"إن النقد الأدبي في هذه الأيام ضرب من الثرثرة، وأكثر من يكتبون فيه ينحون منحى العامة، فيجيئون بالصورة على جملتها، ولا يكون لهم قول في تفصيلها، وإنما الفن كله في تشريح التفاصيل، لا في وصف الجملة، وماذا في أن نقول هذا كلام نازل ومعنى مستغلق، وهذا استكراه وتكلف، وهذا ضعيف ردئ، وهذا لم أفهمه – وهي طريقة الدكتور طه حسين". ماسبق كان جزءً من مقدمة كتاب " على السَّفُود " للأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي.
هذا الكتاب صدر عن دار العصور عام ١٩٢٩ بعد خلاف نشب بين العقاد والرافعي حين هاجم الأول كتاب الأخير "إعجاز القرآن" عندما تقابلا في دار المقتطف، وغضب الرافعي غضبًا شديدًا من العقاد لأنه قد أنكر الإعجاز وإتهم الرافعي بأنه لفق مقولة لزعيم الأمة سعد زغلول زاعمًا أنه قال عن الكتاب "بيان كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم" والسبب الأخير هو إتهام العقاد للرافعي بالجهل وبأن كتابه عن الإعجاز ليس فيه شئ من الإعجاز! ولأن الرافعي لا يريد أن يقحم كتابه عن القرآن الكريم في سجال لا يليق بجلال القرآن أو يشركه في معركة حامية الوطيس مع العقاد لهذا فقد جعل من كتابه "على السَّفُود" في ظاهره نقدًا لديوان العقاد في طبعته الصادرة عام ١٩٢٨عن دار المقتطف بعنوان ديوان العقاد " أربعة أجزاء في مجلد واحد" وفي باطنه كان تقريعًا لما قاله العقاد عن كتاب الرافعي "إعجاز القرآن" ولأن الرافعي يعلم أن العقاد ليس هينًا أو ضعيفًا وأنه سليط اللسان لا يخشى أحدًا فإنه أي الرافعي قد ترك لقلمه العنان ليسب ويلعن وألصق كل نقيصة في العقاد وشعره، مما حدا بأحد تلامذة الرافعي وهو الأستاذ محمد سعيد العريان أن يقول عن هذا الكتاب " أنه يطمس ما فيه من معالم الجمال، فلا يبدو منه إلا أذم الصور، وأقبح الألوان، بما فيه من هجر القول ومر الهجاء"! ولقد اعترف الرافعي ذاته بأن في الكتاب ما لم يكن ينبغي أن يقوله".
لن نتطرق إلى الكتاب وتفاصيله فهذا ليس بمكانه ولا لأجله كانت المقالة، ولكن سوف نعرض بعض السباب الذي رمى به الرافعي كاتبًا جبارًا هو العقاد حين كان في سن الأربعين، فقد قال الرافعي عن العقاد ما لا يتخيله عقل، أهونها أنه كورقة البنك المزورة، مرورًا بأنه المُغرَّر في الأدب، والكاذب والدعيِّ، حقيقته صريحة لن تُزَوَر، وغلطاتِه ظاهرة لن تٌدَعَى، وسَرِقاته مكشُوفة لن تٌلفَق، فإن يغضَب الأَسْوَد على مَنْ يَصِفَ سَوادِه فاليغضب قبل ذلك على وجهه، وانتهاءً بقوله أن الأمر كله وهم وخِداعٍ كالحمار يلبس جلد أسد، يجب أن يعرف الناس هذا المخلوق المُسمى بالعقاد، إن المنبت مصنع الطباع والأخلاق، فكل ما صُنع في معمل جاء من مَواده، ولن ينفع فيه بعد ذلك أدب ولا تهذيب ولا علم مالم يكن في المعمل أدب وهَذّب. والسفود هو السيخ الذي يشوى به اللحم والجَمع سفافيد، والكتاب يتكون من ستة سفافيد أو أسياخ حادة ومدببة، هذا غير سفود صغير للدكتور زكي مبارك وسفود آخر كان فاتحًا للشهية أو مقدمة للتعريف بالسَّفُود قدمها الأستاذ إسماعيل مظهر.
