رواية يوسف زيدان لا بد أن تقرأ بوعي شديد، لنعرف إلى أي حد يتطابق التاريخي مع الفني، وإلى أي حد يعانق كل منهما الآخر، ثم ينفصل عنه.
كتب ـ أحمد فضل شبلول
قد تكون رواية "عزازيل" للدكتور يوسف زيدان، هي الوجه الفني لكتاب "الإسكندرية أعظم عواصم العالم القديم" للمؤرخ الألماني مانفريد كلاوس، وغيره من المراجع التاريخية التي رجع إليها الروائي لاستقاء معلوماته عن تلك الحقبة التاريخية التي يتحدث عنها في روايته المثيرة للجدل، وهي القرن الخامس الميلادي.
و"عزازيل" رواية لا بد أن تقرأ بوعي شديد، لنعرف إلى أي حد يتطابق التاريخي مع الفني، وإلى أي حد يعانق كل منهما الآخر، ثم ينفصل عنه.
فيوسف زيدان لم يكتب روايته من الفراغ، ولكنه رجع إلى عشرات المراجع والمصادر التي قد يكون أهمها على الإطلاق كتاب كلاوس المشار إليه، والذي ربما يكون زيدان قد اطلع عليه قبل أن يترجمه أشرف نادي أحمد، ويراجعه د. صلاح الخولي، ويصدر ضمن "سلسلة مصريات" بالهيئة المصرية العامة للكتاب 2009، أو اطلع على غيره من الكتب المماثلة التي تؤكد تطابق الرؤية التاريخية مع الرؤية الفنية في كثير من الأحيان، وكأن كتاب كلاوس ورواية زيدان وجهان لعملة واحدة، هي التاريخ والفن والإنسان والمكان.
ولأن العمل الفني أو الروائي هو الأقرب دائما إلى الوجدان من العمل التاريخي، أو من التاريخ الصرف، وخاصة إذا كان عملا جيدا، فقد كثر الهجوم أو الاعتراضات ـ وخاصة من جانب رجال الدين المسيحي ـ على ما ذهب إليه زيدان، لدرجة اتهامه بإزدراء الدين المسيحي، مع أن ما أشار إليه زيدان بشأن العقيدة المسيحية، وانقسام الناس حولها ـ والذي بلغ مداه حول طبيعة السيد المسيح بين نسطور بابا كنيسة القسطنطينية، وكيرلس بابا كنيسة الإسكندرية، ما دعا الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الثاني إلى دعوة جميع البطاركة المسيحيين من جميع المذاهب إلى مجمع في إفيسوس عام 431 ـ مذكور في معظم الكتب التاريخية التي تناولت تلك الحقبة السكندرية، حيث كانت الإسكندرية في ذلك الوقت معقل الخلافات المذهبية.
يقول المؤرخ الألماني مانفريد كلاوس ص 341: "في عام 431 قام الإمبراطور بدعوة جميع البطاركة المسيحيين من جميع المذاهب إلى مجمع في أفيسوس، لكي يقوموا بتوضيح هذه النقطة الخلافية عن طبيعة المسيح وأمه، وذهب كل بطريرك إلى أفيسوس ومعه حاشيته وبطانته. وفي الواقع هم الإرهابيون الذين يخيفون ويرهبون أتباع المذاهب المسيحية الأخرى ورؤساء الكنائس الأخرى. ولم يكن اجتماع إفيسوس هذا سوى فوضى واستعراض للقوى والعضلات بين أتباع كل مذهب، ولكن ذلك كان طبيعيا عندما كان يحدث اجتماع كنسي كبير، وليس فقط في القرن الخامس الذي ساد فيه كريل وفرض عليه سيطرته .. الخ".
وفي موضع آخر من ص 344 يقول كلاوس: "كانت الخلافات المذهبية بين المذاهب المسيحية شيئا معتادا وبشكل يومي بمدينة الإسكندرية، وتراجعت أمامها الواجبات الكنسية المهمة الأخرى، مثل علاج المرضى والعمل اليومي في الكنائس والأديرة ومساعدة المحتاجين والتعليم".
بل إنني أرى أن شخصية الراهب هيبا (واسمه متطابق مع المقطع الأول من اسم فيلسوفة الإسكندرية هيباتيا)، استوحاها زيدان من شخصية أحد الرهبان الذين ذكرهم المؤرخ بالاديوس في قول كلاوس ص 249: "يحذرنا مصير راهب ذكره لنا بلاديوس من أن مدينة الإسكندرية الكبيرة التي لا تهدأ أبدا لها مخاطرها على بعض المسيحيين الطيبيين"، ثم يقول عن أحد هؤلاء الطيبيين: "ذهب إلى المسرح وإلى السباق في حلبة ركوب الخيل وهام على وجهه في الحانات، وأكل وشرب كميات مبالغا فيها وسقط في الرغبة الحسية، ولأنه كان مصمما على اقتراف الذنوب، فقد أقام علاقة مع ممثلة".
