ومن التراكيب القرآنية أيضا فى أسلوب طه حسين: "ثم تثوب الشيخة إلى نفسها بعد أن شكَّت غير طويل" (ص 139)، "فكَّر غير طويل" (ص 181)، الذى يصطنع فيه التركيب الموجود فى قوله تعالى عن هدهد سليمان: "فمَكَث غير بعيد" (النمل/ 22). ومن ذلك أيضا قوله: "ولكن الله قد أراد بى خيرا" (ص 49)، وفيه تأثُّرٌ بقوله تعالى: "يريد الله بكم اليُسْر، ولا يريد بكم العُسْر" (البقرة/ 185)، قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا...؟" (يوسف/25)، " وأنّا لا ندرى: أشرٌّ أُريدَ بمن فى الأرض أم أراد بهم ربهم رَشَدا؟" (الجن/ 10)...إلخ. ووجه التركيب هنا أن حرف الجر المستعمل مع الفعل "أراد" هو "الباء" لا "اللام"، فنحن نقول عادة: "أراد فلان لى كذا وكذا"، أما "أراد بى كذا" فليس بالشائع. إنما هو استعمال قد تكرر فى القرآن، فقام طه حسين، بحسه اللغوى الرهيف وحرصه الشديد على توفير جو من الفخامة والجلال لأسلوبه، بالتقاط هذا الاستعمال ضمن ما التقط من درارى القرآن المجيد. ومن هذا نرى كيف أن أثر القرآن الكريم منتشر فى أسلوب الدكتور طه حسين انتشارا واسعا وقويا مختلِف الألوان ومندمجا فى معظم الأحيان فى تضاعيفه، فهو بهذه الطريقة أقرب إلى الخيوط الذهبية والفضية الداخلة فى نسيج الثوب منه إلى الحلية المنفصلة كمشبك الصدر مثلا الذى يوضع على الثوب فيزينه، لكنه يمكن أن يُنْزَع من موضعه بسهولة بالغة متى أردنا. والمعروف أن طه حسين قد حفظ القرآن الكريم فى صباه فى الكتاب، واشتغل عريفا صغيرا مع "سيِّدنا" يحفِّظ الصبيان الآخرين القرآن بدوره. كما أنه سلخ أعواما غير قليلة من شبابه فى الأزهر، والدراسة فى ذلك الجامع العريق تقوم أول ما تقوم على القرآن، سواء كان ذلك على نحو مباشر أو غير مباشر.
زد على ذلك أنه، سواء فى قراءاته فى التراث أو فى محاضراته فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب أو فى كتاباته، كان قريبا جدا من القرآن الكريم. وأهم من هذا كله أن الله سبحانه جَلَّتْ قدرته قد أسبغ على الرجل حافظة لاقطة أذكاها حرمانه من نور البصر واعتماده على سمع الأذن، كما وهبه ذوقا أدبيًّا رائقا بحيث لا يمكن أن يفلت من إسار هذا الكتاب الجميل الجليل العجيب حتى وإن كان يجرى فى بعض ما كتب على عكس ما يدعو إليه هذا الكتاب. وعلى أية حال فمن الملاحظ أن الإنسان لا يقتصر تأثره فقط على ما ينال موافقته ورضاه. ومعنى هذا أنه على الرغم مما تعرض له طه حسين فى الكتّاب من مواقف محرجة غاية الإحراج مع سيدنا وحِفْظ كتاب الله على ما حكى لنا هو نفسه فى رائعته "الأيام"، فمن الواضح أن القرآن كان له فى نفسه مكان راسخ عميق حسبما تقول لنا هذه الشواهد الكثيرة المتنوعة (وما هى إلا غَيْضٌ من فَيْضٍ) على قوة تأثره بأسلوب القرآن وعمق هذا التأثر.
وفى أسلوب طه حسين ألوان من الموسيقى: فكثيرا ما نجد عنده الموازنة: أحيانا مع السجع والجناس، وربما مع المطابقة أو الترادف أيضا، وأحيانا أخرى عارية عنها جميعا أو عن بعضها دون بعض. ثم إن هذه الموازنة قد تكون فى الجملتين كاملتين أو فى الجملة الواحدة كلها أو فى جزء فقط منها. ومن ذلك قوله: "إنك لطويل اللسان، كثير الكلام" (ص 14)، "فأنا أبعد الناس عن التحكم، وأزهدهم فى التجنى" (ص 23)، "أقل منهم غنًى، وأضيق منهم ثراءً" (ص 27)، "وانغمس فى القناة كأحسن ما تعود أن ينغمس، وعام فى القناة كأحسن ما تعود أن يعوم" (ص 33)، "وأقام فى الدار مُلْقًى فى زاوية من زواياها يُهْمَل فى ازدراءٍ، ويُمَرَّض فى عنف" (ص 40)، "فهذا البيت هو الذى أوثره على السوق وما يُعْرَض فيها من السلع، وما يدار فيها من التجارة" (ص 51)، "كأنما دفعها إلى الوثوب لولب فى الأرض، أو جذبها إلى الوقوف سبب فى السقف" (ص 54)، "وجعلت عيناه تبرقان، وشفتاه تنفرجان" (ص 61)، "لم يبق إذن إلا أن تسرق قتُدْخِل الشر على أهلها، وتزيد عيشهم ضيقًا إلى ضيق، وحياتهم شقاءً إلى شقاء" (ص 72)، "وأسرة خديجة تسمع أول الأمر ولا تصدّق، ثم تعرف بعد إنكار، وتقبل بعد تردد فيه كثير من الأمل الذى يُحْيِى النفوس، والخوف الذى يُمِيت القلوب.
وما يمنع هذه الأسرةَ البائسةَ أن تجد فى الخِطْبة رَوْحًا من الله سيتيح لها رخاءً بعد شدة ، وسَعةً بعد ضيق؟" (ص 75)، "ثم آثَرْتُ آخر الأمر أن أُخَيِّر القارئ بين العنوانين، وأن أُهْدِىَ الحديث إلى الفريقين" (ص 83)، "وأنا أريد دائما أن أكون كاتبا ذا خطر، فأُرْضِى قرائى وأُسْخِطهم، وأَسُرّ قرائى وأسوءهم" (ص 83)، "وما الذى يَعْنِينى من أن يُتْرَف المترفون حتى يقتلهم الترف، ومن أن يشقى الأشقياء حتى يهلكهم الشقاء" (ص 84)، "وكان الرجل مرتفع القامة، مَهِيب الطلعة، ظاهر النعمة" (ص 103)، "فلْيغير ذات نفسه، ودخيلة ضميره" (ص 114)، "ولكنى أُعْرِض عنه بوجهى، وأنأى عنه بجانبى" (ص 124)، "لا يحتاج إلى كثير من ثقافة، ولا إلى إلحاح فى عمل، ولا إلى فضل من جهد، ولا إلى طويل من وقت" (ص 128)، "يرى فيها مزيدًا من رقىٍّ، وفضلاً من رخاء" (ص 139)، "ورَدَّ نفسَها إلى الإجداب بعد أن كادت تُخْصِب، وإلى الفقر بعد أن كادت تَغْنَى" (ص 143)، "وإنما هى حيلةٌ واسعة أولاً، وجراءة جريئةٌ ثانيا" (ص 145)، "ولكن الصبر لا يُطعِم العارىَ، ولا يكسو الجائع" (ص 152)، "فإن فعل فقد زكَّى نفسه تزكيةً، وطهَّر ماله تطهيرا" (ص 170).