بعض ما سبق كان جزءً من السَّفود الأول أما الثاني فكان بعنوان "عضلات من شراميط" وفيه قال إن العقادَ لصٌ من أخبث لصوص الأدب، ونعته بالمغرور، السخيف، لا يفهم ما يكتب، ثم سفه عقل العقاد وجعله لا يفقه العربية، ضعيف الفهم، لا ينبغي له أن يتكلم في الأدب، ثم عرج إلى ديوانه فنعته بأنه ورق لا يساوي ثمن تجليده، حتى أن لفظة مُجلد خطأ لا يغتفر لأنه غير مجلد بجلد لحمايته بل هي طبعة هزيلة.
والسَّفود الثالث "جبار الذهن المضحك" فقد وصف فيه العقاد بالجاهل، ومن بيت واحد من ديوان العقاد أخرج له الرافعي ثمانية أخطاء لغوية، وأن بعد هذه الغلطات الثمانية في بيت واحد فقط فإن من الحماقة أن يسمى العقاد شاعرًا أو أديبًا ولأن البيت سخيف فإنه سخافته هي الغلطة التاسعة وإليك البيت بغلطاته
إني إلى الرعي من عينيكَ مفتقرٌ **** يا ضوء قلبي فإن القلب مِدجان
لن أطيل في الحديث عن الكتاب فهو متوفر في الأسواق لمن يريد الإطلاع والمعرفه، وهو رغم ما فيه من سباب إلا أنه جدير بالقراءة لأن صاحبه علم من أعلام الأدب والبلاغة والبيان يشار له بالبنان ولا يشق له غبار، والعقاد ظل هو هو قبل الكتاب وبعده!
أنا الأن في حيرة؛ هل أتحدث عن كتاب آخر للرافعي وهو " تحت راية القرآن" الذي تناول فيه كتاب الدكتور طه حسين " في الشعر الجاهلي" ولم يكن الدكتور طه حسين أقل نصيبًا من العقاد في السباب ومن القدح والذم، أم أتحدث عن العقاد حين أخرج مع صديق عمره إبراهيم عبد القادر المازني كتابهما الشهير " الديوان في الأدب والنقد " في يناير عام ١٩٢١ والذي أحدث دويًا لم يحدثه كتابًا آخر قبله أو بعده باستثناء كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق والصادر عن دار الهلال عام ١٩٢٥ وكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" عام ١٩٢٦.
كتاب الديوان كان المؤلفان ينتويان إصداره في عشرة أجزاء بيد أنه صدر منه جزءان فقط أولهما في يناير ١٩٢١ وثانيهما في فبراير من نفس العام، وكل جزء من ستين صفحة، طرح فيهما الكاتبان مفهومًا مغايرًا لما كان سائدا في هذا الوقت عن الشعر، وتناولا بالنقد كبار أعلام هذا العصر، حيث تناول العقاد شعر أمير الشعراء أحمد شوقي ونثر مصطفى صادق الرافعي، وتناول المازني شعر الأستاذ عبد الرحمن شكري ونثر الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي. كان الجزء الذي تناول فيه العقاد شعر شوقي بالغ الأثر في ذيوع الكتاب وشهرته، كما أن هجاء المازني لزميله في مدرسة الديوان، بل وأستاذه الأستاذ عبدالرحمن شكري كان في غاية القسوة والرعونة وبعيدًا كل البعد عن النقد والأدب أوالذوق والأخلاق، فيصفه بالمنكود والمرزوء في عقله، المنشغل بالجنون والميل إلى الانتحار والإجرام، مما أصاب الشاعر الكبير بالحسرة واعتزل الأدب والأدباء حتى مات قعيدًا مصابًا بالشلل ضاربًا على نفسه عزلة أرهقته وأطاحت به غمًا وحزنًا، وندم المازني على ما فعل ولكن بعد أن أصاب الرجل في مقتل! وكذلك الرافعي كما سبق وأشرنا قد تمكن من العقاد وأطاح به، ولقنه درسًا لم يمر على العقاد سهلًا ولم ينسه طوال حياته حتى أنه ظل على خصومته مع الرافعي حتى توفاه الله عام ١٩٣٧، بيد أنه في عام ١٩٤٠ ذكر العقاد أن الرافعي صاحب إسلوب جزل وأن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية المنشئين.
