، مما جعل دور الفنان المصري المعاصر أكثر صعوبة وتشكلت عنده هوة تاريخية كان عليه أن يخطو عبرها ليعيد بناء ما انقطع من أواصر بينه وبين تراثه الفني الأول حتى يستطيع الوصول لشخصية فنية مصرية . وهو كناقد مصري تحمل كتاباته شكلا من أشكال النضال الوطني في المضمار الذي اختاره محاولاً من خلاله إعادة بناء الشخصية المصرية في الفن المعاصر وإستدعاء حضورها الأول وكتاباته سجلاً لأفكاره ورسالته وإيمانه بضرورة الفن، فبالإضافة لكتبه التي ضمنها تلك الرسالة ودافع عنها نجده يقوم بدراسات حول: الفنون الإسلامية من منظور جديد للتراث، والنحت في الفن الإسلامي، ويقدم دراسة عن مكانة الفن في الحضارة الإسلامية وبحثاً عن الشخصية القومية وانعكاسها على الفنون في مصر عبر العصور، كما يقدم بحثاً عن الطابع القومي في الفنون العربية ومكانة الفن في المجتمعات العربية القديمة الذي قدمه في المؤتمر الأول للفنون التشكيلية في الوطن العربي. ونستطيع متابعة تلك المفاهيم أيضاً من خلال دراساته لفناني مصر, فقد كان يتلمس دائماً ملامح الشخصية المصرية؛ إذ كان يكتب وهو يحمل فكره معه في قراءة وتقديم أعمال الفنانين إلا أنه لم يكن يفرض مسبقاً هذا الفكر بقدر ما كان يستنبط من أعمال الفنانين ما يتسق مع بحثه عن معالم تلك الشخصية، وإذا تتبعنا ذلك من خلال كتاباته فنجده يقول: "كان طموح هذا الجيل يستحث به الخطى فلم يقنع بمصر موضوعاً له، وإنما أراد أن يبتدع أسلوباً مصرياً يصوغ منه روح مصر في تماثيله ولوحاته وأن يعوض ما فاته في مرحلة من اتصال قريب بالتراث المصري." وبالطبع كان مختار هو فنانه النموذجي الذي خصه بأكبر دراساته النقدية ليس فقط لتشربه القريب لأفكاره ودوره الهام في بنيانه الفكري وأيضاً النفسي كخال عائل لأسرته يعينها على حياة كريمة بعد وفاة الأب في سن الشباب، بل أيضا لأنه كان مثالا للفنان الذي وجد سبيله إلى فن مصر القديم يستخلص منه صورة عميقة للروح المصرية دعمها بدراسته للفنون الغربية فاستطاع تقديم نموذج للشخصية المصرية المعاصرة، حيث "تمثل شخصية مختار في النحت تعبيراً تشكيلياً متكاملاً عن روح مصر .. وجاءت أصالة فن مختار من منابع ثلاثة: التراث، والبيئة، والعصر … كانت في أعماله روعة التمثال المصري القديم، ورقة تماثيل التناجرا، وسمو المئذنة، ورشاقة الإناء الإسلامي." لقد رأى أبوغازي أن فن مختار قد تمثل القيم الحضارية للتراث الفني المصري في العصور المختلفة مع إدراكه لثقافة الفن المعاصر وتياراته، وكان هذا هو التصور الأمثل عنده لتقديم فن مصري معاصر يحتفظ بالشخصية المصرية دون انغلاق، وإذا كان مختار هو الفنان النموذجي في تحقيق الشخصية المصرية في فن النحت عند أبوغازي فإن محمود سعيد كان بالنسبة له هو الفنان "النموذجي" الذى استطاع أن يقدم معادلاً تشكيلياً لما كانت ترنو إليه أفكار بدر لإقامة شخصية مصرية في فن التصوير، فقد قدم ـ كما يقول أبوغازي ـ "فناً مصرياً دون أن يكون تقليداً لطراز