هنا في وسّط غاباتِ الحياة، في زحمةِ المال والنفط وناصحات السحاب، تفتقد السماء إلى طيور الحريات، كتلك التي تُحلق في سماء العالم وضمن شروط حيوات الألفيّة الثالثة، فالحريات مقرونة بالوجود ولاسيما ما يتعلق منها بالحياة كالحريات الشخصية وحرية التعبير وحرية التفكير وحرية التنفُّس وحرية الحركة...وهذه المقالة مكوِّن من مكوناتِ نسيج حروف وكلمات، فلتَّت من زنزانة الاعتقال لتقول نقيض ما ترتكبه وسائل نشر محكومة بأمرِ الحاكم والمليشيا واللاهوت...بلَغت طريقها للنشر، خارج السْسّتم الرسمي...
***
مثل كذبة خريفيّة بموسمٍ رمادي، يصحو العالم يوميًا، صبحًا ومساءً على أخبار، معظمها من الترهات، لا تهزّ شعرة في رأس أصلع، وبعضها ترجُّ قواعد الأمم، تستفيق الكرة الأرضيّة كلّ يوم مصحوبًا بخبرٍ في كلِّ دقيقة...انقلابٌ عسكري في أفريقيا، انفجار الموقف بأوكرانيا وحربًا أشبه بالعالمية مهدِّدة القارة، بايدن قد يلجأ للخيار العسكري مع إيران، اكسبو دبي يحقّق معجزة، العالم مهدَّد بموجة جديدة فتاكة من متحوِّر كورونا، انفجار الوضع في الخليج...عناوين تتصَدّر الصحف والوكالات العالمية ومن بينها عنوانٍ خطير بدرجة يطير عروش، عنوان هزَّ العالم مثل عشرة أيام هزَّت العالم...رغم كلّ هذه العناوين البراكين، ظلَّ عنوان السيدة اللبنانية التي احتفظت بعلبة فوط صحيّة هو الذي هزَّ العالم كبركان نيوزيلندا!!!
أكبر سرقة بتاريخ لبنان والمنطقة، أرَّختها سنة 2021 هي سرقة علبة فوط صحيَّة، فاقت بحجمها سرقة مصرف لبنان المركزي، وفاقَت سرقة حكام العرب لشعوبهم، وتفوَّقت على سرقة القرن الماضي العالمية...
والدليل لا أحد تطرق لتلك السرقات بنفسِ الحجم الذي فاق فيه خبر قيام سيدة معوزة، اضطرتها حاجة الحرمان، لانتزاع علبة فوَّط صحية، أن تكون عناوين الأخبار وأهم خبرًا يحتل صدارة العام 2021 ...هكذا تختَّتم السنة بعنوان جدير أن يكون على رأس الأحداث التي تؤرّخها السنة المنتهيّة...تسرق وطن أم تسرق فوط صحية، نكون أو لا نكون، تأتي على العالم العربي أزمان تؤرخ فيها الحوادث بالفوّط الصحية، وهنا لابد من فتح السجلات التاريخية والعودة بالزمن إلى عصر ما قبل اختراع تلك الفوّط وفهم الأسباب السياسة والاجتماعيّة والفسيولوجيّة والسيكولوجيّة للتعرُّف على دوافع العصر حينذاك وأدت لهذا الاختراع وربطه بالعصر الذي تُحاسب فيه امرأة اضطرتها الدورة الشهرية، في بلدٍ أُفقِر حتى كاد يصبح فيه الفقر عذرًا لتبرير سرقات الكبار ومعاقبة من ألجأتهم الحاجة إلى سرقة حقهم، لتبرِّر سرقة البنوك والمؤسسات والدول بينما يُشهَّر بامرأةٍ ألجأتها الحاجة والحرمان أن تنتزع علبة فوط لتداري وضعها النسوي وتُعاقب بالتشهير والقصاص لأنَّها فقط انتزعَت حقها عندما امتنع بلد بحاله من منحها علبة فوط صحيّة...
منظر مرعب، مخيف، مزلزل، ذلك الذي صورتهُ الكاميرات وصيغ حوله إعلان، وبث في وسائل الميديا، حين قام رجال الأمن، وأي أمن في وطن فُقِد فيه الأمن، من إفزاع امرأة اختبأت تحت قاعدة سيارة وهي تحتضن علبة فوط صحية، تصرخ وتصيح برعبٍ تملكها بأنَّها المرَّة الأخيرة...ماذا أرى؟ شيءٌ كالجنون، مثل الكذبة التاريخية التي صنعت من العالم صورة مغايرة للحقيقة، كذبة اسمها السرقة، عندما تدان سيدة سحقها الفقر وتبرئ ساحات سراق البنوك والثروات والأمم...منظر غير مسبوق ليس بلبنان فقط، بل بالكوكب كله عندما تحوَّرت الحقيقة بهذا الحجم من التشوُّه الذي نسف أعمدة الحكمة التي أُقيم عليها العالم...