أنه قد يجعل النعت صفة مشتقة من المنعوت، محدثا بذلك تجاوبا صوتيا بين اللفظين المتجاورين، وهو مما لا يجده القارئ عند غيره من الكتّاب إلا فى النَّدْرة الشديدة مثل: "البؤس البائس" (ص 86)، "جهدا جهيدا" (ص 93)، "فتنة فاتنة" (ص 112)، "جراءةٍ جريئة" (ص 145)، "عنفٍ عنيف" (ص 161)، "الرحمة الرحيمة" (ص 161)، "الهول الهائل" (ص 175). ويلحق بهذا العبارات التالية: "ثم أجد فى أقصى هذه الحارة الحقيرة حجرة حقيرة" (ص 51)، "نجمٌ من النجوم" (ص 65)، "صياح امرأةٍ تصيح، وبكاء امرأةٍ تبكى" (ص 71)، "كأنما دَفَعه دافع" (ص 105)، "كان لَعِبًا مُتْرَفًا فى حجرةٍ مُتْرَفة" (ص 110)، ديوان من الدواوين" (ص 128)، "فتًى كريم من أسرة كريمة" (ص 139)، "أَقْوَى قُوّةً" (ص 145)، "أَرَقَّ رِقّة" (ص 96)، "أَشَقّ المشقّة" (ص 96).
وكثيرا أيضا ما يتعاقب عنده لفظان (أو أكثر) متساجعان متجانسان أو يكادان، كما فى الشواهد التالية: "خفيفةً ظريفة" (ص 14)، "الصدور والظهور" (ص 27)، "الجزع والهلع" (ص 27)، "الضجيج والعجيج" (ص 31)، "فرِحًا مرِحا" (ص31، 33)، "الظهور والصدور" (ص 39)، "ضئيلاً نحيلا" (ص 43، 45)، "لم يخطر له قط أن للَّيْل جلالاً وأن للنهار جمالا" (ص 45)، "لم يكن يجِدُّ ولا يكِدّ" (ص 45)، "واجمةً ساهمة" (ص 55)، "جامدةٌ هامدة" (ص 61)، "جسمه الضئيل، وقلبه العليل الضئيل" (ص 61)، "رائعًا بارعًا" (ص 66)، "بلَفْظٍ أو لَحْظ" (ص 70)، "فَرِحاتٍ مَرِحات" (ص 79)، "لا يكون فيه عسر ولا يسر" (ص 83)، "لا أريد أن أُعَلِّم جاهلاً، ولا أريد أن أعظ غافلاً ولا أن أنبه ذاهلا" (ص 88)، "لم أخترعها، ولم أبتدعها" (ص 90)، "النحيل الضئيل" (ص 92)، "النحيلة الضئيلة" (ص 112)، "حُسْنٌ رائع، وجمالٌ بارع" (ص 112)، "يداعبها ويلاعبها" (ص 115)، "نعيمٍ وجحيم" (ص 115)، "أجهَلَ وأكسَل" (ص 133)، "رشيقًا أنيقا" (ص 136)، "ما كرٌ ماهر" (ص 134)، "لاعبين مداعبين" (ص 138)، "ساهيًا لاهيا" (ص 142)، "يُلْغُون الهمزة فيُلْقون فتحتها على اللام فيقولون:..." (ص 144)، "ليس بينه وبين صفاء جدارٌ ولا ستار، ولا حائلٌ رقيقٌ أو صفيق" (ص 145)، "الغافلة الذاهلة" (ص 148)، "يتشوَّفون ويتشوَّقون" (ص 149)، "لا يُغْنِى فيهم التحذيرُ ولا النذير" (ص 150). "يأخذ بحظه مما يصيبها من النعماء والضراء، وما ينوبها من السراء والضراء" (ص 157)، "قد هلك الزَّرْع، وجفَّ الضَّرْع" (ص 161)، "الساحقة الماحقة" (ص 192)،"وأُلْقِيه على نفسى حين أُمْسِى" (ص 192)، "التضامن والتعاون" (ص 192).
ومن مظاهر الموسيقى فى أسلوب طه حسين كثرة المفاعيل المطلقة المؤكدة لعاملها. وموسيقيتها ناتجة مما تحدثه مع عاملها من تجاوب صوتى يتمثل فى تكرير حروف الكلمة. فهذا التركيب التأكيدى يحدث جرسا موسيقيا، وهذه الموسيقى بدورها تؤكد المعنى... وهكذا. ومن الأمثلة على ذلك قوله: "يلقيه بين يدىْ أمينة إلقاءً" (ص 45)، "يكاد السقم يُفْنِيه إفناءً" (ص 45)، "فانكبّ نحو الأرض انكبابًا" (ص 53)، "لقد أُكْرِهت خديجة إكراهًا على الزواج" (ص 80)،"اقتطعتُها من نفسى اقتطاعًا" (ص 90)، "يختلس الوسائل اختلاسا" (ص 134)، "تُرَدُّ إليه رَدًّا، وتُكْرَه عليه إكراهًا" (ص 143)، "احتزّ القطارُ رأسها احتزازًا" (ص 149)، "وجب على الدولة أن تأخذهم به أَخْذًا" (ص 163)، "نرى الشقاءَ يُصَبّ عليه صَبًّا" (ص 184). وللعلم فلهذا التركيب حضوره الملحوظ فى القرآن الكريم كما يتضح من النصوص التالية: "رأيتَ المنافقين يصُدّون عنك صدودا" (النساء/ 61)، "ويسلِّموا تسليما" (النساء/ 65)، "وكلّم الله موسى تكليما" (النساء/ 164)، "ولِيُتَبِّروا ما علَوْا تتبيرا" (الإسراء/ 7)، "وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء/ 70)، "فتفجِّرَ الأنهار خلالها تفجيرا" (الإسراء/ 91)، "ونزَّلناه تنزيلا" (الإسراء/ 106)، "ونَمُدّ له من العذاب مَدًّا" (مريم/ 76)، "تؤزُّهم أَزًّا" (مريم/ 83)، "فقدَّره تقديرا" (الفرقان/ 2)، "ورتّلناه ترتيلا" (الفرقان/ 32)، "ومكروا مَكْرًا، ومكرنا مَكْرًا" (النمل/ 50)، "ويطهِّرَكم تطهيرا" (الأحزاب/ 32)، "إنْ نظنّ إلا ظنًّا" (الجاثية/ 32)، "يوم تمور السماءُ مَوْرًا* وتَسِير الجبال سَيْرًا" (الطور/ 9- 10)، "إذا رُجَّت الأرض رجًّا* وبُسَّت الجبال بَسًّا" (الواقعة/ 4-5)، "وأسررتُ لهم إسرارا" (نوح/ 9)، "ويُخْرِجُكم إخراجا" (نوح/ 18)، "وتبتَّلْ إليه تبتيلا" (المزمل/ 8)، "ومهّدتُ له تمهيدا" (المدثر/ 14)، وذُلِّلَت قطوفُها تذليلا" (الإنسان/ 14)، "وكذَّبوا بآياتنا كِذَّابا" (النبأ/ 28)، "أنّا صببنا الماء صَبًّا* ثم شققنا الأرضَ شَقًّا" (عبس/ 25- 26)، "دُكَّت الأرض دكًّا دكًّا" (الفجر/ 21). ولا أظن إلا أن الدكتور طه قد تأثر فى ذلك الملمح الأسلوبى بهذه النصوص وأمثالها.