كذلك كانت المعركه بين الرافعي وطه حسين، فلقد سخر الرافعي كل قوته وعبقريته وسطوته اللغوية والأدبية في حربه على طه حسين، حين أعتبر الرافعي كتاب طه حسين " في الشعر الجاهلي " كفرًا وضلالًا في مقالات نشرها في مجلة "كوكب الشرق" ألهبت نفوس الخاصة والعامة، وانتهت بأزمة سياسية وعقائدية كان لها دوى كبير في أوساط الأزهر والجامعة المصرية وخلقت أزمة كبرى بين الحكومة ومجلس الأمة وكان سعدًا يرأسه، ثم جمع الرافعي هذه المقالات في كتاب " تحت راية القرآن " فكان سوط عذاب جعل العميد يتألم ألمًا شديدًا، وموجةً عاتيةً إنحني لها طه حسين لتمر بسلام.
هكذا كانت الحرب التي تعرض لها العميد على يد الرافعي، ومن قبله لم يسلم الشاعر محمودسامي البارودي من قلم الرافعي أيضًا حين وصفه في مقالة نقدية عام ١٩٠٥ بأنه رغم أنه شاعر فحل ومجدد إلا أنه ضيق الفكر لا يستطيع إبراز المعاني وحياكتها، كذلك فعل الرافعي مع مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه العبرات ومع الدكتور زكي مبارك حين حقق كتاب " زهر الآداب " للحصري القيرواني واستمرت المعركة بينهم لفترة طويله، وغيرهم كثر!
أما العميد فقد تناول بالنقد بعض أعلام عصره ومنهم الرافعي حين أعلن أنه يشهد الله أنه لم يفهم كتابه "تاريخ آداب العرب" وكذلك لم يفهم كتابه "رسائل الأحزان" ولا كتاب "حديث القمر" والغريب أن العميد قد عاد ونوه في كتابه " في الشعر الجاهلي " عن كتاب "تاريخ آداب العرب" أحسن تنويه وأفضل مديح!
نستفيض في هذه المقالة في الحديث عن إسلوب العميد في النقد، ونتحدث عنه حين يمدح وحين يقدح، ليس لشئ إلا لأن طه حسين هو الأكثر بقاء من وجهة نظري رغم عظمة الأسماء التي ورد ذكرها وتأثيرها البالغ في الأدب، ولكن يظل طه حسين هو الأكثر تأثيرا في الأجيال التي أعقبته وحتى وقتنا الحاضر، وما زال العميد يسيطر على جل المثقفين نظرًا لحداثته التي لا يصيبها هرم وأسلوبه الساحر الذي طالما وصفوه بأنه السهل الممتنع، وأن مدرسته مازالت قوية ثابتة الأركان رغم رياح التغيير التي لا ترحم ولا تبقي ولا تذر.
يقول الأديب والباحث الأستاذ وديع فلسطين: "عندما صدرت الطبعة الأولى من ديوان " أنفاس محترقة " للشاعر محمود أبي الوفا، بمقدمة للدكتور فؤاد صروف رئيس تحرير المقتطف، طلع الدكتور طه حسين على قرائه في جريدة " الوادي " بمقال نقدي عاتب فيه الدكتور فؤاد صروف تصدره لمثل هذا الديوان الذي لا يرقى إلى مستوى النظم، ويخلو من الشاعرية، ثم أتاح لنقاد هذا العصر بأن يرموا بسهامهم على هذا الشاعر وهذا الديوان مما أغضب الدكتور صروف، وقرأت الأديبة مي زيادة مقالة الدكتور طه حسين، وشعرت بتجني طه على الشاعر فهاتفته وهاتفت الدكتور فؤاد صروف ودعتهما لزيارة بيتها، فحضر طه حسين أولا فاستصحبته إلى شرفة بيتها، وكان العميد وقتئذ يشكو طرده من الجامعة المصرية إبان حادثة كتاب " في الشعر الجاهلي " فلم يكد يجلس حتى أخذ يتأفف وينقم على من كان سببًا في فصله وإبعاده عن كلية الآداب فأرادت الأنسة مي أن تسري عنه فرددت على مسامعه هذه الأبيات
أوَدُ أضحَك للدُنيا فيَمنَعُني ***** أن عَاقبتني على بعضِ ابتساماتي
فوجم طه حسين ثم سألها : ماذا قلت؟
فأعادت رواية البيت عليه، فقال: "لمن هذا البيت؟ فلم يُعرَض لي من قبل". فأجابت مي لواحد من الشعراء والشعراء كثيرون نحفظ شعرهم وننسى أسماءهم! فألح طه حسين في معرفة قائل هذا الشعر الجميل الذي ارتاحت له نفسه، فقالت مي إنه لمحمود أبو الوفا!