من طرز الفنون التي أبدعتها مصر .. تتمثل مصريته في التقائه بالخصائص الأصيلة التي انبعثت من تقاليد مصر الفنية، ونفس الوقت تأمله للتقاليد الفنية التي ظهرت على شواطئ الغرب من جيوتو حتى العصر الحديث." ويكتب أبوغازي عن محاولة ناجي لخلق أسلوب مصري جديد عن طريق إدماج فن التصوير الأوروبي مع المقومات المصرية التي اهتدى إليها من نظرة إلى الجو المصري والآثار القديمة ويسجل أن ناجى قد "بشر بالعودة إلى الفرسك المصري القديم، وأشار إلى ما يمكن أن يؤديه التصوير من رسالة اجتماعية حين يخرج من نطاق لوحة المرسم إلى جدران المباني العامة ليسجل مشاعر عصره ومثله وأحداثه." وعلى الرغم من إشارته إلى الأسلوب الأوروبي لمحمد حسن، فإنه يلوح بمصرية الموضوع وانعكاس صفاء الجو وإشراق الشمس المصرية على الكائنات المصورة، حيث كان الروح القومي في عصر الإحياء المصري يذكى فكرة "تحقيق الذات المصرية" في كافة مجالات الحياة، فالتمس محمد حسن تحقيق هذه الفكرة عن طريق "مصرية الموضوع" ويتوقف عند إحياء محمد حسن لدور الفنان الصانع بمدلوله المصري القديم، فاللغة المصرية القديمة لم تعرف التفرقة بين الفنان والصانع، حيث كان الفنان المصري القديم هو مبتكر الفكرة وصانعها … وقد لمس محمد حسن مجال الفنون التطبيقية والحاجة إلى إحيائها باعتبارها من مقومات عصر النهضة المصرية على اعتبار أن الصناعات الفنية في مصر مثلت قوة شعبية حاول أن يطمسها الطغاة في عصور سابقة. ويشير بدر الدين أبوغازي إلى أثر تصاوير الكنائس وخطوط النقوش المصرية القديمة على أعمال راغب عياد الذي خرج من هذا الجيل فناناً متمرداً على الصورة التقليدية لمصر وتناول حياتها الشعبية بخطوط جريئة لها وشائج ترتد إلى أسلوب الفنان القبطي والفنان الإسلامي في معالجة صوره. كما أشار إلى مكانة يوسف كامل التي تتمثل برأيه في أنه "مضى بخط الفنانين المستشرقين نحو نظرة مصرية وجو مصري، ولقد كان جو مصر وطبيعتها في حاجة إلى هذا الوجه من وجوه التفسير الفني للأشياء ضمن أساليب التعبير المتعددة." ويلمح إلى أصالة الرؤية المصرية في تجربة الجيل الثاني الذي اهتدى بتجربة الجيل الأول كما ظهر في أعمال إبراهيم جابر، وعبدالقادر رزق، وأحمد عثمان، ومنصور فرج، ويشير إلى المصرية التي تتجلى بصورة أخاذة في أعمال عبدالسلام الشريف الذي استوحى صنعته الفنية من عمال "الخيمة" وحقق بهذه الطريقة صوراً مصرية في أحاسيسها وفي بساطة تكوينها وجمال خطوطها. يقول بدر الدين أبوغازي في كتابه "الفن في عالمنا"، "إن الأثر الفني هو محور النقد، واندماج الناقد في الأثر، وتحليله إياه، واكتشاف سر جماله، هو المطلب الأساسي أيًّا كان منهج الناقد وأسلوبه … وإلى جانب الأثر الفني هناك الفنان منتج الأثر، والظروف المحيطة به، تلقى أضواء على تقويم الأثر وتحديد مكانه من عالم الإبداع، وهناك أيضاً التناول التاريخى للعمل الفني … الحكم على العمل بوصفه نتاجاً لفترة معينة … فكل عمل فني ليس إلا نتاجاً