كذلك من مظاهر الموسيقى لدن الدكتور طه كثرة التكرار الذى يتخذ صورا مختلفة: فمنها مثلا تكراره للكلمة مرتين متتاليتين بعطفه إياها على نفسها أو بجرّها إلى نفسها للدلالة على اتصال الحدث واستمراره كما فى الأمثلة التالية: "وانقطع صالح عن الكتّاب يومًا ويوما" (ص 33)، "أعادت عليها أمها المسألة مرة ومرة" (ص 53)، "يومًا بعد يوم" (ص 130)، "وأما عبد السيد فيثور ويثور" (ص 141)، "وجعلتُ أتضاءل وأتضاءل"، (ص 184)، "حُسْنًا إلى حُسْن، وروعة إلى روعة" (ص 59)، "وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت فلا يحملها إليها النسيم" (ص 98)، أو تكراره لكلمة أو أكثر تكرارا متقاربا مرتين أو أكثر كما فى هذه الشواهد: "المواطن التى يقال فيها الحق، والمواطن التى يقال فيها الباطل" (ص 31)، "وأستطيع أن أُسَخِّرها فى عمل من الأعمال...، فقد أُسَخِّرها لبيع الخُضَر، وقد أسخرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء...، وقد أكلفها أن تغسل الثياب فى هذه البيوت" (ص 36)، "ونهض وهو لا يقدر على النهوض، وسعى وهو لا يقدر على السعى" (ص 47)، "فأنا أستطيع أن أذهب معه إلى السوق...، وأنا أستطيع أن أذهب معه إلى هذه الدُّور...، وأنا أستطيع أن أترك قاسما يشترى من السوق ما يشاء، وأن أترك سيدنا يطوف بالدور..." (ص 50)،
"وقد استقبلتا النهار بائستين كما استقبلتا الليل بائستين" (ص 51)، أحستا نهوضه فى جوف الليل فلم تنهضا معه ولم تقولا له شيئا. ولِمَ تنهضان؟وما عسى أن تفعلا؟ ولِمَ تقولان؟ وما عسى أن تقولا؟" (ص 52)، "أفاض على وجهها بهجة زادتها حُسْنًا إلى حُسْن، وروعةً إلى روعة" (ص 59)، "وإذا امرأة تساقط دموعها...، وإذا فتاةٌ تنتحب...، وإذا قاسم واجم أول الأمر...، وإذا امرأته تردّ عليه...، وإذا يداه تسترخيان، وإذا هذا الخير...يسقط إلى الأرض، وإذا عيناه تنطفئان، وإذا شفتاه تلتقيان ثم تمتدان، وإذا هو يسعى إلى حصيره...، وإذا امرأته تسمع صوتا خافتا..." (ص 61)، "ولم ير الجيران فى ذلك اليوم أمّونة...، ولم ير الجيران فى ذلك اليوم دُخَانًا...، ولم يشم الجيران فى ذلك اليوم رائحة الطعام..." (ص 62)، "وفتيان القرية يتسامعون بقصة خديجة...، وفتيان القرية يتحدثون عن جمال خديجة...، وفتيان القرية يُسِرّون فى أنفسهم حبا لخديجة..." (ص 47)، "وكان الكتّاب ...أشبه شىء بخلية النحل: كلّه حركة، وكلّه نشاط، وكلّه دوىّ..." (ص 102)، "بين أصوات الصِّبْية النحيلة الضئيلة...، وأصوات الصِّبْية التى أخذت تمتلئ...، وأصوات الشباب التى كادت تشبه أصوات الرجال...، وكانت هذه الأصوات...تحمل إلى الأذن شيئا حلوا رائقا..." (ص 102- 103)،
"فى دار ليست بالمسرفة فى السعة، وليست بالمسرفة فى الضيق" (ص 125)، "فى حجرات قليلة لا يظهر عليها الثراء، ولا يظهر عليها الضر، ولا يظهر عليها ما يلفت إليها أحدا" (ص 125)، "فهو إذن سيد نفسه، وهو يقبض فى آخر الشهر مرتبا كالذى يقبضه هو، وهو يريد أن يكون له أخا" (ص 139)، "وكذلك كانت نفس الفتاة تضطرب بمثل ما كانت تضطرب به نفس الفتى من الألم والحزن واليأس، وكان قلب الفتاة يجد ما كان قلب الفتى يجد من اللوعة والحسرة والأسى، وكان أحب شىء إليها أن تُفْضِىَ إلى الفتى بذات نفسها، وأحب شىء إلى الفتى أن يُفْضِىَ إليها بذات نفسه" (ص 147)، "فيكون الاقتراض، ثم يكون العجز عن أداء الدين، ثم يكون امتناع القادرين عن الإقراض، ثم يكون الحرمان...، ثم يكون الحرمان...، ثم يكون الضيق بالحياة، ثم يكون الالتجاء إلى الأغنياء...، ثم يكون إعراض الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين" (ص151- 152)، "فانتشار الوباء فى غير مشقة، وانتشار الفساد الخلقى، وانتشار الظلمة فى الضمائر والقلوب، وانتشار الذلة والمسكنة والهوان، وانتشار الإذعان للظلم والاستسلام للعسف والانقياد للاستبداد بالحرية والكرامة... كل هذه الآفات والمخازى ليس لها مصدر إلا هذا الشقاء" (ص 154)، تصيب منه ما تشاء كما تشاء، ومتى تشاء، وحيث تشاء" (ص 186)، "فإذا نحن نراه عرضة للوباء، بل مرتعا للوباء. وأىّ وباء؟ وباء الكوليرا..." (ص 187).