واربد وجهه حين سمع اسم الشاعر الذي قسى عليه قسوة شديدة، وكأنه حدث نفسه قائلًا: ماذا يقول الناس لو نقلت إليهم الأنسة ميّ هذه الواقعة وهم الذين قرأوا حكمي الجائر على هذا الشاعر في حين أن بعض شعره لم أسمع به من قبل؟" فطلب من مي أن تكتم هذا على الناس ولا سيما الشاعر نفسه، لكنها قالت: "بشرط ألا أكتمه عن فؤاد صروف الذي كتب مقدمة الديوان ونال ما نله من نقدك...." في تلك اللحظة دق جرس الباب وكان صروف هو الطارق، فانضم إلي مجلس الشرفة فأخبرته مي بما وقع مستأذنة في ذلك طه حسين فأصلحت بينهما وكف الدكتور طه حسين عن حملة التجريح النقدية على أبي الوفا التي تسرع في قيادتها". (مجلة الأديب عدد نوفمبر ١٩٧٢ – أحاديث مستطردة عن ميّ بقلم الأستاذ وديع فلسطين).
ولعميد الأدب العربي طه حسين إسلوبًا في النقد لا تخطئه العين حين تقع على كلماته وكذلك الأذن حين يصافحها صوته الأجش، كما أن للعميد معاركه الأدبية التي لا تقل شراسة عن معارك العقاد والرافعي وإن كان قد جنح إلى السلم في بعضها لا سيما حين يكون الخصم في حجم العقاد ولسانه.
إن للدكتور طه حسين في النقد نظرة لم ترُق لكثير من النقاد وقتئذ وقد لا تروق لبعضهم الأن، ولو استخدمها بعض الأدباء اليوم لأصابهم العنت وأطلق عليهم بعض النقاد سهام التجريح والتسطيح والفشل.
يقول العميد في صفحة ٢٢ من كتابه " المعذبون في الأرض " الطبعة الأولى عن دار المعارف عام ١٩٥٢: "أنا لا أضع قصة فأخضعها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول، لأني لا أؤمن بها ولا أذعن لها ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بيني وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلام يخطر لي فأمليه ثم أذيعه، فمن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومن ضاق بقراءته فالينصرف عنه، ومن شاء أن يرضى عنه بعد فليرضى مشكورًا ومن شاء أن يسخط عليه بعد القراءة فليسخط مشكورًا أيضًا ....، .... وأنا أشد الناس للقارئ حبًا وإكبارًا، ولكني لا أحب أن يتحكم القارئ فيّ ولا أن يتجنى علىّ ولا أن يخضعني لذوقه....، .... ويجب أن تكون الحرية هي الأساس الصحيح للصلة بين القارئ وبيني حين أكتب أنا ويقرأ هو".