لنقطة معينة في الزمان والمكان … ومن ثم لا نستطيع أن نستبعد العصر والبيئة في حكمنا." وهنا يعلن بدر الدين أبوغازي بوضوح عن منهجه النقدي الأقرب وهو المنهج السياقي ومن المنطقي أن يكون المنهج السياقي هو أنسب المناهج التي كان لابد وأن يتبعها أبوغازي حيث أن النقد السياقي هو ذلك النوع من النقد الذي يبحث في السياق التاريخي، الإجتماعي، النفسي، للفن. فسياق العمل الفني يشمل الظروف التي ظهر فيها العمل، وتأثيراته في المجتمع، ويشمل بوجه عام جميع العلاقات المتبادلة بين العمل وبين الأشياء الأخرى. ويقول د. جابر عصفور لقد عرفت بدر الدين أبو غازى كواحد من أشرف وأخلص من عملوا وزراء للثقافة فى هذا الوطن، وبرغم اننى لم أعرفه شخصيا فى حياته للأسف إلا اننى عندما تابعت أعماله أدركت انه واحد من الرواد الذين اسهموا فى تعميق شعور جيلنا ووعيه بأهمية الفن فى حياتنا وهى الأهمية التى كانت تؤكدها مقالات بدر الدين والتى ظل ينشرها فى الجرائد والمجلات المصرية محاولا تنويع العقول وإغناء النفوس بكل نماذج الفن التى تضيف الى الحياة حياة وعمقا وامتداداً وثراء، ليظل علامة استثنائية فى تاريخ الابداع المصرى، حتى عندما ترك الوزارة عام 1971 لم يتأثر كثيرا بل سرعان ما عمل مستشارا ثم أمينا مساعداً للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وأمينا عاما مساعدا لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، وما بين 1977 وعام 1981 كرمه المجلس الأعلى للثقافة بأن جعله عضوا فى هيئة المكتب وهى أرفع هيئات المجلس فضلا عن رئاسته شعبة الفنون فى المجلس ومنحه المجلس الأعلى للثقافة جائزة الدولة التقديرية سنة 1978 وظل بدر الدين يسهم بأفكاره للتنوير بأهمية حضور الفن فى الحياة وذلك حتى وافته المنية فى الحادى عشر من سبتمبر عام 1983م، ولم تنقطع انجازات بدر الدين التى استمرت على يد نجله عماد أبو غازى والذى ساهم فى تطوير المجلس الأعلى للثقافة. ويقول كمال الجويلى الصحفى والناقد الفنى التشكيلى، بدر الدين أبو غازى نشأ فى أسرة فنية يحيطها رائد النحت المصرى الفنان محمود مختار برعايته، لذا يعتبر كتاب (محمود مختار) هذا المجلد الضخم الذى يعد المرجع الأول لتاريخه والذى احتلها أبو غازى بجهد ضخم ودءوب بداية انطلاق بدر الدين فى عالم النقد الفنى متميزاً بنص أدبى فريد، فلاشك أن الجينات الموروثة من أسرته المتعددة المواهب كانت مطلقة لخياله الذى اقترب من الصوفية والزهد فى الماديات والذى يذكرنا بمسمى أول جماعة فنية معاصرة رأسها مختار حيث أطلقوا عليها (جماعة الخيال) فالخيال هو العنصر الرئيسى لدى المبدعين أصحاب المواهب. ويشير كمال الجويلى الى أن بدر الدين كان ناقدا فذا ومؤرخا متميزا أسهم بصورة كبيرة فى عملية التنوير التى نحتاج إليها فى هذه المرحلة من تاريخنا الحديث التى اختلطت فيها مفاهيم متعددة ومتناقضة ورؤى سطحية نأمل أن نتخلص منها بالوعى فى وقت قريب، هذا الرجل الانسان الذى حمل