ومن هذه المظاهر الموسيقية عند طه حسين كذلك تقليب الأمر على وجهيه سلبا وإيجابا باستخدام الألفاظ والتراكيب ذاتها تقريبا كما هو الحال فى العبارات التالية: "ولكنى لا أحب أن يتحكم القارئ فىّ ولا أن يتجنى علىّ، ولا أن يُخْضِعنى لذوقه كما لا أحب أن يُخْضِعنى لذوقه" (ص 23)، "تمتد فيه الخطوط الحديدية من الشَّمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشَّمال" (ص 41)، "فأدى صلاته لم يكلم أحدا، ولم يكلمه أحد" (ص 44)، "خبزٌ حافٍ تبعدان به الجوع عن نفسيهما، أو تبعدان به نفسيهما عن الجوع" (ص 52)، "وكأن دنوّ امرأته من الشيخوخة أو دنوّ الشيخوخة من امرأته قد حوَّل نفسه عن القناعة والرضا إلى المجانة والطمع" (ص 57)، "ثم لم يحسّ شيئا، ولم يحسّه شىء" (ص 63)، "كأنه حلم يُلِمّ بنفوسهن فى آخر عهدها بالنهار وأول عهدها بالليل" (ص 79)، "لا أريد أن أغير منها قليلا أو كثيرا، ولا أحب أن يتغير منها قليل أو كثير" (ص 89)، "ليست منهم وليسوا منها فى كل شىء" (ص 95)، "لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هى أن يعينها أحد" (ص 98)، "لم يسمع أهل المدينة عنه شيئا، ولم يسمع هو عنهم شيئا" (ص 115)، "تعبث بالناس، ويعبث الناس بها" (ص 116)، "أساور...يُدْخِلْن فيها سواعدهن، أو يُدْخِلْنها فى سواعدهنّ" (ص 126)، "فى همسٍ سريعٍ أو سرعةٍ هامسة" (ص 139)، "وتمضى الشيخة فى وجومها الباكى، أو بكائها الواجم " (ص 148)، "وأظن أنك رأيت الخطر الذى يسعى إلينا مسرعا، أو نسعى إليه مسرعين" (ص 155)، "وأحب أن يقف القارئ معى عند ما فى هذا الحديث من سذاجة رائعة أو روعة ساذجة" (ص 168).
وقد عزا المازنى فى "قبض الريح" سمة التكرار والإعادة عند الدكتور طه إلى أنه كان، بسبب كفّ بصره، يملى ما يريد كتابته ولا يكتبه بيده، كما أن طول اشتغاله بالتدريس قد أكسبه التبسط فى الإيضاح والإطناب فى الشرح والتفصيل (انظر محمود مهدى الإستانبولى/ طه حسين فى ميزان العلماء والأدباء/ الكتب الإسلامى/ بيروت ودمشق/ 1403هـ- 1983م/ 594- 595). أما مصطفى صادق الرافعى فقد عَدَّ هذا التكرار "شعوذة مطبعية"، وسخر منه وتهكم به قائلا إنه كان يقرأ مقالةً افتتاحيةً فى جريدة "السياسة"، ومعه أديب، فدفعها إليه وسأله: لمن هذه المقالة؟ فقال إنها بدون توقيع، فردَّ الرافعى بقوله: "لا يجب أن يكون التوقيع فى ذيل المقالة، بل قد يكون فى أثنائها"، فسأله صاحبه: "فأين هو؟"، فردَّ عليه متهكما: اسمع، هذا هو التوقيع: "فعلوا هذا. نعم فعلوه. فعلوه. أقسم لقد فعلوه. فعلوه" (المرجع السابق/ 632، نقلا عن كتاب الرافعى "تحت راية القرآن"). كذلك عاد الرافعى إلى التهكم بهذا الأسلوب مؤكدا أنه فى كل ما قرأ من أساليب العرب لم يقابل قَطّ مثل الأسلوب الذى يصطنعه طه حسين كقوله فى صدر قصة المعلمين التى نشرتها له جريدة "السياسة" يومذاك: "نعم قصة المعلمين، فللمعلمين قصة، وللمعلمين قضية. وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة، وألا تكون للمعلمين قضية، لأننا نربأ بمقام المعلمين عن أن تكون لهم قصة أو قضية، ولكنْ أراد الله، ولا رادَّ لما أراد الله، أن يتورط المعلمون فى قصة، وأن يتورط المعلمون فى قضية. ليست قضيتهم أمام المحاكم، وإن كانت أوشكت فى يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم، وليست قصتهم مُفْزِعة مُهْلِعة، وإن كانت أوشكت فى يوم من الأيام أن تكون مفزعة مهلعة".
ثم يعقِّب الرافعى على ذلك قائلا: "فهذه عشرة أسطر صغيرة دارَ المعلمون فيها عدد أيام الحسوم، وحُكِيَت القصة ست مرات، وكان للقضية فيها ست جلسات، غير ما هنالك من "مُفْزِعة" و"مُهْلِعة" قد أفزعت وأهلعت مرتين، وغير ما بقى مما هو ظاهر بنفسه. ولا ريب أن الأستاذ إما أن يكون قد نحا بهذا نحوا لا نعرفه وقصد إلى وجه لم نتبينه، فهو يدلنا عليه لنُجْرِيَه فيما أجريناه من أساليب البلاغة ونؤرخ له فى الذوق الجديد، وإما أن يكون عند ظننا به فى اعتبار هذه الكلمات رُقًى وطلاسمَ للتسخير بقوتها ورُوحانيتها. فإذا قرأ المعلمون هذه المقالة عشر مرات انحلّت المشكلة وجاءهم الرزق وهم نائمون" (السابق/ 592- 593، نقلا عن كتاب الرافعى "تحت راية القرآن"). ولا شك أن تكرار طه حسين فى كتاباته لا يصل عادةً إلى حد الثرثرة المضحكة التى تطالعنا هنا، إذ إن ما يتسم به أسلوبه المتأنى المنبسط من موسيقى وفخامة وأصالة ووضوح وسلاسة ودفء وتهكم وثقافة واسعة متنوعة الألوان يغطى فى كثير من الأحيان على هذه الثرثرة المتحذلقة، أو قل: يحولها إلى ثرثرة فنية لذيذة.
كذلك فإن الموازنة والتكرار وما يمتلئ به أسلوب طه حسين من نغمات موسيقية لا يجرى على وتيرة واحدة، بل كثيرا ما يخرج الأسلوب عما هو متوقع، فتراه لا يمضى لآخر الطريق مع هذه السمة أو تلك، وهو ما يشيع فيه مرونة وحيوية وإنعاش. ولنأخذ بعض الأمثلة لتوضيح ما نقول، فعلى سبيل المثال نراه فى النص التالى لا يتابع التناظر فى موازنته إلى نهاية الشوط، بل يكسرها بما يخرج القارئ عن استنامته لما يجرى: "رأى ابنة هذا الرجل فتاة كاعبا تستقبل الحياة فى قوة وجمال، وفى بؤس وشقاء أيضا، فلم يرقّ لبؤسها ولم يرحم شقاءها، وإنما اشتهى جمالها، وطمع فى محاسنها، وابتغى إليها الوسائل" (ص 58). فانظر كيف كَسَر التناظرَ فى النص بزيادة كلمة "أيضا" بعد كلمة "شقاء"، وإجراء جملة "وابتغى إليها الوسائل" على تركيب مخالف للتركيب الذى صب فيه الجملتين السابقتين عليها. وقس على ذلك هذه العبارة: "لا ترفع صوتا بإعوال، ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها، ولا تخمش صدرها، ولا تصنع صنيع أحد من النساء" (ص 97- 98)، التى كان يتوقع قارئها أن تأتى الجملة الثالثة من الجزء الثانى منها على نفس النسق التركيبى الموجود فى الجملتين السابقتين عليها، وبخاصة أن الجملتين فى الجزء الأول قد رَشَّحَتا لهذا التوقع، لأنهما أيضا تتناظران، ودون أن يحدث ما يعكر صفو هذا التناظر.