تاريخيًا وقبل عشرين سنة منصرِمة وتحديدًا 01 سبتمبر 2017 - 11:00 انفجرت بالأفق حادثة سطو ما تعتبر سرقة القرن عندما تم السطو على مكتب بريد فراو ونستر في زيورخ. أذ ستولى اللصوص على مبلغ 53 مليون فرنك في واحدة من أعظم وأشهر السرقات في التاريخ بسويسرا، وشكلت منذ حينها مادة خام لأهم أفلام الدراما الغربية بمادة السرقات المثيرة، وحتى لا نخرج عن إطار الخبر اللبناني وأعتبره الخبر العربي والعالمي بنفس الوقت، نعود لسرقة علبة فوط صحية، علبة واحد فقط، لأنه لا يعري وضع لبنان فحسب وإنما خريطة بكاملها في المنطقة، فالخبر يكشف عن كثير من تناقضات سرياليَّة بدول بالعالم العربي وما لبنان سوى مختبر لهذه الخريطة الشرق أوسطيّة من إيران وتركيا إلى سوريا والعراق واليمن والخليج، ولكن نبقى في التاريخ اللبناني الذي هو لُبّ هذه القضيّة‘ فأذكِّر بأهم سرقة سجلها تاريخ لبنان وكانت إبان الحرب اللبنانية عام 1976 عندما اقتحمت مجموعة مسلحة البنك البريطاني للشرق الأوسط ببيروت ونهبت 25 مليون جنيه إسترليني...
ثم تلى ذلك مسلسل طويل ارتبط بأسماء زعماء عرب حكموا بلادهم وحين غادروا الكراسي ظهرت الأرقام الخياليّة للسرقات وكانت بمثابة أخبار في الصحف العربية، تخيَّل أنَّها جذبت بعضها أعجاب قراء الاخبار العرب واعتبروا تلك الأسماء والأرقام ليست مجرَّد سرقات للأمم التي تولوا حكمها، بل دهاء جلب الاعجاب...ولم يتعرّض يومها حسني مبارك أو زيد العابدين بن على أو حكام آخرون أحياء نشرت الصحف العالمية أرقامًا فلكيّة عن ما أسموه أملاكهم الشخصية التي تجاوزت ميزانية دولهم ذاتها، وطبعاً بعض الأمم، لا فرق بين صندوق الدولة وصندوق الحاكم، فالجيب واحد ولا محاسب، فهذه لا تسمى سرقة، ثم أضف عليهم المنظومات الداخلة في جغرافيّة الدولة، كالأحزاب والمليشيات وحكام المصارف المركزية والبطانات التابعة للحكام، فترى العجاب لأن تلك الأرقام لا تدخل في قاموس السرقات مثل السيدة التي حازت على علبة الفوط الصحيّة، تم التشهير بها على اعتبارها سرقة القرن!!
تعالوا نقرأ المشهد من بدايته...
امرأة محرومة في بلدٍ تمّ افقار سكانه واغناء حكامه، ماذا صنع فيه الفقر والحرمان؟
عندما تمرّ امرأة بدورة الطمث بأي زاوية أو ركن بالكوكب الأرضي، فهذه مسألة بديهيّة أنها بحاجة إلى علبة فوط صحيّة، وهذه متوفِّرة بكلِّ مخزن بكلِ حي في أي مدينة وبسعر متوفّر ولم يحدث في التاريخ أن أُعلن عن سرقة علبة فوط صحيّة، لكن عندما تعلن امرأة سرًا في بلد ما عن تعرُّضها لدورة الطمث، وتكون بزمن الكورونا محتجَزة بقانون الطوارئ، ولا تملك بالوقت ذاته سعر هذه العلبة التي أصبحت لها بمثابة حياة أو موت، لأنك كرجل أو حاكم مصرف مركزي أو رئيس وزراء أو حاكم دولة، سواء كانت ملكيّة أوز جمهورية، قد لا تعنيك مسألة هذه المرأة التي في وضع الحياة والموت، عندما تنزف ولا تسطيع وقف النزيف، ويصادف أنها لا تملك عملة محلية أو أجنبية لشراء تلك العلبة المتوفِّرة بديهيًا لكلّ امرأة بالكون، ولكنها هنا في هذا البلد الذي كان يُسمى منذ حقبة بسويسرا الشرق، توجد امرأة محرومة من الحصول على هذه العلبة البديهية، فماذا تفعل؟ إذا لم تعاني أيها القارئ من نزيف الطمث فلن تُدرك ولو بعد تعذيب مبرح بسجن دكتاتور فاشي، جوهر هذا النزيف، وربما طرحت على نفسك سؤلاً فلسفيًا: لماذا صنع الله بالمرأة هذا العذاب؟ حينها ستدرك القوة المُتعسِفة التي دفعت هذه المرأة العربية لأن تنتزع علبة فوط صحية وتعتبرها حقها وتخرج لتلتصق بها بعد ذلك تهمة السرقة وتتضخّم التهمة حتى تبلغ حجم سرقة مصرف مركزي بما فيه من ودائع الآخرين ولا ينال ذلك الشرف العظيم، شرف السرقة!!