مصباح المعرفة ليضيء به من حوله، ترك بصمات لا تنسى وكأنما هى وصيته لكل الأجيال القادمة. ويكتب خالد البغدادي عن مكانة الناقد بدر الدين في الحركة النقدية المصرية، فقد كان له دورا بارزا في التعريف بالحركة التشكيلية منذ بدايتها، مما كون له شخصية متميزة، هذا بالإضافة إلى قيادته وتوجيهه للحركة الفنية من خلال المواقع التى احتلها كعضو في عديد من المجالس ولجان التحكيم الدولية، ورئيسا لجمعية محبى الفنون الجميلة . كما كان له جهد كبير في إنشاء نقابة الفنانين التشكيليين، وفي نظم التفرغ، وأشرافه على عديد من المؤتمرات، ونشاطه مع الهيئات المحلية والدولية بهدف إبراز الجوانب الإبداعية في ترتث مصر، كما قدم دراسة موسعة تتناول تاريخ حضارة الصورة، سابقا الكثير من المهتمين المعاصرين، وبحثا عن الشخصية القومية وانعكاساها على الفنون في مصر عبر العصور، وأيضا دراسة عن الطابع القومي في الفنون العربية ومكانة الفن في المجتمعات العربية القديمة، كل هذا أهله للحصول على أرفع الأوسمة والجوائز من مصر وعديد من الدول الأخرى . وكذلك قدم د . مصطفى الرزاز دراسة عن المكانة الاستثنائية للرائد بدر الدين أبو غازى، فقد كان له موقع متميز في الوسط الثقافي المصري بصفة عامة، وفي الحركة الفنية التشكيلية على وجه الخصوص، وهو صاحب تكوين ثقافي خصوصي، إذ على الرغم من خلفيته الاقتصادية فإن اهتماماته كانت أدبية وموسيقية وتشكيلية، كما كان ارتباطه بالفن التشكيليوثيقا من حيث كونه ابن شقيقة الرائد محمود مختار، ولزياراته الحثيثة لمتاحف أوروبا، فرنسا بصفة خاصة، ومنذ شبابه المبكر كان متابعا لمجريات الحركة الفنية عن قرب، التقى روادها وحاورهم وزار معارضهم مدونا ملاحظاته الثاقبة باتساع أفق ووعى . ولكونه خبيرا اقتصاديا فقد تكونت لديه دقة الملاحظة والحرص على تسجيل كل شارده وواردهفي جولاته امتحفية وفي المعارض والمراسم وفي الندوات والمؤتمرات التى كان يديرها ويضع مخططات الكثير منها، ومع كل ما تمتع به من عمق وثراء معرفي وخبرات حياتية ومهنية فإن أبو غازى كان مدهشا حقا في كونه مستمعا صبورا لكل من يلقاه، كالحكماء يستمع أكثر بكثير مما يتكلم، فوسطه التعبيري هو الكلمة المكتةبة التى يتاح له في وصفها الرجوع إلى المصادر والاستعلام عن المنابع والمراجعة الدقيقة لتبليغ الرسالة في صياغة سلسة ومستوى أدبي رفيع دون تكلف أو استعلاء . في مشروعة حول تراث مختار حقق خطوة تاريخية حين اتصل بالمعماري الفنان رمسيس ويصا ونسق معه بناء متحف يخصص لأعمالالفنان الرائد، إن هذا المشروع يمثل الجهد الرئيسي لأبو غازى، وهو مشروع طموح ومتشعب، كان من الضروري أن يضطلع به شخص موسوعي عملي ومثابر، بهدوء وفق خطة محكمة ووعى واسع النطاق، مشروع قومي كان يتطلب مؤسسة أو مؤسسات لإنجاذه، وربما ضاع بينها في دهاليز البيروقراطية . أما نجوى العشري فكتبت عن المنهج النقدي عند بدر الدين أبو غازي، فقد أوضح أن مهمة الناقد الحقيقية هي فك وتوضيح