بيد أنه يفاجَأ بإتيان الكاتب بجملةٍ تركيبُها يختلف عن هذا التركيب. وبالمثل تجرى العبارة التالية: "وقد وجد الصبى شيئا من كبرياء، فقد أصبح معلما بعد أن كان متعلما، وأصبح مقرئا بعد أن كان قارئا، ووجد فى نفسه شيئا من الفرح والابتهاج لاتصال الأسباب بينه وبين هذين الزميلين المترفين اللذين يلبسان اللباس الأوربى ويضعان على رأسيهما الطربوش..." (ص 108). ونَفْسَ الشىء قُلْ فى مظاهر الموسيقى عند الكاتب، فهو لا يلتزمها دائما، كما أنه لا يأتيها فى أى وقت ولا على نظام معلوم بحيث يمكن أن يتوقعها القارئ سلفا، بل تأتى فجأة مثلما تنصرف فجأة كما هو الحال مثلا فى قوله: "وامتلأ الجو من حوله ضياءً يوقظ الأشياء، وغناءً يوقظ الأحياء، ويدعو الناس إلى الصلاة" (ص 63). فالجملة الأخيرة لا تتناغم مع سابقتيها، إذ ليس بينها وبينهما التناظر الموسيقى المتوقع لا فى التركيب ولا فى الفاصلة. وعلى هذا النحو نفسه تسير العبارة التالية: "ومضى الفتى فى حياته الكسلة العاملة، ويقظته الغافلة الذاهلة، واتصل النشاط واشتدت الحركة فى دار صفاء" (ص 148).
ونمضى فنذكر بقية ما تنبهتُ إليه من سمات أسلوبية فى كتابات الدكتور طه حسين: فمن ذلك أنه حريص فى غير قليل من الحالات على التأكيد بأنه لا يشك فيما يرويه من أحداث أو يورده من أحاديث. ووجه التفاتى إلى هذه السمة أنه اشتهر أول ما اشتهر بإنكاره الشعر الجاهلى وإقامته هذا الإنكار على منهج الشك المنهجى أو الديكارتى، وذلك فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، وإن ظهر لدارسى هذا الكتاب أنه للأسف لم يحسن فهم هذا المنهج ولا تطبيقه على الشعر الجاهلى، ومنهم المرحوم مصطفى صادق الرافعى، الذى كان أفهم منه لهذا المنهج رغم أنه لم يطنطن به ولا أطال الكلام فيه مثلما أطال هو وطنطن كما وضحتُ فى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين". وإلى القارئ بعض الأمثلة على ما نقول: "وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذا الموضع" (ص 34)، "ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة" (ص 34)، "الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ أن صالحا لم يكن يتيما" (ص 35)، "ما أشك فى أن السيدة ستُسَرّ بهذا الصيد" (ص 48)، "والشىء الذى لا شك فيه أن الفتاة قد اطمأنت إلى هذا الرجل ووثقت به" (ص 59)، "ولكن الشىء الذى ليس فيه شك هو أن هذا الموظف من موظفى الدولة عاجز عن أن..." (ص 152)، "والشىء الذى ليس فيه شك أن هذا الموظف ليس وحيدا فى بؤسه" (ص 153).
ويشبه هذا عنده تأكيدُه المفعولَ المطلق بكلمة "كلّ" مثل: "يُغْنِى كل الغَناء، ويفيد كل الفائدة" (ص 25)، "ولكنها بعيدة كل البعد عن الإعدام" (ص 74)، "راضٍ عن حياتنا التى نحياها كل الرضا، مطمئن إليها كل الاطمئنان" (ص 89)، "راضٍ عن نفسه كل الرضا، مستقر فى الحياة كل الاستقرار" (ص 104)، أو جعلُ المفعول المطلق أفعل تفضيل مثل: "وانغمس فى القناة كأحسن ما تعلَّم أن ينغمس، وعام فى القناة كأحسن ما تعوَّد أن يعوم" (ص 33)، "ضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيق" (ص 35)، صُنِع فى تمهل وتأنُّق وأناة كأحسن ما يتمهل المثّال البارع ويتأنق ويستأنى بعمله" (ص 66)، "وأُعْجِب قرائى حتى يَكْلَفوا بى أشد الكَلَف، وأَغِيظهم حتى يمقتونى أعظم المَقْت" (ص 83- 84)، "يخطئ أشد الخطإ إن ظن بى هذا الإسراف" (ص 87)، "لكن الدار كانت منظمة أدقّ النظام وأشقّه" (ص 111)، "مزدحمين أشد الازدحام، ملحّين أعظم الإلحاح" (ص 124). وقد سبق أن ذكرنا أيضا المفعول المطلق المؤكد لعامله، وهو لا يقل كثيرا فى هذا الباب عن نظيريه.
ومما لاحظت تكرره عند طه حسين استخدام اسم الإشارة تابعًا يليه تابعٌ آخر أو أكثر، مثل: "وافتقدتْ صاحبَنا ذاك المهذار" (ص 18)، "عند رفيقه ذاك الصبى" (ص 24)، "انصرفْ إلى حديدك هذا الذى فى زاويتك" (ص 31)، "وكنت تراها...عائدة إلى بيتها ذاك الوضيع الحقير" (ص 68)، "ثم ألقى تحيته بصوته ذاك المرعب المخيف" (ص 106)، "وكان حديثها ذاك الملتوى...يسحر نفس الصبى" (ص 111)، "لم يبلغه أحد من رفاق الصبى أولئك الذين عرفتُهم فى الكتّاب" (ص 116)، "استطاع أن ينقل نفسه من مدينته تلك البعيدة" (ص 137)، وسيستأنف حياته تلك الغريبة المشردة" (ص 140)، "ليس وحيدا فى بؤسه هذا المنكر، وفى عبئه هذا الثقيل" (ص 153).
كذلك يكثر فى كلام كاتبنا هذا التركيب: "ما كاد/ لم يكد فلان...حتى..."، والغالب، فيما يخيل إلىّ، أن يقال هذه الأيام: "ما إن حدث كذا حتى...". ومن أمثلة التركيب المذكور: "ولم يكد يجاوز الدار حتى رفع صوته بالدعاء" (ص 19)، "ولا يكادون يخرجون من بيوتهم من الكتّاب حتى يسرعوا إلى الماء" (ص 29)، "ثم لم يكد يفرغ من غَدَائه حتى خرج ليشهد صلاة الظهر" (ص 32)، "ولكنه لم يكد يجلس حتى هبَّ مرتاعًا وَجِلاً" (ص 48)، "فلا يكاد الأذكياء منهم يقرأون حتى يستكشفوا مكر الكاتب" (ص 88)، "ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يحمل الفلاحون جثة قد شاع فيها الموت" (ص 99)، "ولم يكد يبلغ داره...حتى أعاد على أمه ما سمع من حديث" (ص 107)، "فلا يكاد يصيب معهم شيئا من الطعام...حتى يأوى إلى مضجعه" (ص 131- 132)، "فلم يكد عمرو بن العاص...يقرأ هذا الكتاب...حتى كتب إليه" (ص 161).
