نشرت اول مرة اندبندنت ارابيا 8 يوليو 2022
قبل سنوات من رحيله، قدم الكاتب المصري الراحل يوسف إدريس كاتباً شاباً هو حسام فخر، وراهن على مستقبله الإبداعي. غير أن مسارات الحياة أخذت فخر إلى فضاء جديد وانتقل من القاهرة للعيش في نيويورك، ليعمل مترجماً في منظمة الأمم المتحدة، بعد دراسة العلوم السياسية في جامعة القاهرة.
وعبر سنوات لم تنقطع علاقته بالكتابة، وقدم كثيراً من المجموعات القصصية ومنها "وجوه نيويورك" و"حواديت الآخر"، وبرزت مجموعته "حكايات أمينة" التي نال عنها جائزة ساويرس الأدبية. وحديثاً صدرت مجموعته الجديدة "بالصدفة والمواعيد" الصادرة من دار العين (2022) التي تشتغل على مفارقة الالتباس بين ما هو مخطط له وما تحمل المصادفات من وقائع تغير مصائر الناس وحيواتهم.
الحياة اليومية
يقف قارئ قصص المجموعة في مواجهة السؤال عن هوية النصوص التي تتحرك برهافة بالغة، من كتابة اليوميات والخواطر، نحو تأمل مشاهد الحياة اليومية، ومراقبة مختلفة لصور الزوال. وعلى الرغم من أن الكاتب يستثمر في التخييل على الواقع المعيشي، فإنه يرفع قدره نحو مرتبة الأسطورة الحافلة بصور من الواقعية السحرية أو فانتازيا الحياة اليومية.
يحضر فخر دائماً باسمه الحقيقي ومعه أفراد العائلة في صورة فريدة من صور "كسر الإيهام"، وربما بغرض زيادة مفارقة هذا الالتباس، بحيث يتشكك القارئ دوماً في ما يقرأ وكأنه أمام وقائع لم تحدث أبداً .تعزز جميع نصوص المجموعة جرعة الحنين إلى زمن يتبدد وأفراد غابوا، وظلت قيمهم حاضرة في الذاكرة على النحو الذي تبرزه أولى القصص، وهي بعنوان "بائع التين الشوكي"، حين منح والد السارد كل ما لديه من مال لبائع تين عبر أمامه، وظل هذا الموقف درساً في مسيرة الكاتب يحكم مساراته ويرسم خياراته الحياتية كلها في تعزيز الوعي الاجتماعي. وانطلاقاً من معنى الزوال يتابع السارد مسيرة حضور الطبقة الوسطى التي تنشأ في أوساطها. وتثبت القصص كثيراً من ملامح هذا العالم، بداية من أنواع الأطعمة وحضور مربيات الأطفال وطقوس مشاهدة التلفزيون الذي كان وافداً جديداً، مروراً بطقوس السهر، والنزهات العائلية خارج البيت.
تمد قصص المجموعة المؤرخ الاجتماعي الراغب في رسم صورة أمينة لطبيعة تلك المرحلة، بمواد نادرة في صدقية تعبيرها عما كان، إذ تحفل بكثير من العلامات الثقافية الدالة على ما يمكن تسميته "المناخ العام". نتعرف داخل القصص إلى طرق صناعة مخيلة الجيل الذي نشأ في ظل الشعارات القومية، ونقرأ في السلاسل الثقافية التي كانت تشحذ مخيلة أبناء ذاك الزمان مثل "أولادنا" و"المكتبة الخضراء"، ونشاهد الأفلام التي صاغت وجدانهم مثل "دكتور زيفاغو".
وبكثير من التأسي يتوقف الكاتب أمام بعض تقاليد هذه الطبقة ومظاهر عيشها في مصر بين ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وينظر كيف اختفى كثير من تلك المظاهر التي كانت تنطوي على دفء عائلي لم يعد له وجود. وإذا كانت العائلة تشكل فضاء لغالبية القصص، إلا أنها لا تخلو أبداً من نقد لقيم السلطة الأبوية، وصور استبدادها ممثلة في ممارسات "الأب" الحازمة. وخارج هذا الفضاء يستعيد الكاتب ما بدأه في مجموعته الباذخة "وجوه نيويورك" حيث تأمل صور التعددية الثقافية ومكاسبها، بعيداً من التنظير المفتعل حول معاني "الهوية".
يستفيد فخر بكثير مما تمنحه له مهنته كمترجم فوري من "عطاءات" أبرزها تبدو بطرافة مدهشة في قصة بعنوان "في مركز المؤتمرات" يسخر فيها من مهنته. ويطور الكاتب كثيراً من صور التفاعل أو سوء الفهم بين مختلف الثقافات والأعراق ليخلق كثيراً من المفارقات الساخرة، التي تتصاعد مستوياتها من الطرافة إلى درجة التهكم، بلوغاً إلى معنى المفارقة الساخرة، بحيث تبدو واحدة من السمات الفنية التي تطغى على قصص المجموعة، وتحديداً قصة "في هاتسوهانا"، وقصص أخرى منها "مع الضوء المشع".
تلح على الكاتب هموم الكتابة خلال الفترات التي ينقطع فيها عن الإبداع، ويبتكر "قريناً" يطرح عليه كثيراً من الأسئلة حول جدوى ما يفعل، مقابل ما تهبه الكتابة من أسباب للسعادة، كما في قصص "لقاءات ليلية" أو "في قطار منتصف الليل". تشيع في قصص المجموعة حالة مثالية لجيل المشروع القومي الذي يواجه اليوم واقعاً جديداً يطالبه بتقبل وجود إسرائيل في المنطقة. وتبرز في كثير من القصص، ومنها "لقاء مرعب" أو "على سلم السفارة" و"في ماسبيرو"... صور من الضغوط النفسية التي عاناها أبناء الجيل الذي يمثله السارد الرئيس في المجموعة.
تمتد صور الالتباس داخل الكتاب إلى مستويات تعاطي الكاتب مع اللغة، فهو مولع باللغة اليومية التي تتسم بالحيوية ويتبنى خياراً لغوياً مدهشاً، يقوم أحياناً على استعمال "اللغة البيضاء"، وينتقل فيه من عذوبة الفصحى وسحرها إلى مستويات التعبير بالعامية المصرية، ثم يتحول من التدوين إلى نمط من الحكي الشفهي الذي يعزز سعيها إلى "أسطرة" الحياة اليومية بكثير من الاقتصاد اللغوي الذي يؤكد انتماءه إلى قبيلة من الكتاب ضمت قبله توفيق الحكيم ويحيى حقي وإبراهيم أصلان، والأخيران هما الأقرب إلى مزاجه في التعامل مع العادي ورفعه لدرجة "المدهش" المفارق للواقع.