وتقريب الرموز وتفاعلاتها ضمن منظومة فنية لها مرجعيتها للجمهور في محاولة لدخول الإنسان عصر الصورة التى تهجم علينا عبر قماشة اللوحة المستندة على حامل أو المنحوتة أو المصورة . وكما يقول بدر أبو غازى في كتابه " الفن في حياتنا" الفن إبداع وهو أحد السمات الرئيسية في الحضارة، وربما كان أشدها تنوعا وإعجازا، قد يبدو أنه يكفي أن يفتح الإنسان عينيه ويهيئ بصيرته وحساسيته لاستقبال العمل الفني، ولكن ذلك ليس بالعمل اليسير، فكم من مشاهدى العمل الفنى لا يدركون منه إلا ما يمثله أو يصوره، ويقفون عند الموضوع دون مضمون العمل الفني وما يحفل به من قيم وثراء، هناك إذن أبعاد بين العمل الفني والتذوق الحق، والناقد هو الذي يختصر هذه الأبعاد ويقرب المسافة بين الفنان والمشاهد، وهو وسيط وجداني يحمل رسالة التقويم الجمالي ويخاطب بلغته طرفين : الفنان ليقوم عمله ويحدد مكانه في مسار الفنون وبين مذاهبها، والمشاهد ليضئ له الطريق إلى التذوق واكتشاف السحر الكامن في الأثر الفني، وحيثما تدفق الإبداع الفني ظهرت الحاجة إلى الناقد بصورة أو بأخرى، وفي عصرنا الحديث تتأكد الحاجة من ظروف العصر ومن طبيعته . ويقول الكاتب والناقد الفنى ياسر منجى، ان القيام برحلة فى جماليات بدر الدين توضح كوامن الخصوصية فى نصه، وباعتباره أحد مثقفي عصره الذين التحموا بالمشهد الموصوف بقوة مستفدين من طرح رواده وهاضمين لخلاصة منتجه الفكري، فقد أسس أبو غازي شطرا غير منكور من دعامات منهاجه النقدي على كبريات الأفكار المتحصلة من ذلك المشهد، فها هو يقول في كتابه عن محمود سعيد " الحكم على العمل الفني يتطلب الوقوف على المنابع التى صدر عنها والجو الذي عاش فيه والاتجاهات التى أملت على الفنان اختيار طريقته، وبصفة عامة الإطار الذي أحاط بنشأة الأثر الفني وظهوره، والتراث في مصر يحتل أهمية خاصة في تكوين الأثر الفني، ففي أعماق الفنان المصري المعاصر رواسب أجيال عدة ما زال نبضها الفني متصل الخفقات" . وهو يلخص السمات التى تميز الربع الأول من القرن العشرين بقوله "ونظرة أخرى إلى العصر تتمثل في فكرة البعث، بعث التراث، وهي من المعالم المميزة في عصور النهضة، كان هذا هو عصر النزعة القومية في الأدب والفن والفكرة، وحين نتأمل في مجمل المنجز النصي لبدر أبو غازى، لا نملك إلا العتراف بفرادة مشروعة، والذي امتلك من الإحاطة بسياقات زمنه ما مكنه من نقش مكانته الرياديةفي صفحة النهضة المصرية، بوصفه أحد اركان" أدب النقد" القلائل، الذين طرحوا أمثلة باهرة لقدرة النص النقدي على تجاوز مقاصده الاعتيادية، والالتحام بالمقصد الحضاري باعتباره شريكا حتميا في المسألة التنويرية، إلى الحد الذي يصح اعتباره معها جنسا من الإبداع الفكري والفلسفي المتواشح مع الشأن البصري . وعلى المستويات كافة لا نملك سوى الاحتفاء به، تسليما منا بمكانته كقامة فكرية أثبتت حضورها الطاغي الخاص على وجه المشهد الثقافي الفني العربي بعامة والمصري على وجه الخصوص .