ومن التراكيب اللافتة للنظر فى أسلوب الدكتور طه أيضا النفى بــ"ليس" مع مجىء خبرها فعلا (مضارعا بطبيعة الحال)، والغالب فى أساليب العصر الحالى استخدام "لا" بدلا منها. وهذه شواهد من الكتاب الذى بين أيدينا على ما نقول: "ولست أدرى أيعرف القارئ أو لا يعرف أن العَرِيف فى الكتّاب قد كان رمز الرشوة والفساد" (ص 29)، "ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوة" (ص 35)، "وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس" (ص 35)، "وهنا ليس يحتاج القارئ...إلى أن أمضى به فى هذا الحديث البغيض" (60)، "ولست أدرى ماذا كان من أمر الجمع المحتشدين بعد هذه الفضيحة" (ص 115)، "ولست أعرف ما هذا الذى أردنا إليه" (ص 119)، "ولست أكره أن أؤدى للقارئ حقه فى هذا" (ص 123)، "ولست أستطيع أن أبين لذلك سببا" (ص 124)، "لست أبغض شيئا كما أبغض إلقاء الدروس فى الوعظ والإرشاد" (ص 150)، "لست أدرى أتصحّ هذه الأخبار...أم لا تصح" (ص 173). ومن الواضح أن الفاعل فى كل هذه الأمثلة تقريبا هو "تاء المتكلم".
وتتكرر عند كاتبنا كذلك "كان" التامة، وهو استعمال لا يعرفه كتاب العصر الحديث عادة. وهذه شواهد من أسلوب الكاتب على هذه السِّمَة: "وسأدفع نصفه الآخر إلى صالح ليؤديه إلى العريف إذا كان الغد" (ص 32)، "لن تغدو على الكتّاب إذا كان الصبح" (ص 41)، "على أن يستأنفا سعيهما إلى الكتّاب إذا كان الغد" (ص 106)، "ولم يكن شكٌّ فى أنه ضابط تركى قديم" (ص 106)، "لا يكادون يستقرون فى حجرتهم...حتى تلُمِ ّربة الدار فيكون الحديثُ الرفيقُ والحنانُ الرقيق" (ص 110)، "وطبيعى ألا ينهض هذا المرتب الضئيل بحاجة هذه الأسرة الضخمة فيكون الاقتراضُ، ثم يكون العجزُ عن أداء الدين، ثم يكون امتناعُ القادرين عن الإقراض...، ثم يكون الحرمانُ...، ثم يكون الضيقُ بالحياة، ثم يكون الالتجاءُ إلى الأغنياء بطلب المعونة، ثم يكون إعراضُ الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين..." (ص 151- 152).
ومن التراكيب التى تكررت أيضا على نحو يلفت النظر عند د.طه جملة "جَعَلَ" الشروعية بدلا من "أَخَذَ"، التى يشيع استخدامها فى عصرنا، وربما فى غير عصرنا أيضا: "ومنذ ذلك اليوم جعل الحاج محمود يسعى بالخير بين حين وحين إلى هذه الأسرة البائسة" (ص 59)، "وأخذتْ بيد ابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب" (ص 99)، "وجعل الفتى يقبض أجره آخر الشهر" (ص 131)، "وجعلتْ مرجانة وحنينة تلتقيان حين يُسْفِر الصبح وحين يتقدم النهار" (ص 133)، "وإذا اللقاء الذى كاد يكون بينهما على غير موعد قد جعل يصبح شيئا تُدَبَّر له الخطط...، وإذا الحديث الذى كاد يكون بينهما فارغا...قد جعل يصبح مليئا وراءه كثير من الأشياء" (ص 135)، "وقد جعل هذا الخاطرُ يتردد فى ضمير الفتى يقظان" (ص 145)، "وجعلتْ ألوان الطُّرَف وفنون الهدايا تستبق إلى الدار" (ص 146)، "وقد جعلتْ منذ حين لا تراه إلا مخالسة" (ص 146).
وفى كثير جدا من الأحيان نرى طه حسين يتحول عن حكاية الوقائع المنصرمة من خلال الفعل الماضى إلى حكايتها من خلال الفعل المضارع، يريد أن يقيم أمام أعيننا حوادث الزمان الذى ولَّى وكأنها تقع الآن مباشرة: "وإنها لتتحدث إلى بناتها هذه الأحاديث...وإذا الصبى يقطع عليها حديثها" (ص 21)، "وإن الفتاة لفى ذلك وإذا بالباب يطرق طرقا خفيفا" (ص 48)، "ولكنها فى ذلك اليوم قد أُعْجِلت عن حمل الطبقين، ولا تذكرهما إلا حين رأت أمها مقبلة تحملهما" (ص 73)، "وفتيان القرية يتسامعون بقصة خديجة هذه" (ص 74)، "وقد استقامت الأمور بين الأسرتين، ولكنها لم تستقم فى نفس خديجة، فهى تمتنع على هذا الزواج وتلحّ فى الامتناع" (ص 75)، "فقد خُطِبت تفيدة، وما هى إلا أسابيع حتى يقبل قوم من القاهرة، وحتى تقام فى الدار أعياد، ثم يعود الزائرون من حيث أتَوْا" (ص 111)، "والحياة مع ذلك ماضية فى طريقها" (ص 112)، "وإنهم لفى ذلك بعد أن صُلِّيَت العصر، وإذا امرأة شابة تخرج من الدار وتتوسط جمع الناس" (ص 114)، "ولكنى أصل إلى القاهرة وأسأل عن صاحبى فأعلم أن حُمَّى التيفوئيد قد أسلمته إلى الموت أثناء الصيف" (ص 120)، "والسنّ تتقدم بالمعلم حتى يحس الضعف عن النهوض بأعبائه، والفتى يتقدم فى العلم بمهنة أبيه متباطئا متثاقلا" (ص 133).
هذا، وهناك ألفاظ وصيغ معينة يغرم طه حسين بترديدها فى هذا الكتاب وفى سوى هذا الكتاب أيضا، مثل "نُجْح" بدلا من "نجاح"، و"مِزاج" عوضا عن "مزيج"، وقد تكررت كلتاهما مرات. ومثلهما فى ذلك كلمة "سَرَف"، التى لم أقع عليها مع ذلك فى الكتاب الحالى. وبالمثل نراه يكثر هنا من استعمال كلمة "شىء" فى سياقاتٍ وظلالٍ مختلفة: "هنالك وجمت أم الصبى شيئا"، أى بعض الوجوم (ص 14)، "مهما يكن من شىء فقد غدا الصبى...على كتّابه" (ص 27)، "والواقع من الأمر أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التى ذكرتها" (ص 36)، "الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة" (ص 35)، "لا تستطيع أن تصوّر إلا حزنا هادئا فيه شىء من أمل يسير" (ص 46)، "وجمت أمونة شيئا ثم قالت مستخذية:..." (ص 55)، "ليس هو نائما، وليس يقظان، وإنما هو شىء بين ذلك" (ص 62)، "وربما يقسو فيشتمل على شىء من شماتة" (ص 95)، "قد تقدمت به السن شيئا" (ص 103)، "وأشعل سيجارته فى شىء من أنفة، ونهض فى شىء من كبرياء" (ص 121)، "واضطَرّ الأسرةَ إلى شىء من الفقر البغيض الثقيل الذى لايطاق لولا شىء من فسحة الأمل" (ص 129)، "ثم هُمْ، على كثرة ما يملكون، ...أشبه شىء بالصخرة المصمتة" ( ص 173)...وهكذا. وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فإن الدكتور طه، حين تناوله كاتبه السابق فريد شحاتة فى مذكراته بما يسوؤه ويفضحه ذاكرًا أنه قد تم تعميده فى كنيسة بالجنوب الفرنسى تمهيدًا لزواجه من سوزان، قد دفعه الغيظ إلى أن يطلق عليه: "هذا الشىء الذى أسمّيه: فريد شحاتة" (سامح كريم/ ماذا يبقى من طه حسين؟/ دار الشعب/ 1975م/ 124- 125).