هذا العنوان، مستوحى من كوكب لبنان وينطبق على المجرَّة العربية الكبرى...اليوم لبنان وغدًا غير لبنان، مثلما الكرة الأرضية مدوَّرة، كذلك الكرة العربية مدوَّرة ويمكن أن يأتي الدور على أيّ دولة تنتهج خط لبنان وتُلقى من قاموسها عِبارة شعب محكوم وتستبدلها بعِبارة منظومة حاكمة سيكون مصيرها كلبنان، لا نرمز للبنان ولا نستهجن بلبنان اطلاقًا، فشعب شبلي شميل وجبران خليل جبران لا يستحق هذا الوصف ولكنها المنظومة السارقة التي قبضَت على سيدة تخفَّت تحت سيارة لأنَّها لم تجد من يحميها ويوفِّر لها حقها عندما أرادت فوط صحيّة ولم تجدها ولبنان بحالة صعبة، فسعر الفوط الصحية ارتفع 500% فتجرأت السيدة وانتزعت حقها فاعْتُبِرت سارقة! وعوقبت بينما المنظومة الحاكمة التي سرقت البلد بكاملهِ والتي صنعت هذه البيئة الصعبة للسيدة بعيدًا عن المحاكمة...
تقول ناشطة لبنانية "الفوط الصحية مش هي العيب؛ هني العيب! مش المشكلة بأنهُ حزب جنبلاط عم يوزع فوط صحية تحديداً ... وهيدا مش مستوى متدني أكثر من العادة.. لأنه العيب لهون وصلنا. نحن عنجد لهون وصلنا ونسبة كبيرة قُدّرت ب 66% من النساء ب لبنان عم يعانوا للوصول لمستلزمات الدورة الشهرية."
"وأكّدت ناشطات نسويّات بدورهن، على أنّ العيب ليس في الحديث عن الدورة والفوط النسائيّة، بل العيب في عدم توفيرها للنساء نصف المُجتمع، وأساس بُنيانه"
هذه صورة انعكاسيّة لواقع دولة ليس مستبعد أن تكون دول قادمة بالطريق إذا ما ظلَّت المنظومات العربية الحاكِمة الخاضِعة لمصالحها ولسرقاتها ولأزلامها أن يكون مصيرها كمصير دولة الفوط الصحيّة...
مع التقدير والاجلال للشعب اللبناني العظيم، الشعب الذي خرج منه شبلي شميل أوَّل من أدخل نظرية داروين، النشوء والارتقاء إلى العالم العربي هذا الشعب لا يستحق إلا الانحناء له على ما قدمه للعالم العربي وإذا كان اليوم بهذا الموقف فلأن الجلاد والسارق والمغتصب للسلطة هو من يحكم... ولن يستمر ذلك وليكن هذا الوضع درسًا للدول العربية ولكلّ شعب يستسلم للمنظومات الحاكمة التي تسرقه...
دولة أو لا دولة، نصف العالم العربي ينتهي به المطاف عند ناصيّة شبه الدولة أو ظلَّ الدولة ونصف العالم العربي يقف عنده قطار العصر في المنتصف ولا يعرف الركاب لماذا انتهى القطار عند المنتصف ولم يبلغ محطة العصر؟ لأن هناك نصف دولة فالنصف الآخر أما رهن العسكر أو رجال الدين أو قطاع الطرق وبالتالي لا يوجد فكر ولا فلسفة ولا حقوق ولا طريق يمرّ بالحرية والاستقلال الذي تعيشه الشعوب الحرَّة، لذلك هناك لا دولة ونصف دولة ودولة لم يكْمل القطار طريقه إليها!!! فلا عجب إن وُجِدت دولة تخلو من الفوط الصحية!!!
محترم شعب لبنان مثلما محترم شعب ليبيا مثلما محترم شعب اليمن... محترمة كلّ شعوب الكرة الأرضية...لكن الخلَّل عندما تتحكم الميلشيات أو المنظومات الحاكمة فإن الدولة تنقص وقد تكون ربع دولة أو نصف أو لا دولة...
تقول ناشطة لبنانية "الفوط الصحيَّة مش هي العيب؛ هني العيب"!!!