ويتابع: "وكانت الإسكندرية لا تزال مدينة (دنيوية) تماما، وهكذا لم يكن أمام الراهب يوحنا من ليكوبوليس في بداية القرن الخامس سوى تحذير كل الحجاج بتجنب المرور على الإسكندرية في طريق عودتهم من أديرة وادي النطرون، لأنهم سيتعرضون بالتأكيد للمغريات".
ويبدو أن زيدان التقط مثل هذه الإشارات، ونسج قصة لقاء هيبا مع أوكتافيا وغواياتها التي تورط فيها الراهب الشاب ثلاثة أيام، قبل أن يفتضح أمره، وتكتشف أوكتافيا الوثنية أنه راهب مسيحي فتطرده من قصر التاجر السيد الصقلي الذي تعمل عنده زاعقة فيه "بصوت هائل مثل هزيم رعد سكندري، أو صرير ريح وثنية عاتية: اخرج من بيتي يا حقير، اخرج يا سافل".
ولكن زيدان جعل فتاه الصغير هيبا يخرج من إحدى قرى أسوان جنوب مصر، ويتعلم في نجع حمادي (بمحافظة قنا الآن) وأخميم (بمحافظة سوهاج الآن) بصعيد مصر، ويهرب بعد مقتل أبيه، وكأنه شخصية شكسبيرية تخرج من مسرحية هاملت، ولكنها لا تملك الأخذ بثأر أبيها، ويذهب هيبا إلى الإسكندرية ليتعلم الطب وينتظم في صفوف الرهبان في الوقت نفسه، بينما يشير كتاب كلاوس إلى أن الراهب يوحنا أتى من ليكوبوليس (أسيوط) بصعيد مصر أيضا.
والتحذيرات نفسها من عاهرات الإسكندرية نجدها في "عزازيل". في ص 62 نجد من يقول لهيبا وهو في طريقه إلى الإسكندرية: الإسكندرية مدينة العاهرات والذهب! هل تنوي الإقامة هناك أيها الجنوبي؟
هيبا: حسبما يشاء الرب.
ـ أي رب فيهم يا ابن العم؟ في الإسكندرية أرباب كثيرة! المهم أن يكون لك قريب هناك، وإلا ستعاني الكثير.
لقد كانت الإسكندرية، وكذا العالم كله، حديث عهد بالمسيحية، وكانت الوثنية لم تزل تبسط أجنحتها على مدينة الإسكندر متمثلة في مظاهر كثيرة، وخاصة في معبد السرابيوم الموجود في منطقة كانوب (أبوقير الآن)، وهو ما شرحه تاريخيا كلاوس، وأجاد تصويره فنيا زيدان.
ومثلما يفر الراهب الطبيب هيبا من الإسكندرية بعد أن عاين بنفسه مشهد قتل الفيلسوفة هيباتيا وسحلها، أمام عينيه وكانت تستعين به وتناديه لكي ينقذها من أيدي قاتليها، نجد في كتاب كلاوس طبيبا يدعي زينون يغادر الإسكندرية لوجود القلاقل والفتن.
يقول كلاوس ص 294: "وأثناء هذه القلاقل اضطر طبيب الطائفة ويدعى زينون إلى مغادرة الإسكندرية، وكان ضمن واجباته الوظيفية ـ إلى جانب معالجة الفقراء مجانيا ـ تعليم أبناء العائلات الفقيرة علم الطب".
لقد اندمجت الشخصيتان يوحنا وزينون عند كلاوس، في شخصية هيبا عند زيدان الذي ترك لخياله العنان ليحركها كيفما شاء، ولكن وفقا للمنطق التاريخي والفني معا.
وإذا قارنا مشهد قتل الفيلسوفة هيباتيا بنت ثيون في كلا الكتابين، سنجد الكثير من أوجه الشبه.
يقول كلاوس ص 327: "قام الخدام يقودهم كاهن اسمه بطرس بالهجوم على الفيلسوفة هيباتيا أثناء خروجها من محاضرتها في الموسيون متجهة إلى بيتها، ثم انتزعها المسيحيون من مركبتها وجروها على الأرض من شعرها حتى كنيسة قيصر بالإسكندرية. هناك أمر الكاهن بطرس بنزع ملابسها عنها وأمر المسيحيين بقذفها بالحجارة حتى ماتت. ثم قام المسيحيون بتقطيع جسدها والتمثيل به مستخدمين في ذلك قطع الفخار الحادة. بعد ذلك قاموا بحرق ما تبقى من جسدها وذروا الرماد في أنحاء متفرقة من المدينة، وعلل المسيحيون ذلك بأنهم قتلوا رمز الكفر ورمز الديانات القديمة التي تخالف المسيحية".