هذه هي رؤية الدكتور طه حسين للإبداع الحر وعلاقته هو ذاته بالقراء والنقاد، فكيف كانت علاقته هو ذاته بأعمال الأدباء وكيف كان ينقد تلك الأعمال؟
يجدر الإشارة إلى أن طه حسين كان مع بعض الأعمال الأدبية يفضل أن يقرأها غير مرة، ليتذوقها ويتأكد أنه لم يظلمها، لقد قرأ رواية "هكذا خلقت" للدكتور محمد حسين هيكل صاحب رواية "زينب" وكان قد هجر الرواية لفترة طويلة، ثم بعد القراءة كتب دراسة نقدية بدأها بتهنئة صديقه هيكل برجوعه لفن القصة ثم تبعها بتلخيص واف للرواية وتحليل بارع لها، أعقبه نقدًا أنهاه بتلك الكلمات: " ملاحظة أخيرة أذكرها ولا أقف عندها وهي أن صديقي هيكلًا لم يرد أن يخلف ظني به فيما يظهر، فقد كنت أغيظه أيام الشباب بأنه يهمل الاحتياط للغة العربية بين حين وحين، وكان يرد علىّ بأنني لا أحسن العربية ولا أجيد كتابتها، وهو قد وفي بحقي عليه فإنه يهمل في غير موضع حق اللغة ليتيح لي أن أُذكِرهُ بأيام الشباب، ومن يدري لعله يُحَمِل هذا الإهمال على خطأ المطبعة وتقصير المصححين. وما أكثر ما يحمل على المطابع والمصححين وهو على كل حال لا يستطيع أن يحمل على المطبعة ولا على المصححين إسرافه في استعمال اسم الإشارة الذي طالما عَبثتُ به من أجله لأني أراه منافرًا بعض الشئ للذوق المصري الحديث، وهو "هاتيك" وما أكثر هاتيك في قصة هيكل، ولو قد وضع مكانها هذه أو تلك لكان له في إحدى هاتين الكلمتين مقنع وغناء. أما بعد.. فكل هذه الملاحظات لا تنقص من قدر الكتاب ولا تنقص من قيمته الفنية ولا تزهد مُحبًا للفن ومشغُوفًا بالأدب الجدير بهذا الاسم في أن يقرأه حفيًا به حريصًا على الاستمتاع بدقائقه".
هذا النقد كان مع صديقه، فكيف به مع شاب من جيل آخر غير جيله وهو الأديب نجيب محفوظ؟ لقد قرأ طه حسين رائعة نجيب محفوظ "بين القصرين" وقدم نقده لها في مقالة بعنوان "بين القصرين قصة رائعة للأستاذ نجيب محفوظ " حيث يبدأ المقال هكذا " فقد أتيح له في هذه القصة الرائعة البارعة نجاح ما رأى أنه أتيح مثله منذ أخذ المصريون ينشئون القصص في أول هذا القرن، فلأقدم تهنئتي إذًا كأصدق وأعمق ما تكون التهنئة إلى كاتبنا الأديب البارع نجيب محفوظ، ولأقدمها إليه بلا تحفظ ولا تحرج فهو جدير بها حقًا لأنه أتاح للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة ومن العمق والدقة، ومن التأثير الذي يشبه السحر ما لم يتحه لها كاتب مصري غيره، وما أشك في أن قصته هذه "بين القصرين" تثبت للموازنة مع ما شئت من كتاب القصص العالميين في أي لغة من اللغات التي يقرؤها الناس، ما رأيك في قصة تتجاوز صفحاتها المئات الأربع وتقرأها منذ أن تبدأ إلى أن تنتهي فلا تحس بها ضعفًا ولا تشعر فيها بفتور في أي موقف من مواقفها ولا تثير بك بأن الكاتب على إطالته قد أدركه شئ من الإعياء أو أصابه شئ من التراخي أو ناله ما ينال الكتاب المطولين من هذا الجهد الذي يدعو إلى شئ من الراحة والتنفس في ذلك".