وبعد هذا التحليل الأسلوبى المرهق أرجو أن أكون قد قَدَرْتُ على إبراز بعض من السمات التى تميز لغة الدكتور طه حسين وتضفى عليها تلك النكهة الخاصة الحلوة السهلة المتأنية الفخمة المغرية بل المخدِّرة فى كثير من الأحيان. على أن جاذبية كتابات الرجل لا تتوقف هنا، بل ثمة أشياء أخرى فى هذا الكتاب لا بد من الإشارة إليها: فمثلا قد يجد القارئ، فى خروج طه حسين عن تيار الحكاية وانحرافه إلى الحديث عن أصول القصة كما يرسمها النقاد ويطالبون القصّاص بالتزامها، ما يشدّه إلى هذا اللون من الكلام. فها هو ذا المؤلف يشركه معه فى مناقشة أمر من أمور الأدب والنقد بما يشى بثقته فى عقله وذوقه ومقدرته على أن يرتفع إلى مستواه فى هذا المجال، وهو لون من التواضع يحبب الناس فى صاحبه، وبخاصة إذا ما بدا وكأنه يريد أن يستطلع طلعهم ويأخذ رأيهم فى هذه القضايا مما يعنى أنهم قد أصبحوا مثله فهمًا لقواعد الفن القصصى ومقدرةً على تكوين رأى فى مسائله، وبالذات إذا كان تناول الدكتور طه للأمر تناولا سهلا سريعا لا يمس أعماقه، بل يكتفى منه فى الغالب بلمس السطوح القريبة التى لا تعنت الذهن ولا تثقله بالتحليلات المفصّلة وتتبُّع الدقائق واستعراض الآراء المختلفة فى المسألة ومناقشتها واحدا واحدا.
إن طه حسين بهذا يكتسى ثوب الرجل الديمقراطى الذى ينزل إلى مستوى ناخبيه (أو قل: قارئيه) يبادلهم الحديث ويستمع إلى آرائهم. ثم إنه هنا يجرِّئ القراء على كسر القواعد التى يتهمها بالظلم والعسف والاستبداد، ومن يا ترى يستطيع أن يكره الدعوة إلى تعرية الظلم والعسف والاستبداد؟ أما القراء الذين لا تجوز عليهم تلك الحيلة الفنية فإنهم يَرَوْن فى ذلك لونا من الخروج على المألوف يتمثل فى قيام القَصّاص بكشف أسرار العملية الذهنية الإبداعية أثناء ممارسته لتلك العملية ذاتها. وأذكر أننى قد تناقشت ذات ليلة أنا وزميل يمنىّ (كان يدرس فى بريطانيا للحصول على درجة الدكتورية من جامعة أوكسفورد فى الأدب الإنجليزى) حول هذا الاستطراد الذى انتهجه طه حسين فى "المعذبون فى الأرض" ومدى جواز قبوله أو لا. وأذكر أيضا أننا قلنا إنه قد يُغْتَفَر لطه حسين ما لا يُغْتَفَر لسواه. نقصد أن أسلوبه العذب الجميل ومكانته التى حققها فى دنيا الكتابة يشفعان له ألا نحاسبه على مثل هذا الانحراف عن قواعد كتابة القصة. وفوق ذلك فطه حسين لا يكتفى بمناقشة النقاد والسخرية من قواعدهم وأصولهم فحسب، بل يضيف إلى هذا ما يمكن أن نقول: مناكفته للقراء، هذه المناكفة الفنية التى تخيِّل لمن لا يعرف الأمر أن هناك من القراء من يعترض على طريقته هذه أو تلك فى معالجة القصة التى بين يديه، على حين أن الأمر لا يعدو رغبة الكاتب فى استفزاز اهتمام قرائه وإثارة شعور الرضا عن النفس لديهم كما سبق أن وضحنا، وبالذات إذا كان الكاتب حريصًا حِرْصَ الدكتور طه على تجنب ما يمكن ان يُشْتَمّ منه رائحة اتهام القراء بعدم الإلمام بما يعلمه هو، إذ يصوِّر الأمر على أنه مجرد رغبة منه فى ألا يخضع لما يريده النقاد والقراء الذين يمكن أن يظاهروهم عليه من الاستبداد به والعمل على خنق حريته الفنية!
مع نص من النصوص التى يناقش فيها طه حسين نقاد القصة والقواعد التى يَدْعون إلى مراعاتها ويتناول الكلام عن موقفه منها، والنص مأخوذ من قصة "صالح"، وهى عن صبى فقير كان بطلُ القصة (وهو صبىٌّ مثله، وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه فى صباه)، يدعوه إلى بيتهم ليصيب معه من أطايب الطعام التى تصنعها أمه فى بعض المناسبات الاجتماعية: "وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذا الموضع من الحديث وسيسأل نفسه، ولو استطاع لسألنى أنا: ألم يكن من الخير أن نعرف من أول القصة أن صالحا قد فقد أمه، وأنه كان يعيش يتيما ينعم بما يختلس من حب أبيه سرًّا ويشقَى جهرًا بما يُصَبّ عليه من بغض هذه الضَّرّة التى قامت مقام أمه فى البيت؟ ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوة والسخرية والغيظ فيقول فى نفسه: لو أن الكاتب سلك فى قصته هذه الطرقَ الممهَّدةَ والسبيل المعبَّدة التى رسمها النقاد للقصة لعرَّف إلينا صالحا فى أول حديثه ولأنبأنا بموت أمه وتزوُّج أبيه، ولأعفانا من هذه المفاجأة التى لم نكن فى حاجة إليها.
