مهداة الى روح الكاتب والموسيقار المصرى د . محمد ُفتوح 6 يناير 1955 – 13 أكتوبر 2008
أنت الوحيد الذى سافرت له ليلا ، فى تلك القرية النائية ، اسمها
" الدراكسة " – مركز منية النصر – الدقهلية .
نظرى قصير ، والطريق طويل ، والليل البارد يخفى المعالم . سيارتى
الصغيرة مستهلكة ، تكاد تتماسك لتحملنى اليك سالمة. لكننى اليك مشتاقة ،
وأنا أحب الحنين الممتزج بالخطر ، والتحدى .
بين كل لحظة وأخرى ، أتصفح الخريطة التى وصفتها لى عبر الهاتف .
بين كل لحظة وأخرى ، أوقف السيارة لأطمئن على العجلات الأربعة ، ربما
ثقبها مسمار ، و" نامت " . لكننى لا أعتقد ذلك . فكيف تنام ، والسهر فى عيونى يوقظ الكون كله . بين كل لحظة وأخرى ، أتوقف لأسأل الناس
المارة ، وأصحاب المحلات ، والبائعين على الطريق ، وسائقى السيارات
الملاكى والسيارات الأجرة ، وسائقى عربيات الشحن الكبيرة . كلهم يؤكدون أننى على الطريق الصحيح .
أبتسم وأتخيلك وأنت ترانى ، قد وصلت ، ولم أضل اليك الطريق .
أتسائل كيف لابن الريف ، أن يرحب بابنة المدينة ؟. هربت من صخب العاصمة ، وتفاهة وتشابه ورجعية وخواء رجال المدينة . لم أسافر أبدا
الى رجل . هم الرجال الذين كانوا يتحملون مشقة السفر ، من أجل أشياء
لم أعد بها . أنت الوحيد الذى سافرت اليه وحدى فى الليل ، الى قرية لم أسمع بها ، فرحة بالمجهول الذى ينتظرنى .
أنا التى تخاف القيادة فى الليل ، والتوهان فى مكان نائى لا تعرفه ،
أصبحت فجأة امرأة جريئة ، لامبالية بأى نتائج .
هدأت وتوقفت عند جانب الطريق المواز اترعة القرية ، لأشرب كوبا من عصير القصب ، حب مشترك بيننا . فعلا ، لقد اقتربت جدا . فأنت وصفت لى محل عصير القصب هذا ، وقلت أنه قريب من البيت .
بدأت المعالم تتضح ، وبدأ المطر يداعب أحلامى . فتأكدت أنها رحلة العمر . بينى وبين المطر ، حكايات وأسرار وأمنيات ، ولا يخذل أبدا المجئ
حينما أناديه وأحتاج اليه . وكتبت قطرات المطر أول سطر فى قصيدة
جديدة .. " الى رجل اسمه مُحمد .. قلبى بالشوق اليك مُحمل .. ".
دخلت الى البيت ، ولم أكن أعرف أننى دخلت الى مصيرى ، الى ما يربطنا الى الأبد ، الى ما يفرحنى الى الأبد ، وما يبكينى الى الأبد .
تعرفت على أبيك ، الهادئ ، البشوش ، يرحب بكلمات لم أسمعها
من قبل : " يادى النور " . تعبير بسيط ، كان كافيا لأتأكد أن بقائى سيطول ،
وأننى منذ الليلة أصبحت جزءا عضويا أبديا من هذه الأسرة الطيبة ، فقدت الأم ، لكنها لم تفقد الدفء .
أعددت لى الشاى والعشاء . غنيت لى آخر ألحانك ، لم يسعفها الوقت ،
لترى النور . عزفت على " العود " ، أغنيات أحبها ، وجلسنا نرتب دون أن
ندرى ، لقدرنا المحتوم بالفرح ، المختوم بالألم .
قلت لك : " هذا العالم ليس مكانا للعيش ، انه بحر من الدماء ، وحماقات
البشر المتكررة تخنقنى ، واستسلامهم للزيف ينفرنى . الأكاذيب تصل الينا
مجانا حتى بيوتنا ، وداخل غرفة النوم . لم أعد أسمع العصافير ، صباحا ، ولا الكروان ليلا ، لا أدرى كيف أتأقلم مع حياة ، أصبحت سوقا كبيرا ، كل شئ يُباع ، ويُشترى ".
أمسكت يدى قائلا : " معا نواجه كل الأشياء .. بالكتابة والغِناء
والموسيقى ، سنصنع لنا وطنا داخل الوطن . نتعب ، نضجر ، نيأس ،
سنجد فى الكلمات والموسيقى ، الدواء والحنان والعزاء .
قلت : " الشيخ " فتُوح " سعيد بمجيئى ، ليس مألوفا أو مقبولا ، أن تأتى امرأة تزور رجلا فى بيته الريفى ".
أنت : " الشيخ فُتوح أكثر استنارة وتحضرا وتقدما ممنْ نعرفهم
جميعا .. وهو يحبنى ، ويثق أن ابنه الذى جاء بعد ستة بنات ، لا يفعل
شيئا معيبا أو مهينا له ، أو لغيره ".
سألتك : " أين هو ؟ أريد أن أجلس معه ونتكلم ".
أنت : " أتسمعين آذان العشاء هذا .. انه صوت أبى شيخ جامع
قرية الدراكسة ".
قلت : " عرفت الآن ممنْ ورثت الصوت الجميل .. هنيئا لك به ".
أنت : " هنيئا لى بكِ .. لم تسافر امرأة أبدا ليلا ، لترانى وتزورنى ،
هنا فى البيت الريفى .. أنتِ الزاهدة فى جميع الرجال ، تتحملين العناء من
أجلى .. هذا أكثر مما تمنيت . لا أطلب شيئا من الدنيا أكثر من هذه الليلة ".
أنا : لكن أنا أطلب شيئا ... كوبا آخر من الشاى تقدمه بيديك ، وفى
حضور الشيخ " فتُوح " .
فى هذه الأيام ، يونيو من كل عام ، تداعبنى الذكريات . كان يونيو ، الشهر الذى نسافر معا ، الى " البحر " ، حيث هدوء الهواء ، وسحر
السباحة ، ومعتكف الكتابة .
شهر واحد ، نسرقه من الزمن ، قبل أن يسرقنا . لكنه ماكر ، مخادع ، مدرب جيدا ، منذ الأزل ، على مذلة البشر ، وايلامهم .
سرقك من ريعان شبابك ، ومؤلفاتك ، وألحانك ، ومن تؤأم روحك ، فى عز الفجر ، فى يوم 13 الرقم الذى أعشقه ، وفى أكتوبر الشهر الذى أتفائل
به .
وضعت أغنياتك بصوتك ، وألحانك ، على اليوتيوب ، وبثتها الاذاعة المصرية ، فى برنامج " ملوك السعادة " فى الطرب .
كنت ملك سعادة قلبى ، وروحى ، وعمرى . خطفك القدر ، لأن ما بيننا ،
لا يحتمله الكون ، ولا يسمح به عالم فقد نبل العواطف .
فى يونيو ، أنا عند " البحر " ، وحدى . أتخيلنا نسبح معا ، كنت تسبقنى دائما ، رغم سباحتى الماهرة ، الى تلك الصخرة البعيدة .
سبقتنى أيضا الى الموت . فهنيئا للتراب بك .