ويقول زيدان في أحد مشاهد قتل هيباتيا ص 156: "سحبها بطرس من شعرها إلى وسط الشارع، وحوله أتباعه من جند الرب يهللون. حاولت هيباتيا أن تقوم، فرفسها أحدهم في جنبها، فتكومت، ولم تقو على الصراخ. أعادها بطرس إلى تمددها على الأرض، بجذبة قوية من يده الممسكة بشعرها الطويل. الجذبة القوية انتزعت خصلات من شعرها فرماها، نفضها من يده، ودسّ السكين في الزنار الملفوف حول وسطه، وأمسك شعرها بكلتا قبضتيه، وسحبها خلفه.. ومن خلفه أخذ جند الرب يهتفون هتافه (باسم الرب، سوف نطهر أرض الرب)، ويهللون له، وهو يجر ذبيحته".
إن بطرس عند كلاوس هو نفسه عند زيدان، ولكن أداة القتل تختلف، فهي قطع الفخار الحادة عند كلاوس، والسكين الطويلة الصدئة عند زيدان، مع توظيف مماثل للجذب من الشعر الطويل، والجرّ على الأرض.
وفي جميع الأحوال فقد تحولت هيباتيا بعد قتلها والتمثيل بجثتها على هذا النحو إلى شخصية أسطورية. يقول كلاوس ص 328: "إن الفيلسوفة العظيمة هيباتيا لم تكن في حاجة إلى شهرة، ولكن قتل الكنيسة لها بهذه البشاعة جعلها شخصية أسطورية وضحية لجميع المعاني النبيلة، حتى أنها غدت رمزا أسطوريا لمدينة الإسكندرية، ويقال إن كل الصفات الجميلة التي كانت تتحلى بها هيباتيا أخدها المسيحيون فيما بعد ووصفوا بها القديسة العذراء كاترينا." وكأنهم بذلك يكفرون عن تلك الفعلة الشنيعة في تاريخ المسيحية في الإسكندرية.
أما زيدان فقد أضاف خياله الثري على مشهد مقتل هيباتيا، الذي أتصور أنه حدث في الشارع الكبير المفضي إلى البحر (وهو إما شارع النبي دانيال، أو شارع صفية زغلول الآن). لقد أدخل زيدان هيبا في المشهد (نهار خارجي) الذي قال في أسى وحزن عميقين:
"كنت لحظتها واقفا على رصيف الشارع، مثل مسمار صدئ. لما وصلوا قبالتي، نظر بطرس ناحيتي بوجه ضبع ضخم، وتهلل وهو يقول: أيها الراهب المبارك، اليوم نطهر أرض الرب.. وبينما هي تتأرجح من ورائه على الأرض، تقلبت هيباتيا، استدار وجهها نحو موضعي. نظرتْ إلي بعين مصعوقة، ووجه تكاد الدماء منه تنفجر. حدقت فيّ لحظتها، فأدركت أنها عرفتني، مع أنني كنت في الزي الكنسي! مدت ذراعيها ناحيتي، وصاحت مستصرخةً بي: يا أخي .. تقدمت إلى منتصف الشارع خطوتين، حتى كادت أصابعي تلمس أطراف أصابعها الممدودة نحوي. كان بطرس القارئ يلهث منتشيا، وهو يمضي ناحية البحر ساحبا غنيمته".
هذان المشهدان لمقتل هيباتيا كما أورده كل من المؤرخ كلاوس والروائي زيدان، هما خير تعبير عن الفارق الحاسم بين التاريخي والفني في رواية "عزازيل"، فهذا الاستبطان الذاتي أو التصوير الفني وتسليط الكاميرا على جوانب شديدة الإنسانية في لحظات تاريخية معينة يصعب تكرارها، هو ما يفرق الحدث التاريخي عن الواقعة نفسها التي قد يراها المؤرخ بعين أكثر حيادا من الروائي الفنان. وهذا يؤكد تأثير العمل الأدبي أو الفني على قارئه، بالإضافة إلى تداوله على نطاق أوسع، الأمر الذي يؤكد ما يذهب إليه البعض بخصوص سحر الحكي وسحر السرد، وهو الأثر الفني الكبير الذي تتركه "عزازيل" لدى قرائها.