ولكنى أعيد على القارئ ما قلتُه آنفا من أنى لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثا. وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدّمون بين يديها هذه المقدمات التى يبيّنون فيها الموطن والبيئة والأسرة والزمان والمكان...إلى آخر هذا الكلام الثرثار الفارغ الذى يلهج به النقاد. ولو أنى بدأت هذا الحديث برسمٍ واضحٍ دقيقٍ لشخصية صالح وأمين ومن يتصل بصالح وأمين من الناس لضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيق ولقال بعضهم: تَجَاوَزْ حديث الطوفان وصِلْ إلى غايتك، فلسنا من الغباء والغفلة بحيث نحتاج إلى كل هذا التمهيد. وبَعْدُ، فمن أنبأ القارئَ بأن صالحا يتيم وبأن أمه قد ماتت؟ الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حيَّة أكثر مما ينبغى أن يحيا الناس إن صَحَّ أن تَكْثُر الحياة وتَقِلّ. وسواء رضِىَ القارئ أم لم يرض فقد كانت أم صالح حية من غير شك، لأنى أنا أريد ذلك، وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس، فأنا الذى اخترع صالحا من لاشىء، أو أخذ صالحا من عُرْض الطريق، لأن صالحا موجود ولأنه غير موجود: موجود فى حقيقة الأمر لأننا نراه فى كل ساعة وفى كل مكان، وغير موجود فى حقيقة الأمر أيضا لأنه يملأ المدن والقرى ويسرف على نفسه وعلى الناس فى الوجود، والشىء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقال.
فأنا إذن وحدى، كما كان يقال أيضا، أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيرى من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنها طُلِّقَت، وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد الطلاق ما أشاء: أستطيع ان أدعها مطلقة تعمل خادما فى بعض الدُّور، وأستطيع أن أجد لها زوجا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخِّرها لعمل من هذه الأعمال التى يعيش منها أمثالها من البائسات: فقد أسخّرها لبيع الخضر، وقد أسخِّرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلِّفها أن تغسل الثياب فى هذه البيوت، وقد أجد لها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله لأنى حُرٌّ فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقى حديثى كما أسوقه إليه، ثم هو حُرٌّ فى أن يقبله أو يرفضه، وفى أن يرضى عنه أو يسخط عليه. والواقع أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التى ذكرتُها ولا أفرض عليها شيئا من هذه الخطط التى رسمتُها لأنى، على حريتى فى أن أصنع بها ما أشاء، أُوثِر الأمانة فى رواية التاريخ. وقد حدثنى التاريخ بأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة..." (ص 35- 37).
ومع هذا فمن الكتاب من يضيق بهذا الكلام من طه حسين وينتقده عليه انتقادا شديدا، ولكلٍّ وجهةُ نظره ورأيُه الذى يرتئيه. ومن هؤلاء محمود عبد المنعم مراد، الذى قال: "إن طه حسين فى مقدمة قصة "المعذبون فى الأرض" يقول: "لا أضع قصة فأُخْضِعَها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول لأننى لا أومن بها ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لى القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بينى وبين ما أُحِبّ أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلامٌ يخطر لى فأُمْلِيه ثم أُذيعه. فمن شاء أن يقرأه فليقرأْه، ومن ضاق بقراءته فلينصرفْ عنه". ثم يعلله قائلا إنه يضع نفسه فوق النقد ولا يحب أن يسمعه ولا يعترف به ولا يرى أن يُقيم له وزنا! ولماذا؟ لأنه يريد أن يكون حُرًّا فيما يكتب ويُذِيع على الناس! وكيف إذن بنى طه حسين مجده الأدبى؟ ألم يكن ذلك على حساب غيره من الأدباء: القدماء والمُحْدَثين على السواء؟ يخيَّل إلىّ أن الذى ألجأ طه إلى هذه الثورة الغاضبة على النقاد والقراء هو إحساسه فى ذلك الموضع من كتابه أنه يتعرض للنقد، فأراد أن يقطع الطريق على هؤلاء الفضوليين.
ولا أعرف فى التاريخ كله كاتبا مَهْمَا تبلغ عبقريته يستطيع أن يقول للناقد: "قف! من أنت؟"، ولن يستطيع طه بهذا الكلام الذى ساقه أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه" (محمود مهدى الإستانبولى/ طه حسين فى ميزان الأدباء والعلماء/ 496، نقلا عن جريدة "المصرى" القاهرية فى 30 يناير 1953م. على أن ههنا كلمة تعقيب أحب أن أُدْلِىَ بها، فقد ذكر الأستاذ مراد أن طه حسين قد قال كلامه هذا فى مقدمة قصة "المعذبون فى الأرض"، على حين أن هذا الكلام لا يوجد فى هذا الموضع بل فى تضاعيف قصة "قاسم" فى الصفحة الثانية والعشرين من الطبعة التى بين يدىّ، كما أن الكتاب هو فى الواقع مجموعة من القصص القصيرة والمقالات، وليس قصة واحدة كما قال الأستاذ مراد). إن الأستاذ مراد إنما يأخذ طه حسين بالقواعد التى ينبغى على كاتب القصة مراعاتها والالتزام بها، ومن هنا فإنه ينتقده لقوله إنه غير ملزم بهذه القواعد، وإن من حقه الخروج عليها إذا أحب. لكن ينبغى الالتفات إلى أن الدكتور طه قد قال أيضا إنه لا يكتب قصة حتى يلتزم بأساليب القصة، وإنما يسجل تاريخا. حسنٌ، فنحن إذن عندما نستمتع رغم ذلك بما كتبه طه حسين هنا فإننا لا ننظر إليه على أنه قصة، بل على أنه أسلوب جميل متميز له نكهة خاصة عجيبة حاولنا فيما مضى من صفحات أن ننبه على بعض خصائصها، فضلا عما سنضيفه لذلك لاحقا. وعلى أى حال فقد قال مراد إن هذا الكلام الذى ساقه طه حسين عن القواعد وعدم وجوب خضوعه لها لن يستطيع أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه. وعلى هذا فإن شقة الخلاف بيننا وبين محمد عبد المنعم مراد ليست بالتى تُذْكَر.
ومما يتميز به طه حسين فوق هذا كله البراعة فى الوصف وفى سرد الذكريات. إنه يرتقى مرتقًى عاليًا حين يتحدث عن صباه وشبابه وما جرى أثناءهما من أحداث وما اتصل بهم من أشخاص، وبخاصة الأحداث البائسة والشخصيات الشعبية الفقيرة. وفى "المعذبون فى الأرض" صفحات يبلغ فيها فنُّ الرجل سماواتٍ عليا يصعب مجاوزتها إلى ما فوقها، ومنها على سيل المثال تلك الصفحات التى خصصها لأم تمام فى قصة "المعتزلة"، حيث يحكى قصة أسرة قروية بائسة تتكون من أم عجوز قبيحة شديدة القِصَر متلاشية الصوت، قد فقدت بعض أسنانها وانحنى أعلاها على أسفلها على نحو بشع جعلها أقرب ما تكون إلى العجماوات، وإذا مشت خُيِّل للناظر أنها كرة تتدحرج على الأرض، تجمع روث البهائم من الطرقات وتصنع منها أقراصا تجففها وتبيعها وقودا تستعين بثمنه على ضروريات الحياة، وولدين يشتغلان فى بناء الأكواخ يوما وينقطعان أياما، وبنتٍ فى نحو الثالثة عشرة يتصارع فى وجهها وملامحها القبح والجمال ولا تشتغل بشىء. وكانت هذه الأسرة رغم فقرها المدقع ورثاثة حالها تعتصم بكرامتها فلا تمد يدها إلى أحد ولا تقبل معونة من أحد مما أكسبها احترام الناس وكراهيتهم معا. ولنترك المؤلف نفسه يحكى لنا قصتها:
المعذبون في الارض الجزء الاول