ثم ينتهي العميد في نهاية المقال بقوله: "بهذا كله شعرت أنا وبهذا كله شعر غيري من القلة الذين لقيتهم وتحدثت إليهم عنها، فإذا هم قد قرأوها وتأثروا بها كما تأثرت، وقدروها كما قدرتها، وأحسوا روعتها مثلما أحسست، وألحت على عقولهم وقلوبهم كما ألحت على عقلي وقلبي، ومصدر هذا كله فيما أرى أن الكاتب يحقق في هذه القصة تحقيقًا رائعًا خصلتين يبلغ بهما الأثر الأدبي أقصى ما يقدر له من نجاح، وهما الوحدة التي لا تغيب عنك لحظة، والتنوع الذي يذود عنك السأم ويخيل إليك أنك تحيا حياة خصبة حافلة مختلفة المظاهر والمناظر والأحداث". (من كتاب "ذكريات طه حسين" للأديب ثروت أباظة)
هذا أديب آخر هو الأستاذ يوسف السباعي الذي كان أغلب نقاد عصره يعرضون عنه وعن مؤلفاته رغم عدد القراء الذي يتمتع بكثرتهم بالإضافة إلى نجاح الأعمال السينمائية المستوحاة من أعماله الأدبية.
قرأ الدكتور طه ليوسف السباعي روايته الشهيرة " السقا مات " ثم قرأ له رواية " طريق العودة " فنجده يقول: " طريق العودة قصة رائعة بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها، وما أعرف أني قرأت للأستاذ يوسف السباعي بعد قصته الرائعة السقا مات شيئا يشبه هذه القصة في روعتها وإتقانها وامتاعها، والغريب في أمرها أنها تبدأ هادئة مطمئنة وحديثا مألوفًا لا يؤذن بشئ من جودة فضلًا عن الروعة، وأعترف بأني نازعتني نفسي إلي الإعراض عنها والأخذ في شئ أنفع منها وأشد امتاعًا، ولكني عودت نفسي إذا بدأت كتابًا أن أتمه مهما تكن الصوارف عنه والمزهدات فيه، فلا أحكم على الأثر الأدبي بجزء منه وإنما استقصيه من أوله إلى آخره، قبل أن أقول فيه شيئا أو أصدر فيه حُكمًا، ولقد مضيت في الكتاب واستقصيته فحمدت الكرى حين أصبحت، وأصطنع هذه الجملة عن عمد لأني كنت أقرأ هذه القصة ليلًا وأتممتها ذات يوم حين ارتفع الضحى، وأشهد لقد قرأتها مرتين إعجابًا بها ورضًا عنها، والغريب من أمرها أيضًا أنها خلت أو كادت تخلو من الخطأ المروع في اللغة العربية وهذا نادرًا فيما يكتبه صاحبها". (من كتاب "ذكريات طه حسين" للأديب ثروت أباظة، طبعة نهضة مصر).
ما يزيد عن ستون عامًا قضاها طه حسين في حديقة الأدب ويلاحظ القارئ أن طه حسين ومثله العقاد والمازني وغيرهم من أدباء ونقاد هذا العصر، الذي أطلق عليه عصر النهضة كانوا في عشرينيات القرن الفائت ليسوا كما هم في الثلاثينيات والأربعينيات منه، وأن طه حسين الجسور المناكف والمجادل ليس هو في الخمسينيات والستينيات أبدًا بل هدأت ثورته وصار كالنهر يقترب من الوصول إلى مصبه، فأصبح أكثر هدوءً وأشد سكونًا، لا يثير أعاصيرًا ولا يضرب قواربًا تتهادى على صفحته وتسير في سكينة، وإن كان وما زال يحتفظ بجلاله وعظمته واتساعه! إن ثورة الشباب فعلت ما بالجميع ما أرادت، ثم تركتهم للنضوج وللهدوء الذي يمنح الأدب فكرًا وجلالًا، وحمل الجميع مشعل التقدم والتطور وكان العصر يحتاج لعنفوانهم كي تتغير تقاليد وتتبدل عادات، ويصبح لمصر وجها لا مثيل له، وعصرًا نتمني أن يعود، حملت فيه مصر مشعل التجديد والتغيير والثورة على كل قديم لا يفيد، وتبعها بعد ذلك كل الأقطار العربية، فصارت مصر كعبة الأحرار في كل قطر عربي، وحج إليها كل الأدباءورجالات الفكر والفن العرب يحلمون بأن يسكنوا أرضها ويتنفسوا هواءها.. هواء الحرية والإبداع.